ابني صديقي، أبي صديقي
لا أبالغ إذا قلت لكم إن نصف المشكلات الأسرية بين الأبناء وآبائهم –في مرحلة نهايات الصبا وبدايات الشباب- قد تحل إذا نجح الآباء في أن يكونوا أصدقاء لأبنائهم، وأن نصف معاناة الأبناء التربوية ستنتهي إذا نجحت تلك الصداقة بين الأب وابنه، وأن نصف القلق المكنون داخل نفوس الآباء وعدم الثقة الموجود في قلوب كثير منهم سيذهب ويتلاشى.
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -
لا أبالغ إذا قلت لكم إن نصف المشكلات الأسرية بين الأبناء وآبائهم -في مرحلة نهايات الصبا وبدايات الشباب- قد تحل إذا نجح الآباء في أن يكونوا أصدقاء لأبنائهم، وأن نصف معاناة الأبناء التربوية ستنتهي إذا نجحت تلك الصداقة بين الأب وابنه، وأن نصف القلق المكنون داخل نفوس الآباء وعدم الثقة الموجود في قلوب كثير منهم سيذهب ويتلاشى.
أعلم جيدًا أن الموضوع ليس جديدًا على أعين القراء وأسماعهم، كما أعلم جيدًا أن مطلبًا عزيزًا على الآباء هو أن يكونوا أصدقاء لأبنائهم، وأن مطلبًا مقابلًا في قلوب الأبناء أن يرضى عنهم آباؤهم، لكنني كذلك أعلم أن معظم محاولات إنشاء علاقة صداقة بين الآباء وأبنائهم تبوء بالفشل، وأنها تنقلب يأسًا من الإصلاح، وتصير بعد فترة بعدًا وانطواءً، هذا كله برغم المقدار الكبير من المحبة المغروسة في قلوبهما لبعضهما! لندخل مباشرة إلى الموضوع الذي أريد نقل صورته إليكم:
هناك صورة مرتكزة في عقل الآباء، أن أبناءهم لن يكبروا في أعينهم، سيظلون هم الصغار الذين كانوا يحملونهم على أكتافهم، ويشترون لهم الحلوى، كما أن هناك صورة مقابلة مرتكزة في أعين الأبناء عن آبائهم، بأن هناك فارقًا واسعًا في العمر والرؤية، وأن الأب دائمًا يريد ويأمر، وأنه دائمًا لايهتم بالجانب الآخر من التعامل مع ابنه. الصورة سلبية إذن من الجانبين، فماذا كانت النتيجة؟!
النتيجة غالبًا في معظم العلاقات بين الأب وابنه فتور، وسعي راكد لأداء بعض الحقوق، كل تجاه الآخر، مع شعور دائم بتقصير كل تجاه الآخر، وعدم رضا يسيطر على تلك العلاقة، وقد تتطور في أحيان ليست بالقليلة إلى شكل من أشكال التنافر بين الشخصيتين.
عندنا في البيت إذن شخصيتان مؤثرتان ومهمتان، الأب بما له من هالة الوقار والاحترام، وكبر العمر، وسطوة النفوذ، والقدرة على الإنفاق، والابن بما له من أثر في حركة الأسرة، وبما يحيطه من هالة رجاء تحقيق آمال والديه، وبما يعنيه وجوده من معنى حياتي إيجابي للوالدين وباقي الأسرة، لكن الشخصيتين لا خطوط رابطة بينهما.
نحتاج الآن أن ننسج خطوط تواصل بين الشخصيتين، بما يحفظ لكل منهما مكانته، كما نحتاج أن نجدد نقاط التلاقي بينهما، وأيضًا نحتاج أن نفتح أبوابًا جديدة لعلاقة متجددة بشكل إيجابي، وأخيرًا نحتاج أن نبحث عن إطار مناسب للتعامل العاطفي بينهما بما يتيح لهما التعبير عن مشاعر الأبوة والبنوة المخبوءة تحت هذا النفور.
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، ولو دار بنا الزمان، لقلنا للآباء لابد أن تحرصوا على القرب من أبنائكم لفترات طويلة بقدر الإمكان في مرحلة الصغر، وأن يستمروا في ذلك في المرحلة الحساسة المؤثرة في تلك العلاقة وهي مرحلة ما بين 14 عامًا إلى 20 عامًا تقريبًا.
لو دار بنا الزمان لنصحنا الآباء أن يشاركوا أبناءهم ألعاب، وتنزهات، ويتركوا لهم حرية في محادثات فردية بينهما، ومساحات حرة في التساؤلات والأسئلة حول كل ما يشغلهم، ولنصحنا الآباء بأن يبنوا أسسًا ثابتة لعلاقة ستنمو وتكبر فيما بعد.
لو دار بنا الزمان لمنعنا الآباء أن يعاقبوا أبناءهم بالضرب القاسي أثناء الغضب، أو بالإهانة الشديدة، أو الانتقاص أمام الناس أو الأصدقاء أو غيرهم.
ولنصحناهم أن يحسنوا معاملة الأمهات أمام الابناء، وأن يجعلوا مشكلاتهم وخلافاتهم مع أمهاتهم في غرفة مغلقة، فكل ما سبق يتراكم تراكمًا نفسيًا سلبيًا، وينبني كجدار نفسي فاصل تظهر آثاره كلما بدأت شخصية الابن في الكبر والقوة والقدرة على الاعتماد على النفس، والقدرة على المناقشة والجدل، والقدرة على بناء صداقات ومعارف، وغيره، دعونا الآن في واقعنا، كيف سنبني ما سبق وتحدثنا عنه من خطوط تواصل ونقاط تلاقي؟!
ابتداء يجب أن نقنع أنفسنا بقيمة أبنائنا، والحديث نفسه يمكن أن يوجه للأبناء، أن يقنعوا أنفسهم بقيمة آبائهم وقدرهم ومكانتهم، وكنت كثيرًا ما أنصح أن يتحدث الآباء لأبنائهم عن تاريخ حياتهم وعطائهم. قناعتنا بقيمة بعضنا تنشأ بملاحظة الإيجابيات الشخصية، ودائمًا ما كنت اتساءل لماذا نلاحظ السلبيات في بعضنا ونقف عليها في حين أننا نغفل تمامًا عن الإيجابيات؟!
هل يدرك الآباء أن كثرة نقدهم لأبنائهم وحديثهم عن الشخصية المثالية يجعل الأبناء يتساءلون تلقائيًا عن تلك الشخصية المثالية في الآباء، وحينئذ سيبحثون عن السلبيات أيضًا، وفي أحيان كثيرة لن يجدوها!
نحتاج إذن أن نبحث عن الإيجابيات في أبنائنا لنقتنع بها في أنفسنا، وستكون هذه هي البداية في معرفة قيمة الابن، تلك الإيجابيات التي سيجدها الأب في المبادىء والقيم أو في العبادة والدين أو في التصرف والسلوك أو في الصفات الشخصية أو حتى في المواقف العابرة.
كذلك فنحن بحاجة إلى فتح آفاق التعبير النفسي أمام أبنائنا، نعبر لهم عن قيمتهم عندنا، عن إعجابنا بإيجابياتهم تلك التي انتبهنا لها، نعبر لهم عن قدرهم في قلوبنا عن محبتنا لهم، عن كونهم حلمنا المتحرك وأملنا المتمثل، لماذا يصمت الآباء دائمًا في وجوه أبنائهم إلا في الكلام الجاف والنصائح المطولة؟!
ثم تأتي خطوة أخرى هامة للغاية، هي خطوة الثقة، أعني بها أن نعبر لهم عن ثقتنا فيهم، نصرح لهم تصريحًا واضحًا (يابني أنا اثق بك) ونكرر ذلك على مسامعه كثيرًا.
لست أرفض مراقبة الأبناء، بل إنني أحبذ مراقبتهم ومتابعتهم، والحرص على معرفة صديقهم وطريقهم وفيم يقضون أوقاتهم، لكن يجب علينا أن نفعل ذلك بحكمة وذكاء، حكمة تجعلهم يصدقون معنا، وذكاء يجعلهم لايشعرون بالضغط عليهم منا. الوسيلة المثلى التي تجمع ذلك كله هو أن نبث فيهم أننا نثق فيهم، نثق في أخلاقهم، وفي تحملهم المسؤولية، وفي حسن تصرفهم، وفي ذكائهم، ودينهم، لست معوذًا هنا أن أقول إن هذه الثقة هي ثقة الحكماء، الفطنين، الذين يعرفون أبناءهم وطبائعهم، ويفرقون بين الثقة والتسيب، فلا تنقلب ثقتهم فيهم غفلة عنهم، أو دعمًا لأخطائهم.
ماذا نتج عندي الآن في حالة نجاح الأب في الخطوات السابقة؟!
نتج عندي أب وابن، كل منهما يعرف إيجابيات الآخر، ويدرك حقيقة مميزاته، فهو مقتنع به شخصيًا، كذلك فهناك ثقة متبادلة بدأت في النشوء، وهناك أبواب من العاطفة بدأت في الانفتاح نتج عنها بعض التعبيرات الدافئة بينهما.
لايزال جدار الفصل النفسي موجودًا بينهما، فما العمل؟
دور هدم هذا الجدار يقع بالأصالة على الأب، ومعوله الرئيس هو المحادثات الطويلة، البعيدة عن مناطق الخلاف، التي يستمع فيها الأب جيدًا مبديًا تقديره لحديث ابنه، ويتكلم فيها الأب قليلًا متحدثًا مثبتًا صحة كلام الابن، ذلك جيد جدًا ومؤثر، كذلك من معاوله أشكال الاعتراف العابرة من الأب إلى ابنه بالخطأ في بعض المواقف التي مرت بالأسرة أو بالأب، عبر حكايات التاريخ التي تحدثنا عنها، هذا يجدي نفعًا بشكل كبير إذا كان يحصل في لقاءات مفردة أو في متنزهات واسعة أو جلسات مفتوحة بينهما وحدهما.
كذلك من معاوله، تقليل كلمات العتاب، واستبدالها بكلمات الثناء، وتقليل محاضرات النقد واستبدالها بأحاديث الأمل، وتقليل البحث عن خصائص الأبناء وخصوصياتهم، أو السؤال عنها، والاكتفاء بالمراقبة الحكيمة، مع الدعم النفسي الحثيث، والاكتفاء بالتغافل عن إظهار الاهتمام الثقيل.
في الأخير يجب أن ندرك أن بناء الصداقة لا يتكون في مرة أو اثنتين من تطبيق لتلك الخطوات، فليس الأمر تجربة معملية، إنما هي علاقة اجتماعية نفسية، تتغير بالتراكم الإيجابي.
ولست في حاجة أن نذكرك أيها القارىء الكريم أن التوفيق الإلهي، والدعاء الدائم، وتحري الحلال في مأكلك وكسبك، واستشارة الخبراء،علامات مضيئة في طريقك نحو تربية ناجحة لولدك.
د. خالد رُوشه