القلب ووظائفه في الكتاب والسنة

إن لله تبارك وتعالى أفعالاً في قلوب عباده، يعطيها لمستحقها إذا بلغ مرحلة من مراحل القلب، سواء كانت المرحلة رقياً أو دركاً. فالطهارة والتزين والتثبيت والهداية، من خلق الله أو إنشائه في القلوب المترقية، وللدرك أحوال أُخرى، ولا تتفق القلوب على المودة والألفة إلاَّ بالمحبة الخاصة التي وعد الله أهل التقوى أن يؤتيهم كفلين منها.

  • التصنيفات: الإسلام والعلم -

من كتاب القلب ووظائفه في الكتاب والسنة:

أما بعد حمد الله الذي هو فاتحة كل كتاب، والصلاة على رسله التي هي خاتمة كل خطاب، نشكره جلّت عظمته أن حبانا بنعمه، وأغدق علينا من فضله.

كل صنعة يخترعها العبد، لا بد أن تحوي دليلاً يوضح كيفية العناية بهذه الآلة، وطرق وقايتها، وأسباب إتلافها، وكذلك الإنسان، هو صنعة الخالق جلّت عظمته، أعطاه ينبوع الإسلام الأول، يُقلب في ثناياه ما شاء، وسيجد في كل آية من الكتاب المفصل، ما يشفي صدره، ويعالج قلبه، ويجعله يسيطر بروحه على بدنه، ويسمو بنفسه فوق حسه.
وكان الهدف الأسمى من هذا البحث، معرفة هذه اللطيفة الربانية، المرتبطة ارتباطاً معنوياً باللحم الصنوبري الشكل المودوع في الجانب الأيسر من الصدر، ولها به تعلق وثيق، ولا أقصد بالمعرفة الكشف التام، إنما لمسات منيرة أوضحها الذكر الحكيم والسنة المطهرة، واقتبستها منهما، مع الاستدلال والاستئناس بأقوال الأكابر من العلماء، على مختلف الطبقات والأشربة، مع التحفظ عن المجاز ومشتقاته.

أوضحت بقدر الإمكان معاني القلب ومترادفاته، والتوضيح يُظهر الفوارق. فالفؤاد اشترك مع القلب في الصغو والتقليب، وانفرد بالفراغ والرؤيا والتثبيت وغيرها، فهو جزء من القلب اختص ببعض الأحوال، من معرفة وخواطر تتقارب مع اللب حيناً وتغايره أحياناً، كما أن العقل نور يقذف في القلب، يستعد به لإدراك الأشياء، وليس عيناً قائمة بذاتها، إنما التعقل عمل من أعمال القلب المؤمن الحي، وبالتتبع وجدنا أن الصدر استقل ببعض الأحوال، فهو يضيق أحياناً وينشرح أُخرى، وهو أول مقامات القلب وموضع نور الإسلام، والقلب مقرّه ومكمنه.

وبالنسبة للفطرة: توصلت إلى أنها أعم من أن تكون في قلب أو صدر، فهي تهيئة النفس لقبول الحق، وميثاق أقدم من الرسل والرسالات، ولكنها تتعرض إلى الاجتيال بالشبهة أو الشهوة، ولا حادي لها سوى الإسلام، به ترتقي إلى حقيقة التوحيد، ومع الإيمان تصور وقفة بين الحظ الأدنى والأعلى، وعلى قدره يكون النور في القلب، وبقدر عظم النور يحترق الاجتيال، وفيه تم التفريق بين الإسلام والإيمان إذا افترقا، وذكرنا بعضاً من أنوار لا إله إلاَّ الله بقدر ما صرح به الوحي.

وبتتبع أحوال القلب الحي حالة بعد أُخرى استقصاءً، بقدر ما يسر الله بين الكتاب والسنة وأقوال العلماء، مع المحافظة على لغة الذكر الحكيم، تبيّن لنا من النصوص أن أول ما يطالب به العبد بعد سلامة القلب الخشوع، حتى يترقى في الثواب ويسلم من العقاب. وبيّنا معاني ورود الحالة في كتاب الله وأقوال العلماء فيها، ثم أثر تلك الحالة على الجوارح وعلى المجتمع سلباً وإيجاباً، ومقدار دوام الحالة في الأمة، وما ينتج عن ذلك، وكيف يتم الانتقال في درجات الإحسان، ومن هو المحظوظ بهذه المكانة من الأمة، وحين ترد الحالة في اللغة تحتمل المدح والذم، فصلت لمن تكون تلك الأحوال كشدة القلوب مثلاً، مرغوبة في وقت ومرفوضة في وقت آخر، وأن من الأحوال ملكات في استطاعة العبد أن ينميها، حتى يطمئن قلبه إلى ذكر الله فيزول ما فيه من القلق والوحشة، ومن التتبع تبيّن أن أعلى حالات القلب الحي، ومنتهى الكمال، وأقصى ما تتحمله طاقة القلب، الغين عليه، وهي من مراتب النبوة التي اختص بها المفضَّل بالشفاعة صلى الله عليه وسلم.

وتبيّن لنا أن لله تبارك وتعالى أفعالاً في قلوب عباده، يعطيها لمستحقها إذا بلغ مرحلة من مراحل القلب، سواء كانت المرحلة رقياً أو دركاً. فالطهارة والتزين والتثبيت والهداية، من خلق الله أو إنشائه في القلوب المترقية، وللدرك أحوال أُخرى، ولا تتفق القلوب على المودة والألفة إلاَّ بالمحبة الخاصة التي وعد الله أهل التقوى أن يؤتيهم كفلين منها.

والإنسان وإن كان يولد بقلب سليم على الفطرة، إلاَّ أنه قابل للانحراف، لا عاصم له من وساوس الجن والأنس، إلاَّ بالتمسك بما يحييه ويرتقي به في مراتب الإيمان. وهو محل الميل و الإرادة، فإذا مال إلى الهدى فهذه إرادة الرحمن، وإن مال إلى الضلال فبغية الشيطان، والقلب المريض اتضح لنا أنه لا يخلو من أحوال: كالغل والغلظة والغيظ والإباء، وكلها مراحل كبر أو نفاق أو كفر لا يخرجان عن الملة، وفصّلت القول مستشهداً بقول السلف في هذه الأحوال، متى تكون مرضاً من أمراض القلوب، ومتى تخرج من الملة، وكيفية معالجة هذه الأمراض، مع توضيح لأثر الذنوب على القلوب، مستدلاً على ذلك بنصوص الوحي الكريم.

وحتى أوضح آخر مراحل موت القلب، فصّلت تعريف الموت وأنواعه وأوجه وروده في القرآن الحكيم، مع ذكر الآيات التي تدل إشارة إلى موته، فلا بد من الحيطة، إذ كثير من المشركين أزيحت الغشاوة عن قلبه فآمن، وهذا يعني بالضرورة: أنهم لم يبلغوا المرحلة النهائية من مراحل موت القلب، وتبيّن لنا أن هناك صفات وحالات، تمر على القلب المتهالك في المرض، فتقوده إلى الموت التام، كاللهو والغمر والإنكار والاشمئزاز والإكنان وما تابعهم من صفات، حتى يشرب القلب حب المعاصي، فتقوده إلى الطبع ثم الختم عليه، وكل ذلك راجع إلى ما كسب العبد من الخطايا والرزايا.

وتحدثت عن مقر العقل والفرق بينه وبين الفكر والنظر، وبيّنت أن التعقل عمل من أعمال القلب، وليس هناك عين بذاتها في الإنسان تسمى العقل، مستأنساً بأقوال العلماء في شرح الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، فقادنا هذا إلى أن موضع التمييز والاختيار وإلزام الحجة هو القلب، وحتى يتم التوضيح أكثر عرّفت الفهم ومراتب الناس بالنسبة لتعقل وتعريف العاقل، كل ذلك يقودنا إلى مراتب المعرفة عند الإنسان، سواء كانت معرفة مباشرة أو غير مباشرة للقلب، وظهر لنا أن زيادة أعمال الخير فَتْح من الله تبارك وتعالى، تدل على ترقي الفهم الذي يقود إلى التعقل، ولا يتم ذلك إلاَّ بزيادة الإيمان، أو بخصوصية المشرع للصفوة الطاهرة، برجحان القوة العملية الإرادية أو القوة العملية النظرية.

والمهم أن يكون العلم بتدبر وانتفاع وتصديق وطاعة، حتى يؤدي ذلك إلى تعظيم الله. أما العلم القاصر على الاستمتاع الدنيوي فقط، فهو درك يهوي بصاحبه. وتحدثت عن وسائل المعرفة غير المباشرة للقلب، كالسمع والبصر ووظائف كل منهم، بقدر ما يحتاج إليه البحث مع بيان أهميتها بالنسبة للإنسان.

أما المعرفة المباشرة فهي الرؤى والأحلام، وظهر أنه بقدر الإيمان وبرقيه تزداد المعرفة عن طريق الرؤى، وكذلك الخاطر والإلهام والتحديث، وتقييد كل معرفة بقيود شرعية موافقة لمرضاة الله، مع توضيح مراتب كل معرفة، وما يترتب على ذلك من مخاطبات ومكاشفات، وإسناد ذلك كله على أقوال السلف الطاهر، ثم الفراسة بصفتها نوع من أنواع المعرفة، وختمت أبواب المعرفة بكلام الله لأنبيائه بصفته أعلى أنواع المعارف وأشرفها، وأرقاها، مع تفصيل مستند من الوحي.

وأتمنى على الله تبارك وتعالى، أن يتبع هذه البحث ببحوث متممة تسانده وتوضحه أكثر وأجلى لتتم الاستفادة منه على ما ينبغي، ومن ذلك التوضيح التام لكل حالة تكرر ذكرها في الكتاب والسنة بتفصيل، كالتقوى والطمأنينة والسكينة، وكذلك المعرفة: فهي أنواع، كل نوع تتكون منه رسالة علمية يستفيد منها المسلمون، كالرؤى، فقد كان اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بها كثيراً، فلا بد من وضع قواعد لها مستقاة من الشرع، وكذلك التحديث والإلهام وفراسة المؤمن.

ومن المواضيع التي يحتاجها هذا البحث، معرفة النفس أحوالاً وتفصيلاً، لا دراسة عامة كما هو مشاهد، بل حَوَت من الأحوال والصفات أكثر من ثمانين حالة ما بين حياة ومرض وموت، ومدى ارتباط الحالات بالقلب، مع التركيز على التفريق بين أمراض النفوس وأمراض القلوب. فدراسة فردية يمكن أن تلم بالموضوع أمر من الصعوبة بمكان، فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في فضل نفسه، وأثبت الناس عقلاً أشدّهم اتهاماً لنفسه. نسأل الله جلّت عظمته أن يلهمنا الصواب في القول والعمل.

ومما نختم به، قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

سلمان زيد سلمان اليماني