المثقف الفارغ
إبراهيم محمد صديق ( الأراكاني )
حين يغيب الهدى يستبدُّ العقلُ ويكون أداةَ طغيانٍ وتجبُّر على الله الخالق، والقرآن وحدَه مَن يَرجِع للنفس طمأنينتَها وسكينتَها، ويخلِّص الأمَّة من هذه التَّبعيَّة المهينة للفِكر الغربي، حينما نعود إلى القرآن نَستطيع أن نَنطلِق بأسسٍ صحيحة، ومبادئَ ثابِتة، وفِكرٍ متوازن، وبهذه سنستطيع بإذن الله أن نرمِّم بنيان حضارتنا.
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - دعوة المسلمين -
تزامنًا مع المدِّ الثَّقافي الغربي، ونَتيجة لانبهار العالَم العربي بالمكينة المعرفيَّة الغربية، انفجرَت لدينا ثَورة في القراءة - وإن كانت مبدئية - وهذا تشهد له التقارير السنويَّة لمعارِض الكتب في العالَم العربي؛ حيث إنَّ العدد ازداد بشكلٍ ملحوظٍ بعد أن كانت المراكز الثَّقافيَّة ودور النَّشر تعاني من القارئ العربي، وهذا التحوُّل الحضاري المذهِل في العالَم العربي ليس من الطَّبيعي ولا من المعقول أن يمرَّ دون أن تَتْبَعَه تغييراتٌ عميقَة في بِنية العقل العربيِّ، وفي تشكيل نفسيَّته ورؤيته الفِكرية والاجتماعيَّة، وقد تمخَّضَت الثورة لتنتج لنا تفاوتًا في إدراك ومعالَجة القضايا بين شرائح المجتمع؛ بل حتى داخل الشريحة الواحدة.
ومن أبرز ما أنتجه هذا التحوُّل - خاصَّة في البيئات الإسلامية - مشكلةٌ تمسُّ مبادئنا وقِيَمنا، ويصاب بها المثقَّفون أو القَرَأَةُ في بدايات الطَّريق غالبًا، وهي نتيجة للانفِتاح المفاجئ على كلِّ الثقافات بأنواعها؛ وهي مشكلة الإعراض عن أهمِّ كتاب يَجب أن نَقرأه، وهو كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا شكَّ أنَّ هذه الظَّاهرة لها أسبابها ومآلاتها الخطيرة على الفردِ المسلم، وبالتالي على المجتمع الإسلامي بشكلٍ عام؛ إذ إنَّها تخلق لنا مجتمعًا مثقفًا فارغًا من الإيمان.. فارغًا من المبادئ.. فارغًا من اليقين، حينها تُصبح هذه الطَّبقة المهمة جدًّا في المجتمَع هي مَن تُسَوِّقُ لمبادئ وقِيَم تَهدم ثوابت ديننا الحنيف.
أين المشكلة؟
ابتعادنا عن كتاب الله أَنتج لنا الحداثةَ القديمة والحديثة، وأنت حينما تجالِس الكثير من هؤلاء المهتمِّين بالثَّقافة والمعرفة البعيدين عن الوحي المَعصوم، تجده كَثير التَّشكُّك في الدِّين، ويتلقَّف أيَّ شبهة، ويفرح بأيِّ سبب قد يجعل الناسَ يشكِّكون في الإسلام ويبتعدون عن ثوابته وحقائقه، وكأنَّه لن يكون مثقفًا ما لم يَثُر على دِينه واعتقاده الثَّابت، ويستهزأ بطريقةٍ أو بأخرى بتعاليم دينه، ولا يكاد يَترك فرصةً واحدة للهجوم على الإسلام والإسلاميِّين أو التعريض بهم إلاَّ ويقتنصها، ولا شكَّ أنَّ الانبهار وضَعف اليقين من أكبر أَسباب ذلك، وأنا هنا لا أتحدَّث عن المنع من القراءة والتعرُّف على ثقافات أخرى تخالِف ثقافاتنا؛ وإنَّما أحاول وَضع يدي على هذه الظَّاهرة بين أوساط المثقَّفين أو البعض منهم واستكهان أسبابه، ومحاولة سدِّ هذه الفَجوة الحاصلة بين الشباب وبين هذا الكتاب العزيز.
ومن المعلوم أنَّ كل ظاهرة تتشكَّل من عدَّة أسباب وعوامل، وكلَّما نجحنا في تفكيك الظَّاهرة إلى جزئيات صغيرة، عرَفنا موضعَ الخَلل، واستطعنا أن نعالِج القضيَّة بشكلٍ فيه كثير من التعقُّل والإدراك، ومن أبرز أسباب هذه الظاهرة:
1. الإدراك الغربي لأهميَّة هذا الكتاب في توجيه الشاب المسلم وصون فِكره من الزَّلل، وحين نتحدَّث عن إدراكهم هذا، فإنَّنا نستنِد في ذلك على أقوال كبارهم، فهذا جلادستون (رئيس وزراء بريطانيا الأسبق) في مجلس العموم البريطاني يحثُّ قومَه على زعزعة الأمَّة عن دينها، فيقول: "ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين، فلن تَستطيع أوروبا السيطرةَ على الشَّرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان"، ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذِكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: "إنَّنا لن نَنتصر على الجزائريين ما داموا يَقرؤون القرآنَ ويتكلمون العربيَّة، فيَجب أن نزيل القرآنَ العربي من وجودهم، ونَقتلع اللسان العربي من ألسنتهم".
لذلك دأب الغربُ على التقليل من أهميَّة هذا الكتاب، وزَرع التقليل من شأنه في جِيل الشَّباب من المسلمين، أو على الأقل الإعراض عنه وعن قراءته والاستزادة مِنه مع تعظيمه، وقد تحوَّل في نفوس كثيرٍ من الشَّباب من قوة حاكِمة دافِعة للتقدُّم بثباتٍ، حتى أصبح مجرَّد كتاب يَحوي بعضَ الذِّكريات، أو هو لأداء بَعض الشعائر الدينيَّة كالصلاة، وغفلوا عن قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: 89]، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: 9]، ولاحِظِ التعبير القرآني اللَّطيف حين يقول: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، وليس للقويم فقط.
2. التماشي مع المزاج الغَربي: فبعض الشَّباب حينما رأى التقدُّم العلمي والتكنولوجي في الغرب، خضع للثَّقافة الغربيَّة عمومًا، ورأى أنَّ ما جاء منه صالحٌ ولا يناقَش فيه، وهي شُبهة قديمة ردَّدها طه حسين ومن تَبِعه، وهي: أنَّنا لا فلاح لنا ما دمنا لا نتَّبع الغربَ، ليس في الأمور الدنيويَّة فقط؛ بل حتى في القِيَم والمبادئ والأخلاق، وهو ما جرَّ الكثيرين إلى مُستنقعات الأفكار الملحِدة والمناوِئة للفِكر الإسلامي.
الذي يَعنينا هنا هو أنَّ الانهزام أمام الحضارة الغربيَّة صاحَبَه مزاجٌ مشكِّك في ثوابت الدين ومنطلَقاته، بل ومقاصده، ومن ذلك الإعراض عن المصدر التَّشريعي الذي يستمدُّ منه المسلمون عقيدتَهم وشريعتَهم؛ حيث إنَّ المعادلة لديهم هي: المسلمون متخلِّفون، وهو مستمدٌّ من الإسلام الذي يتمثَّل في القرآن، فلا قِيمَة له، وهي معادَلة تُناقَش في مواضعها، ويهمُّنا هنا الوقوف على السبب فقط[1].
3. غير ملائم للعَصر: وهي دعوى لطالما ردَّدها محمد عابد الجابري وأركون وعبدالمجيد الشرفي ومَن تَبعهم؛ حيث قرَّروا أنَّ القرآن صالِح لزمانٍ معيَّن، ويَنبغي علينا أن نبدِّل معانيه وفقًا للروح المعاصِرة، وتماشيًا مع الحضارة الغربيَّة؛ ليكون الإسلام ملائمًا للغرب، وهذا التفريغ للنَّصِّ القرآني من المعاني أورَث عند كثيرٍ منهم عدمَ اهتمام بالقرآن ولا بقراءته وتدبُّره، وما الفائدة من تدبُّره إن كانت معانيه قديمة لا تَصلح لهذا الزَّمان؟! فكان لهؤلاء الرواد في الثَّقافة المعاصرة دورٌ كبير في تَزهيد الشباب في قراءة القرآن وتدبُّره والعيش معه ومع معانيه.
4. ضيق الوقت: وهي من أعجب الأسباب التي تُبعد المسلِم عن تلاوة كلام ربِّه والنور الذي يضيء له طريقَه نحو السعادةِ الأخرويَّة، وكم من كتب وروايات نَقرؤها ونَختمها ثمَّ ندَّعي أن الوقت ضيِّق عن قراءة بِضع صفحات من كلام الله؟! رغم أنَّنا موعودون بالأجور العظيمة، وتمدُّنا هذه القراءة من المعرفة والإيمان والسَّكينة ما لا تمدُّنا به أيُّ قراءةٍ أخرى، والأعجب من ذلك كلِّه أن نَجري خلفَ المهاترات الرياضيَّة، ونتتبَّع القيل والقال، ونضيِّع الساعات الطوال في نقاشاتٍ لا تقدِّم للنَّفس قبل الغير شيئًا، ثمَّ ندَّعي أنَّ الوقت ضيِّق على قراءة القرآن، ممَّا نأسى له أن نَجد شبابَنا يقرؤون للشَّرقي والغربي، ويحفظ كلام الحكماء والمؤلِّفين، ولا يستحضر بِضع آياتٍ من كلام أحكم الحاكمين، ولو عرفنا كيف أنَّ هذا القرآن يَطرح علينا من البركة والطمأنينة، والسَّكينة والإيمان والأجر، ويجعل حياتنا العمليَّة منتِجة، ويَدفعنا نحو العمل والجد والمثابرة - لَما تركناه لَحظة، لكن قلوبنا قد غفلَت، والله المستعان.
لماذا القرآن؟
1- حتى لا نكون ممَّن هَجر القرآن، والذين قال الله فيهم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وهذا سببٌ كافٍ للمسلِم المعظِّم لله ولرسوله، والمدرِك لمآلات هَجر القرآن وما نُحرَم به من خيرٍ وبركة.
2- الإنسان جسد وروح، واتِّباعه للشهوات لوجوده في الأرض، وهي المادَّة التي منها خُلق الجسد، والروح أَسمى؛ ولذلك هي تصارِع الإنسان وتَمنعه من ارتكاب الكثير من المحرَّمات، وهذه الروح تحتاج إلى أن تغذَّى حتى نسمو ونرتفع من دَرَك الشهوات إلى التلذُّذ بالعبادات، ولا تَسمو الرُّوح إلا باقترانها بالأمور العُلويَّة؛ وهي الوحي من كتابٍ وسُنة.
3- هو الكتاب المعصوم المحفوظ من أيِّ زَلَلٍ أو خطأ، وفيه الهدى والحقُّ الكاملان، ونحن في سيرنا إلى الله تَعترضنا الكثير من الشُّبهات، وتَعصف بنا الكثير من الشكوك، والله يَعصمنا بهذا القرآن؛ فهو يعيد لنا التوازنَ الفِكري، ويحفظنا من الانجرار إلى أيِّ شبهة، بل ننطلق بمبادئ صَحيحة راسخة في قراءاتنا للأفكار الأخرى، ويكون لنا نورًا وهدًى نَستطيع أن نميِّز به بين الحقِّ والباطل، فالقرآن عاصم من الشهوات والشبهات.
4- تَفرض قراءة القرآن وتدبُّره علينا يقينًا بوعود الله، وما للمؤمنين من هباتٍ وجنَّات ونعيم، ويقينًا بوعيده، وما لأهل معصيتِه من عقوبات، فتُصبح لدينا موازنة بين الدُّنيا والآخرة، ويعود إلى حياتنا بعضُ التعقُّل والإدراك؛ حتى نَنجو من الانجرار خلف ملذَّات الدنيا، فبالقرآن نَسير متَّزنين عادلين، نطلب الدنيا للآخرة، ولا نَترك الآخرةَ للدنيا.
5- حتى لا نكون عِبرة كما كان اليهود عِبرة مع التوراة؛ فقد وَصف الله حالَهم مع التوراة وكأنَّه يصف حالنا نحن مع القرآن: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}[الأعراف: 169]، قال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذمَّ الله به هؤلاء موجود فينا.
أخيرًا:
حين يغيب الهدى يستبدُّ العقلُ ويكون أداةَ طغيانٍ وتجبُّر على الله الخالق، والقرآن وحدَه مَن يَرجِع للنفس طمأنينتَها وسكينتَها، ويخلِّص الأمَّة من هذه التَّبعيَّة المهينة للفِكر الغربي، حينما نعود إلى القرآن نَستطيع أن نَنطلِق بأسسٍ صحيحة، ومبادئَ ثابِتة، وفِكرٍ متوازن، وبهذه سنستطيع بإذن الله أن نرمِّم بنيان حضارتنا.
__________________
[1] راجع سلطة الثقافة الغالبة؛ لإبراهيم السكران.