قراءة في أحداث تفجيرات باريس

إبراهيم السكران

ليس الخطر اليوم أننا أمة تهان كرامتها وتسفك دماء نسائها وأطفالها وتسلب ثرواتها وتدهس عفة حرائرها في دهاليز سجونهم، بل أخطر من ذلك كله، أن تعاد دبلجة الواقع ويصور لنا نحن الضحايا أننا نحن المعتدون، وأن الجلاد حليم واسع الصدر يكاد يقارب ورع الفضيل بن عياض والربيع بن خثيم! ومن أظهر نتائج هذه الدبلجة أولئك الذين يقولون: لا تشوهوا الإسلام في نظر الغربيين! عجيب! نحن الذين نشوهه؟! نشوهه بماذا؟!

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

يا هولاند كم قُتل لكم في هذه الحادثة؟

يجب أن يكون لنا موقف في التضامن مع الضحايا، هذه العمليات بباريس ستشوه الإسلام في نظر الغربيين والفرنسيين، يا لبرودتك‼️ أتذكر حين غُدِر الخال راشد الصفيان بسيف الرحم ممن آواه، تغمده الله برحمته؟ أتذكر ذاك المكبل يفحص الرمل على صحراء الشملي يتوسل ابن عمه بصوت النخوة المبحوحة "تكفى يا سعد"؟!

هذه قبورهم ما جف ترابها بعد، ومازالت عمائم قومي رطبة بدموع جنازتهم، وتريدني أن ألبس أحسن ثيابي ونذهب سويًا نتخشّع موقف النائحة المستأجرة في مأتم هولاند! يقول لي: ولكن هؤلاء أبرياء مدنيون مسالمون في مسرح بباريس! قلت له: ويحك وهل أفقت أنا من صدمة ذبح المصلين في "مساجد" أهلي ورحمي وأقاربي حتى أعزّي قتلى "المسارح" الباريسية؟! إن كنت تبكي مسرح باتاكلان، فأنا إلى هذه الساعة تتفطر كبدي على مسجد قوات الطوارئ في عسير.

ابني وأخي وابن عمي وجارنا يناجزون الرافضة الحوثة على الحدود الجنوبية، والبارود بيننا سجال يصيبون منا ونصيب منهم وأنت تطوي مناديلك لتمسح بها دمعات هولاند! إن كان أهل باريس هطلت عليهم مزنة دم، فنحن نسبح في لججها منذ آماد.

ماذا تريد مني أن أقول؟! تريدني أن أقول أن الغلاة سفهاء معتوهون لا يبالون بضوابط الشريعة في قتال الكفار؟!هذا والله أغرب طلب سمعته! الغلاة أفرغوا رصاصهم اللئيم في ظهور الفصائل المجاهدة في الشام ودرنة.

أتسمع؟! الغلاة قتلوا "المجاهدين" الذين هم في أشرف المنازل، الغلاة قتلوا المصلين وعوام المسلمين في بلدي. وأنت تريد مني موقفًا يقول أنهم لا يراعون ضوابط الشريعة في قتال الكفار؟! لا أعرف مثالاً لما يسميه المُحدَثون "الترف النظري" أحسن من هذا المثال!

ومع ذلك فصدّقني أن الغلاة لم يسفكوا دماء الباريسيين، هم أقل قدرةً من أن يصل لذلك دون شروط موضوعية،  بل الذي سفك دمهم هو من سرّب للغلاة أكسجين الوجود يظن أنه يلعب على توازنات القوى فأتاه الأمر من مكمنه!

الذي سفك مسرح باريس هو الغرب نفسه الذي فتح المجال للعبث الإيراني وميليشيات الدم الرافضية، وصار يظن أنه بدهائه يتسلى بتدوير المواقع بيننا، فانفلت ذراع فخاخه ليخبط جبهته وهو ينصب شراكها.

بقاء نظام بشّار هو الشرط الموضوعي لوجود الغلاة، ووجود الغلاة هو الذي طارت منه شظية لطمت متفرّجًا على الروك في مسرح باتاكلان، لذلك حين رأيت الناس تتناقل الخبر ذهبت لموقع قناة الجزيرة على الشبكة لأفهم ما الذي جرى بالضبط؟ ومع ذلك عجزت عن إكمال سماع التقرير، وماتمتمت شفتاي إلا بكلمة واحدة "يداك أوكتا وفوك نفخ يا هولاند".

من المانشيتات اللطيفة التي سمعتها "الإرهاب يضرب فرنسا"! يالطرافة المتكلم! فرنسا أصلاً من "عمالقة الإرهاب" في العصر الحديث، وهي تتمتع بموقع رفيع في سجلات العنف وجرائم الحرب والبربرية الدموية، فرنسا "عصابة" تتجمّل بكوليج دي فرانس، هذا كل ما في الأمر! أتريد شاهداً؟ لا، لا، لن أذهب بك إلى فظائع الاستعمار وتاريخها الدموي الإجرامي، الأمر أقرب من هذا بكثير جدًا، إنه البارحة.

أنسيت عملية "سيرفال" (القط المتوحش) التي شنّتها فرنسا بطائرات الرافال على إخواننا في "أقليم أزواد" عام 2013م؟! لم يمضِ عليها إلا سنتان فقط! أنسيت كم أُحرِق فيها بنيران طائراتهم من النساء والأطفال؟!

ومكثت فرنسا شهرًا كاملاً وهي تصب بطائرات الرافال النيران المتواصلة على عُرجٍ مكاسير يلتحفون الصحراء، وتريدني أن ألقي برأسي مستعبرًا على كتف هولاند أعزّيه؟! أما فظائع الاستعمار الفرنسي في بلدان المسلمين قبل خمسين سنة فتلك قصة أخرى.

يا هولاند كم قُتِل لكم في هذه الحادثة؟ مائة؟ مائتان؟ أتدري كم قتلتم منا قبل زهاء خمسين عامًا؟ أتدري أم نُذكّرك أنسيت مجزرة مايو 1945م حين خرج المسلمون متظاهرين "سلميًا" في مدن الجزائر وقراها، فجاء الأمر الفرنسي بإطلاق النار، وقتلتم يا هولاند "45,000" إنسان!

نعم، قد تكون أخي القارئ شككت في الأصفار وخشيت تصحيفًا، وأنا أذكر لك الرقم كتابةً: خمس وأربعون ألف إنسان! عن أي مائة ومائتين تتحدث اليوم يا هولاند؟! أم أنتم دماء زرقاء ونحن قطيع حشرات يكفيها المبيد الحشري بالرافال؟! وهذه مجزرة واحدة فقط، تكوّمت فيها تلال الجثث، ومُسِحت قرى بأكملها تصفر في بقايا أطلالها روائح البارود الفرنسي، وسالت على هذه المجزرة أحبار المؤرخين إلى اليوم.

أرجوك يا أخي إن أردت من باب الدبلوماسية والمداراة أن تخرج بيانًا يدين حادثة باريس فسألتك بالله لا تذكر مسائل الحضارة والتقدم والإنسانية والسلم واللاعنف ..إلخ، لا تكن كمن يحتج للخميني بصحيح البخاري! فمشهدك إذّاك في غاية البرود السيبيري.

يكفيك إن شاء الله أن تستخدم الأسلوب المثلج لبانكي مون وتقول "نُعرِب عن قلقنا من حادثة باريس"، فقط، ثم تذهب وتكمل أحزانك مع جراحات بلدك وأهلك، وكماة مغاوير على حدودنا الجنوبية، وإخوان لك تحت براميل بشار، أما أن تبالغ في إظهار التحزّن والتأثّر بدعوى هول الحدث، فمتى كان طريح السرطان يعود موعوك الزكام.

عار والله أن يُخاطَب هؤلاء الإرهابيون قادة الغرب على أساس الاشتراك بيننا وبينهم في الحرص على السلم! نحن أشرف الناس بقول الله {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61]، وهم أرذل الناس في دركة {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].

وأطرف من رأيت في هذه الحادثة مهرّج يقول: يجب أن نعيد النظر في "قتال الطلب" و "التترّس" في الفقه الإسلامي! يا الله! ما أشد غرابة بعض النفوس في الإصرار على مشاهدة الشاشة بالمقلوب! لا يكاد يوجد اليوم متصدر للحديث الفكري باسم الإسلام إلا وهو يتنصل ويتبرأ من جهاد الطلب، ولا يوجد قائد غربي اليوم إلا وهو من رؤوس المقاتلين قتال الطلب!

بل لقد أجمعت القيادات السياسية الغربية على العمل بقتال الطلب قولاً واحدًا في مذهبهم ورواية واحدة وعليها أصحابهم. ومع ذلك يأتينا بعض المغفّلين ويقول: يجب أن تراجعوا مذهبكم في قتال الطلب! وكأن بوارجنا تقرع موانئ لوس أنجلوس وروتردام وأنتويرب وهامبورج، ولا كأن شواطئ المسلمين تتجشأ بالقواعد الأمريكية!

ثم يقال لنا: يجب أن نعيد النظر بقتال الطلب! نحن الذين نختلف إلى اليوم في "دفع الصائل" حتى يرى فئام كثيرة منا أن ذلك تهور وخلاف الحكمة، وهم الذين تجوب مقاتلاتهم وبوارجهم العالم، ومع ذلك يقال لنا نحن فقط: يجب أن نراجع موقفنا من قتال الطلب! لا أدري لماذا تذكرت طرفة المتسول الذي توقّح عليه أميره، فقال المسكين: صدقت، أنا الغلطان يا طويل العمر!

ليس الخطر اليوم أننا أمة تهان كرامتها وتسفك دماء نسائها وأطفالها وتسلب ثرواتها وتدهس عفة حرائرها في دهاليز سجونهم، بل أخطر من ذلك كله، أن تعاد دبلجة الواقع ويصور لنا نحن الضحايا أننا نحن المعتدون، وأن الجلاد حليم واسع الصدر يكاد يقارب ورع الفضيل بن عياض والربيع بن خثيم! ومن أظهر نتائج هذه الدبلجة أولئك الذين يقولون: لا تشوهوا الإسلام في نظر الغربيين! عجيب! نحن الذين نشوهه؟! نشوهه بماذا؟!

ألأجل أن بضعة معتوهين قتلوا من فضلائنا آلافًا، وقتلوا منهم مائتين نكون نشوهه، وهم الذين أبادونا عبر كل تاريخهم العسكري الأسود يجب أن يُتزيّن لهم؟! من الذي يجب أن يخجل من الآخر؟!

نعم، لا مانع من أن يُبيّن للناس ضوابط الشريعة في "قتال الكفار" وحرمة قتل النساء والأطفال وغير المحاربين، وهذا القتل العشوائي الذي جرى عليه الغلاة، لكن أرجوكم راعوا مشاعرنا، لا تُظهِروا "الإرهاب الفرنسي" في صورة "هابيل". لا تعرضوا علينا صورًا مفبركة لضباط الرافال يتلون بخشوع {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28].ستقولون لنا هذا كلام عاطفي، ونقول لكم: نعم، وهل نحن جدران مصمتة لا تشعر، لنا عواطف وأحاسيس، ولا نستطيع التخلص من مشاعر الغبن من الاضطهاد والامبريالية الغربية الساحقة لكرامتنا.

وفي الأخير.. على قول بانكي مون:" أُعرِب عن قلقي تجاه حادثة باريس"