أخاف عليكم ستًّا
جاء في الحديث: عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخاف عليكم ستًّا: إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، ونشواً يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشرط» (صحيح الجامع[216]).
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد جاء في الحديث: عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح الجامع[216]).
شرح الحديث:
قوله: (أخاف عليكم ستًّا) وفي رواية: (بادروا بالأعمال ستًّا)، ثم ذكر هذه الست، وهذه الست العلامات التي خافها النبي صلى الله عليه وسلم هي بعض علامات الساعة الصغرى، وقد وقعت في هذا الزمان، وأحسب أنها قد ظهرت كلها، وبعضها قد ظهر وما زال في ازدياد الظهور.
فقد أسند الأمر إلى غير أهله، ونطق الرويبضة في أمر العامة، وتأمر على الناس أمراء سفهاء حدثاء الأسنان، وسفكت كذلك الدماء، بل استخف بذلك استخفافًا مخيفًا، ونبذ شرع الله أن يحكم في الناس، واستبدل ذلك بالقوانين الوضعية، ومن ثم انتشرت الرشوة، وبسبب ذلك استطاع أصحاب الأموال أن يأخذوا ممتلكات الغير بإغرائهم القاضي بالرشوة من أجل الحصول على حكم جائر على الخصم الذي معه ومع هذا الشخص خصومة، وقطعت الأرحام، وأفسد في الأرض، واتخذ الناس فتيان جعلوا القرآن مكسبًا يلحنونه ويمطونه ويطربون به العامة في مواسم العزاء، وفي الحفلات العامة، كما كثرت الشرط والحُجَّاب والحرس على أبواب الملوك والرؤساء والوزراء، ومنع الناس من الدخول عليهم من أجل رفع مظلمة حلت بأحدهم، أو ما أشبه ذلك، حتى أصبح لا يسمح بالدخول إلا لأصحاب الوجاهات، والوساطات، وأما غيرهم فليموتوا على الأبواب -ولا كرامة- ولم ولن يسمح لهم بالدخول! وإذا كان تلك الحجاب والشرط على خلق لا بأس به فقد يأخذون الملف من صاحب المظلمة أو القضية من أجل عرضه على المسئول ومن ثم يبقى ذلك الملف حبيس الدرج في مكتب المسئول لسنوات، حتى أصبح الدخول على أولئك المسئولين مهمة صعبة وشاقة- ولا حول ولا قوة إلا بالله- من قدر على ذلك فقد حقق منجزًا كبيراً كما يقول الناس في هذا الزمان!.
قوله: (إمارة السفهاء) أي ولايتهم على الرقاب لما يحدث منهم من العنف والطيش والخفة، والسفهاء جمع سفيه، وهو ناقص العقل، وإمارة السفهاء هذه قد أعاذ النبي صلى الله عليه وسلم-معاذا منها، وبين له ماهية إمارة السفهاء؛ فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: « » (الترغيب والترهيب[3/203]).
نعم، لقد صدق في زماننا هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع[3650]).فالسفهاء إذا تولوا زمام الأمور، وتسلطوا على رقاب العباد قادوهم إلى الشرور، وإلى الفتن، وإلى الهاوية، وذلك بفتح أبواب الشرور على مصارعها، كفتح باب الزنا، وباب الخمور، وباب السرقة، وتعطيل الحكم بما أنزل الله، والفساد في الأرض، واختلاط الرجال بالنساء في الأماكن العامة؛ كالمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والوزارات، والأسواق، وما إلى ذلك من أجل أن تنتشر الفتنة.
قوله: (وسفك الدم) وفي رواية: (واستخفافا بالدم) أي بحقه بأن لا يقتص من القاتل، وهذه العلامة ظاهرة وواضحة وجلية في زماننا هذا، فقد سفكت الدماء البريئة بدون حق، بل وتساهل الناس في ذلك تساهلًا مخيفًا، فربما قتل المسلمُ المسلم على أتفه الأسباب، وإذا قتله فإنه لا يقتص منه، ولا يقتص من القاتل للمقتول إلا أن يكون القاتل من أسرة صغيرة أو فقيرة، والمقتول من أسرة كبيرة، أو غنية، أما إن كان العكس فمن الصعب أن يقتص من قاتل غني ذي شوكة لمقتول فقير ضعيف.
وكثرة القتل للنفس المعصومة والاستخفاف به علامة من علامات الساعة الصغرى؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح البخاري[7601]، حتى أنه لكثرة القتل والتساهل في ذلك فإن القاتل لا يدري لماذا أقدم على القتل؟! ولا يدري المقتول لماذا قُتل؟! كما أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[2908]).
ولذلك فقد توعد الله من قتل مؤمنًا متعمدًا بغير حق بجهنم، وبحلول غضب الله ولعنته، قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]؛ فقد ذكر الله "هنا وعيد القاتل عمدًا؛ وعيدًا ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وينزعج منه أولو العقول، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزءاه جهنم، أي فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجنهم بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار، فيا عياذًا بالله من كل سبب يُبعد عن رحمته". وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل النفس بغير حق من السبع الموبقات؛ كما جاء في المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح الجامع[144]).
فليتق الله العبد المسلم وليحذر أن يقع في هذه الكبائر العظام، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومحاسب على عمله صغيراً كان أو كبيرا، وأول ما يحاسب عليه يوم القيامة من حقوق المخلوقين الدماء؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[1678]).
قوله: (وبيع الحكم) يقصد ببيع الحكم هنا كما فسره العلماء: تولية المناصب عن طريق الرشوة، وهذا مشاهد فكم حكام وقضاة تولوا منصب القضاء وليسو أهلاً لذلك، بل تولوا ذلك عن طريق الوساطة أو الرشوة، أو على أساس الحزب، كما في بعض البلدان.
فيا لله كم بيعت من أحكام جائرة في هذا الزمان بسبب الرشوة، التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك؛ كما
في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: « » (صحيح الترغيب[2212]).
قوله: (وقطيعة الرحم) أي القرابة، وذلك بإيذائه، أو بترك الإحسان إليه، أو بهجره وإبعاده، وقطيعة الرحم علامة أخرى من علامات الساعة الصغرى، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «
» (مسند أحمد[10/20]).وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
». وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « » (السلسلة الصحيحة[647]).قوله: (ونشوا يتخذون القرآن -أي قراءته- مزامير) وفي رواية: (ونشئا يتخذون القرآن -أي قراءته- مزامير، يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها) قوله: (مزامير) جمع مزمار، وهو بكسر الميم آلة الزمر يتغنون به ويتمشدقون، ويأتون به بنغمات مطربة، وقد كثر ذلك في هذا الزمان، وانتهى الأمر إلى التباهي بإخراج ألفاظ القرآن عن وضعها (يقدمون) يعني الناس الذين هم أهل ذلك الزمان (أحدهم ليغنيهم) بالقرآن بحيث يخرجون الحروف عن أوضاعها، ويزيدون وينقصون لأجل موافاة الألحان، وتوفر النغمات (وإن كان) أي المقدم (أقلهم فقها) إذ ليس غرضهم إلا الالتذاذ والإسماع بتلك الألحان والأوضاع.
والمقصود بهؤلاء القراء الذين يتكلفون ويتابعون الألحان، ويجعلون القرآن مثل الأغاني، هؤلاء الأشخاص توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بوعيدٍ عظيم، وأخبر أنه ربما يأتي بعضهم ويقدم في جمع القوم لا لأنه أفقههم، ولا لأنه أعلمهم، وإنما لأجل أن يغني لهم.
إذاً الغناء والتطريب والعبث بالمدود والزيادة في الحركات، أو التأوهات، لا شك أنه أمرٌ مذموم، وصاحبه آثم، ولما سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن القراءة بالألحان؟ قال: "هي بدعة"، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر في أشراط الساعة: « » (الأحكام الكبيرة[3/226]) مثل الغناء، فيجب أن نفرق بين تحسين القراءة وتجميل الصوت، والخشوع والحزن، وبين أن الإنسان يشابه في قراءته أهل الفسق والأغاني، ويمطط ويتأوه، هذا مذموم ومحرم.
قوله: (وكثرة الشُرط) أعوان الولاة، والمراد كثرتهم بأبواب الأمراء والولاة، وبكثرتهم يكثر الظلم، والواحد منهم شرطي كتركي أو شرطي كجهني سمي به؛ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، والشرط العلامة.
وكثرة الشُرط علامة من علامات الساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهرت ومازالت في استمرار، بل في ازدياد، وهؤلاء الشرط أعوان الظلمة الذين يضربون الناس ظلمًا وعدوانًا -والله المستعان- يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته وغضبه؛ كما جاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (السلسلة الصحيحة[1893]).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح مسلم [2857])، بل هم متوعدون بالنار لما جاء في الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[2128]).
بعض فوائد الحديث:
1- الحث على المبادرة بالعمل الصالح في زمن الفتن فلا مخرج من ذلك إلا الإكثار من العبادة، والحذر من الفتن.
2- أن هذه الست العلامات من علامات الساعة، وقد وقعت وتحققت كما هو مشاهد في عصرنا وقبله.
3- تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك معجزة من معجزاته فإنه كلما أخبر به صدق وحق وعدل
4- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، بل إنه أرسل رحمة للناس كلهم، ولذلك فقد دلنا على كل خير، وحذرنا من كل شر، ومن هذه الشرور التي خافها علينا وحذرنا منها هذه الست.
5- التحذير من إمارة السفهاء.
6- حرمة سفك دم المرء المسلم بغير حق.
7- التحذير من الرشوة، والجور في الحكم بين المتخاصمين.
8- الحث على صلة الرحم، فإن النبي قد حذر من قطيعة الرحم، فيقتضي الحث على صلتها.
9- التحذير من التمطيط والتكلف عند قراءة القرآن.
10- التحذير من الظلمة ومن أعوان الظلمة، ومن ذلك الشرطة التي كثرت في هذا الزمان، والتي لا همَّ لها في كثير من البلدان –إلا ما رحم الله- إلا قمع الشعوب وإرهاب الناس.
وغير ذلك من الفوائد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.