مفهوم الأخوة
أيمن الشعبان
المفهوم الحقيقي للأخوة لا يتحقق إلا إذا قُيِّد وأضيف إلى لفظ الأخوة " في الله"، وهذا يستوجب ويقتضي المحبة والصلة والرابط هو الله، وهو شرط مهم وركن عظيم وأصل كبير.
- التصنيفات: دعوة المسلمين - الواقع المعاصر - أخلاق إسلامية -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
كلمات قصيرة وإشارات عابرة وتذكرة عاجلة، قد تُقَلِّب المواجع وتُقلِق المضاجع، لكن لا خير فينا إن لم نتناصح ونتصارح، سيما في زمن طغت فيه الماديات وانغمس الناس في الملذات، واستحسنوا الهوى دون النظر في الانعكاسات والسلبيات والمآلات!
عرفنا أن الأخوة والإيمان قرينتان متلازمتان مترابطتان لا تنفكان عن بعضهما البعض، كما أن الأخوة من أجلِّ النعم وأعظم المنح، فهي طريق السعادة وروح الإيمان ونبراس الهدى، لكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه بقوة: ما هو مفهوم الأخوة الإسلامية الذي ينبغي العمل على نشره بين المسلمين وتحقيقه على أرض الواقع؟
الأخوة في الله: هي قوة إيمانية وعلاقة نفيسة، تورث الشعور العميق بالمحبة والود والاحترام والبر والصلة والثقة المتبادلة والرحمة والوفاء، قائمة على أساس إرادة ومحبة الخير وصدق النصيحة وبذل المعروف وحسن العشرة والتعاون على البر والتقوى بين الطرفين.
فالأخوة في الله عقدٌ وثيق باطنا وظاهرا، وعلاقة حقيقية نبيلة تزيد على علاقة الدم والنسب وتفضلها، ينتج عنها ابتداء حرص وإيثار ونصرة وإحساس كبير وشعور عميق، وانتهاء ببذل المال والوقت، بعيدا عن أي مصلحة شخصية أو منفعة مادية أو مكسب دنيوي.
والأخوة في الله مفهوم شامل لكل معاني الرقي والسمو وحسن الخلق، بعيدا عن الطبقية والفوقية والانتهازية والوصولية والأنانية، بل هي مسؤولية مشتركة وتضحية حقيقية وممارسة عملية وحياة تطبيقية وسلوكيات يومية، ليست مجرد شعارات أو دعوات فارغة وعبارات منمّقة!
المفهوم الحقيقي للأخوة لا يتحقق إلا إذا قُيِّد وأضيف إلى لفظ الأخوة " في الله"، وهذا يستوجب ويقتضي المحبة والصلة والرابط هو الله، وهو شرط مهم وركن عظيم وأصل كبير، وقد لخص ذلك كله الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه لأبي إدريس الخولاني رحمه الله.
عن أبي إدريس الخولاني – رحمه الله – قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هو معاذ بن جبل- رضي الله عنه - فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك. فقال: آلله. فقلت: الله. فقال: آلله. فقلت: الله. فأخذني بحبوة ردائي فجبذني إليه فقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في.[1]
يقول ابن الجوزي: فَإِذَا صَفَتِ الْمَحَبَّةُ وَخَلَصَتْ وَقَعَ الشَّوْقُ وَالتَّزَاوُرُ وَصَارَ بَذْلُ الْمَالِ أَحْقَرَ الأَشْيَاءِ.[2]
قال السعدي: فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.[3]
حتى نحقق مفهوم الأخوة في الله الذي ارتضاه لنا سبحانه، لابد من استحضار آصرة ورابط واحد في تلك العلاقة الأخوية، أو المجالسة والتزاور والبذل هي في الله ولله، عندها تحصل الألفة التي هي ثمرة ونتيجة لحسن الخُلُق الذي يُنبئ عن معدن أصيل وسلوك فضيل.
يقول ابن الجوزي: اعْلَمْ أَنَّ الْأُلْفَةَ ثَمَرَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّفَرُّقَ ثَمَرَةُ سُوءِ الْخُلُقِ، فَحُسْنُ الْخُلُقِ يُوجِبُ التَّحَابَّ وَالتَّآلُفَ وَالتَّوَافُقَ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة.[4]
ينبغي مجاهدة النفس لتحقيق المفهوم الواجب للأخوة في الله، لأن ثمرته عظيمة وآثاره جليلة، فبهذه العلاقة تطمئن النفوس وتنشرح الصدور ويرتاح البال، قال مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لِقَاءُ إِخْوَانِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لِقَاءِ أَهْلِي، أَهْلِي يَقُولُونَ: يَا أَبِي يَا أَبِي، وَإِخْوَانِي: يُدْعَوْنَ اللَّهَ لِي بِدَعْوَةٍ أَرْجُو فِيهَا الْخَيْرَ.[5]
وَلَقَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ ثَمَّ خَبَرْتُهُمْ *** وَعَلِمْتُ مَا مِنْهُمْ مِنْ الأسْبَابِ
فَإِذَا الْقَرَابَةُ لا تُقَرِّبُ قَاطِعًا *** وَإِذَا الدِّيَانَةُ أَقْرَبُ الأسْبَابِ
السلف الصالح ضربوا أروع الأمثلة في تحقيق الواجب من مفهوم الأخوة في الله وظهور ثماره الحقيقية، من ذلك:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ الأَخَ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: يَا طُولَهَا مِنْ لَيْلَةٍ! فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ غَدَا إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ.[6]
خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ جَلَاءُ حُزْنِي.[7]
قال بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ: أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيَكَ ذَكَّرَكَ بِحَظِّكَ مِنَ اللَّهِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا.[8]
للأسف الآن أصبحت هذه المعادلة معكوسة والقاعدة منكوسة! بسبب تغير المفاهيم وانتكاس الفطرة وانقلاب الموازين، حتى أصبح الهمّ الأوحد مُنصبٌّ على المقياس المادي والمنفعة الشخصية العاجلة!
قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك![9]
عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُدُومِي مَكَّةَ حُبًّا لِلِقَاءِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: وَكَانَ يَحْمِلُ إِلَيْهِمُ النَّفَقَةَ وَالصِّلَةَ وَالْكِسْوَةَ وَيَقُولُ: هَيَّأْتُهَا لَكُمْ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ.[10]
قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: لِقَاءُ الْأَحِبَّةِ مَسْلَاةٌ لِلْهَمِّ.[11]
قال ابن المقفع: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً.[12]
وسُئل سُفْيَان: مَا ماء العيش؟ قَالَ: لقاء الإخوان.[13]
وكان الإمام أحمد بن حَنْبَلٍ يقول: ما بت منذ ثلاثين سنة إِلا وأنا أدعو الله للشافعي، وأستغفر له.[14]
والتوصيف المختصر البليغ للأخوة في الله كما قيل:
- أفضل الذخائر أخ وفي.
- صديق مساعد: عضد وساعد.
- الصديق إنسان هو أنت، إلا أنه غيرك!
- رُب صديق أودُّ من شقيق.
- وقيل: خير الإخوان من أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك.
- وقال آخر: من لم يكن في الله خلته فخليله منه على خطر.
أَخُوكَ الَّذِي يَحْمِيكَ فِي الغَيْبِ جَاهِدًا *** وَيَسْتُرُ مَا تَأْتِي مِنَ السُّوءِ وَالقُبْحِ
وَيَنْشُرُ مَا يُرْضِيكَ فِي النَّاسِ مُعْلِنًا *** وَيُغْضِي وَلا يَأْلُو مِنَ البِرِّ وَالنُّصْحِ
لكن المتأمل في الواقع والناظر لأحوال الناس يجد العجب العجاب، من القطيعة والأنانية وحب الذات والمنفعة الشخصية، حتى لو كانت على حساب أخوَّته في الدين، والأفضل حالا من تجده يحاول تحقيق أعشار مفهوم الأخوة في الظاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أصبحت الأخوة كلمات دون محتوى، وعلاقات منزوعة الدسم! وشعارات جوفاء وادعاءات نظرية، تتجاذبها المصالح المؤقتة والمنافع الزائلة والنظرة المادية المحضة، والجاه والمنصب والمكانة الاجتماعية!
قال ابن الجوزي: وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر؛ فأما الأخوة والمصافاة، فذاك شيء نسخ، فلا يطمع فيه، وما أرى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانبًا، وعاملهم معاملة الغرباء! وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسببٍ يناله منك!![15]
زمان ابن الجوزي قبل 900 سنة تقريبا هذا حالهم، لا انترنت ولا فضائيات ولا شواغل ولا مواقع تواصل ولا حدائق ومتاجر كبيرة، فكيف لو رأى حالنا هذه الأيام والله المستعان!
قال بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ: أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيكَ ذَكَّرَكَ بِحَظِّكَ مِنَ اللهِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا.[16]
قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه -[17]:
أخلاء الرخاء هم كثير *** ولكن في البلاء هم قليل
فلا يغررك خلة من تؤاخي *** فما لك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي *** ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين *** فذاك لما يقول هو الفعول
نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويهدينا سواء السبيل.
5/11/2015م
_______________________
[1]صحيح الترغيب والترهيب برقم 3018.
[2] التبصرة (2/277).
[3]تفسير السعدي ص235.
[4]منهاج القاصدين ومفيد الصادقين ص300.
[5]الزهد لأحمد بن حنبل ص196.
[6] التبصرة لابن الجوزي (2/277).
[7]الإخوان لابن أبي الدنيا ص135.
[8]الإخوان لابن أبي الدنيا ص136.
[9] الآداب الشرعية لابن مفلح (3/553).
[10] الإخوان لابن أبي الدنيا ص142، وأحد الأشخاص منذ أيام اتصل مرة بالجوال على أخ له للسؤال عن حاله فقط دون أي حاجة! والأخر الآخر ينتظر حاجة المُتَصِل إلى أن أخبره من اتصل بأنه مجرد سلام وسؤال فاستغرب لأن ثقافة التواصل شبه منعدمة إلا لحاجة والله المستعان!
[11] الإخوان لابن أبي الدنيا ص144.
[12]كليلة ودمنة ص152.
[13] روضة العقلاء ص93.
[14] تهذيب الكمال للمزي (24/365).
[15] صيد الخاطر ص386.
[16] حلية الأولياء (5/225).