للمرأة المسلمة في المجال الطبي
عبد الله بن وكيل الشيخ
آمال وضوابط للمرأة المسلمة في المجال الطبي عنوان محدد في محورين أساسيين:
أولهما: الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.
والمحور الثاني: هو الآمال التي تعلقها الأمة على هذه الشريحة من المجتمع.
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
آمال وضوابط للمرأة المسلمة في المجال الطبي عنوان محدد في محورين أساسيين:
أولهما: الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.
والمحور الثاني: هو الآمال التي تعلقها الأمة على هذه الشريحة من المجتمع.
وأنا أعلم أن الذي يستمع إليّ، رجال ونساء والدور وإن كان مشتركًا فإنه لا يمنع أحيانًا تخصيص الخطاب لشريحة دون أخرى، وقد يكون الذي لم يخاطب هو مخاطب من جهة اللزوم بأمور ينبغي أن يقوم بها لأجل أن يقوم الطرف الآخر بمهمته على أحسن وجه.
أما المحور الأول: وهو محور الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي، فإنه ينبغي أن يكون قبل أن ندخل في تفصيله مسبوقًا بالصورة الإجمالية التي يريدها الإسلام من المرأة في المجتمع الإسلامي، وما لم ندرك هذه الصورة بشكل إجمالي فإننا قد لا نفهم الضوابط من ناحية وقد نعترض على هذه الضوابط من ناحية أخرى.
المرأة في الإسلام أحد عنصري المجتمع فلا غنى عنها ولا يجوز بحال إهمالها وعدم الاكتراث بها، الأسرة في الإسلام هي وحدة المجتمع الأساسية وعليه يقوم بناؤها ولا يمكن أن يقوم مجتمع سليم دون أن تكون هناك أسرة سليمة، وقد ظن فئة من البشر في منتصف أو في أوائل هذا القرن أنهم يمكن أن يقيموا مجتمعًا بلا أسرة وقد كانت هذه النظرية التي تتحدد بعناصر متعددة من أولوياتها إذهاب الأسرة وإشاعة التمتع للجنسين؛ كانت أول ما سقط من هذه المنظومة هي مسألة الاستغناء عن الأسرة ولهذا لم تقوم الثورة البلشيفية في روسيا إلا بعد سنوات أعلنت التخلي عن هذا المبدأ وهو إذهاب الأسرة من المجتمع، إذاً الأسرة وحدة المجتمع الأساسية ولا يمكن أن يكون هناك مجتمع بلا أسرة.
ثالثًا: ليس هناك بديل عن قيام المرأة برعاية أسرتها وأولادها وإن كان هناك بديل فهو ناقص وله سلبيات كثيرة يلمسها الناس في واقعهم هنا وفي مجتمعات أخرى.
رابعًا: ومع هذا فللمجتمع حاجات متعددة لا يصلح لها إلا النساء أو على الأقل النساء في تلبيتها خير من غيرهن من الرجال، والواجبات الشرعية منها ما يكون فروضًا على الأعيان، ومنها ما يكون فروضًا على الكفايات يجب على الأمة أن يكون فيها من يقوم بها كالتعليم، التمريض، العمل الاجتماعي في سوق النساء.
في ضوء هذه النظرة الإجمالية التي توازن بين أساس بناء المجتمع وبين القيام بحاجاته المتعددة يمكن أن نتلمس هذه الضوابط الشرعية للمرأة في عملها في خارج أسرتها ومنها العمل في المجال الطبي، لعل هذه الضوابط تتحد في عدة أمور:
1- أما الضابط الأول:
فهو مستوحى من هذه النظرة الإجمالية التي ذكرناها قبل قليل وهو أن يكون هناك موازنة دقيقة بين مسئولية المرأة الأساسية وبين عملها خارج هذه المملكة الصغيرة ومسؤولياتها في الداخل هي التي حددها وأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « » إلى أن قال: « » (صحيح البخاري[893])، قال البخاري في كتاب النكاح: باب المرأة راعية في بيت زوجها وأولادها، ثم أعاده في كتاب الأحكام، وقال الحافظ ابن حجر: ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك.
هذه الموازنة التي ندعو إليها والتي هي ضابط من الضوابط هي ثمرة الإجابة الصحيحة عن التساؤلات التالية:
هل هي بحاجة للخروج للعمل لكسب المال؟
هل المجتمع بحاجة إليها حيث أن هناك مجالاً يختص بالمرأة لا يزال عاطلاً عمن يسده من النساء؟
هل تستطيع في ظروف العمل أن تؤدي المهمتين بشكل مناسب؟
هل يعود هذا العمل بضرر عليها في علاقتها الزوجية وأمورها البيتية؟
هل يترتب على هذا العمل ضرر على من يلزمها رعايتهم من البنين والزوج ونحو ذلك؟
لا نفترض جوابًا واحدًا إذ إن ذلك يختلف من امرأة لأخرى، بل لا يليق التعميم في مثل هذه الحالات، ففرق بين المتزوجة وغيرها، وفرق بين من لها أبناء وبين من ليس لها ذلك، وفرق بين الصغيرة والكبيرة، إلى غير ذلك من الظروف التي تفرض واجبات متعددة يختلف الحكم الشرعي باختلافها، ومن الخطأ البين تعميم القول بأن خروج المرأة ضرورة تقتضيها حاجات التنمية، ومن الخطأ البين أيضًا أنه لا حاجة لخروج المرأة إلى العمل لأن الزوج كفيل بالنفقة عليها، في هذه النظرة قصور إذ إنها لم تتعدَ النظر إلى حاجة المجتمع الذي تعيش فيه.
ولقد حفلت السنة النبوية بالشواهد عن عمل المرأة خارج بيتها لحاجتها أو لحاجة أسرتها و لحاجة المجتمع من حولها، فخرجت للعمل في الزراعة وتعلم العلم والكسب من المهن والحرف المناسبة، وخرجت لحاجة المجتمع كالعمل في الجهاد واشتغلن بما يناسبهن من مداواة الجرحى وسقيا العطشى وطبخ الطعام وحفظ الرجال والمشاركة بفاعلية أحيانًا حتى في القتال.
أخرج البخاري عن أنس قال: " لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر الصديق وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان"، ويقول صلى الله عليه وسلم: « » (دار السحابة[481])، وأصله في صحيح الإمام البخاري، وكانت أم سليم ومعها نسوة يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، إذاً لا بد من موازنة حقيقة، وينبغي أن نبتعد عن التعميمات المشكلة في دعوى الحاجة أو في نفي الحاجة أيضًا.
2- الضابط الثاني:
التزام الحجاب الشرعي: وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب:59]، ويقول تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، ويقول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً معروفاً} [الأحزاب:32].
الحجاب الشرعي لسنا في مجال التفصيل فيه وإنما هو أمر بديهي معروف، الحجاب الشرعي يتناول جانبين: الجانب الحسي، وذلك بتغطية البدن، والجانب المعنوي وذلك بترك الخضوع بالقول واللين في الخطاب وما كان شبيهًا بذلك من التكسر في المشية والتبختر في المسير ومحاولة إبداء الزينة بأشكال متعددة من التصرفات، ويلتحق بذلك اتخاذ أسباب الزينة في الثياب أو الطيب أو الروائح أو أدوات الصباغة ونحو ذلك، إن الحجاب الشرعي هو الذي يتناول الجانبين جميعًا ويأسى من يرى من يهتم بجانب وخاصة الحسي ثم يهمل بدرجة كبيرة الجوانب المعنوية.
3- الضابط الثالث:
البعد عن الخلوة بالرجل الأجنبي: قال ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: « » (صحيح مسلم[1341])، قال النووي: إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك؛ فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام. بخلاف لو اجتمع رجل بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه، ثم قال: قال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في الصلاة أو غيرها، ويستثنى من هذا كلها مواضع الضرورة، بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا اختلاف فيه ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك.
4- الضابط الرابع:
البعد عن الاختلاط بالرجال وذلك سدًا لذريعة الفساد والإفساد والتعدي وقد استفاد أهل العلم من هذا الضابط من خلال جملة من الوقائع والنصوص، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الرجال وبين النساء في الصلاة، والصلاة مقام العبودية والكل فيها مقبل على الله عز وجل، فإذا كان في هذا المقام الذي يغلب فيه التعبد والتحفظ والإخبات لله عز وجل فصل بين النساء والرجال؛ فما بالك بما كان دون ذلك؟
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص بابًا للرجال وبابًا للنساء، ولقد أمر الرجال أن يبقوا في أماكنهم حتى يخرج النساء، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص أيامًا لتعليم النساء وخاصة في قضايا قد تجد المرأة حرجًا في الكلام فيها أمام الرجال، أن الله عز وجل قد نبه على ما فطر عليه الجنسان من الميل لأحدهما الآخر، لذلك أمر الله بأن يبتعد النساء عن الخضوع في القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، وإذا كان الخضوع في القول ممنوعًا فكيف بالاختلاط والجلوس ونحو ذلك، إن سد الذرائع أمر مقرر في الشريعة؛ ولهذا ينبغي العناية به في مثل هذا الأمر حتى لا يؤدي إلى محاذير تخالف كثيراً من المقاصد التي ربما أرادها الذين يعملون في هذا المجال طلباً لخدمة أمتهم ومجتمعهم.
الآمال التي نعلقها على أختنا العاملة في المجال الطبي، وحينما نقول العاملة في المجال الطبي؛ ليشمل ذلك الطبيبة والممرضة والاختصاصية الاجتماعية والإدارية ونحو ذلك، فإننا لا نخص في الحديث شريحة في هذا العمل وإنما نقصد الجميع، إن هناك آمال يأمل الإنسان أن تكون متحققة في مثل هذا المجال، يستقيها من خلال النظر في النصوص الشرعية ومن خلال ملاحظة حاجة المجتمع الذي نعيش فيه.
1- أولها وهو أمر لا يختص بهذا المجال وإنما هو في عموم عمل المسلم، نتمنى ونأمل أن تحسن الأخت العاملة في المجال الطبي نيتها في هذا العمل؛ فإن ذلك باب من الخير، يحول هذا العمل إلى عبادة تثاب عليها عند الله عز وجل، هل يشق أن تستصحب في عملها هذا أنها تقوم بفرض من فروض الكفايات على الأمة؟ ولا شك أن من يستصحب هذه النية فإنه بجانب إسقاطه للفريضة عن سائر الأمة؛ فإنه يثاب أيضًا على هذه النية الحسنة.
هل من المشقة في شيء أن تستصحب أنها تريد أن تغني أمتها ومجتمعها عن الحاجة إلى الكفار رجال ونساء، وفي وجودهم في مجتمعات المسلمين من الأضرار شيء كثير وكثير جدًا؟، هل يشق أن يكون من قصدها أن تحسن إلى بنات جنسها بتحقيق مبتغاهن من التطبيب والتمريض في جو نفسي مريح؟ إن هذه المقاصد لا تكلف الواحد منا شيئًا لو استصحبها، بل هو يدرك بها أجرًا عظيمًا وثوابًا عند الله عز وجل على أنها تمثل ضوابط ترشد العمل السلوكي إذا كانت حاضرة في الذهن، فإن هذه المعاني الجليلة والمقاصد الخيرة لو كانت حية في النفوس حقيقة لاختفت كثير من المظاهر التي ربما لا تتوافق مع الأحكام الشرعي بل ربما صادمت معلوما من الدين بالضرورة.
2- أما الأمل الثاني فهو أن يبرز العاملون رجالاً ونساءً في هذا العمل الطبي أن يبرزوا نموذجًا للمسلم والمسلمة الذين يجمعون بين تمسكهم بدينهم وبين أخذهم بأسباب التقدم المادي في هذا العصر الذي نعيش فيه، هناك من يرى في مجتمعات المسلمين أنه لإدراك هذا التقدم لابد من التخفف من كثير من الضوابط الشرعية، بل أصبحنا نسمع مصطلح "ضريبة الحضارة"، وكأنه من الحتم اللازم أنه لا نستطيع أن ندرك شيئًا من أسباب هذا التقدم المادي إلا بأن نتنازل عن بعض ما نعتقده من دين الله عز وجل، وبجانب ذلك هناك من يرى التخلي أو شبه التخلي عن التقدم المادي حفظًا لما هو أغلى وأبقى، ولا يستطيع هؤلاء أن يثبتوا بواقعية أمام حاجة المجتمع، فإن الذي لا يجد طبيبًا مسلمًا أو طبيبة مسلمةً لاشك أنه سيذهب إلى طبيبٍ كافر أو طبيبةٍ كافرة.
إما الجهل بالدين، أو الانهزام الداخلي ومحبة الآخرين. فإن الجهل بالدين قد يؤدي أحيانًا إلى ترك بعض واجبات الدين، والانهزام الداخلي يؤدي بالتضحية بكثير من مبادئ الدين؛ ولهذا فالعلم الصحيح هو الذي يوجد هذا التوازن الحق بين ما يبتغيه الله عز وجل من انضباط السلوك، وبين ما ينبغي أن نكون عليه من إدراك أسباب التقدم الذي جعله الله عز وجل أمرًا مشاعًا بين الخلق: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]
3- إننا نأمل أن نرى المجال الطبي من أنشط المجالات في نشر الدعوة وحض الناس على الخير، ولسنا أيها الأخوة والأخوات نبتغي أن تنقلب العيادات والمستشفيات إلى قاعات محاضرات ولا إلى منابر واعظين ليس هذا، وإنما نبتغي أن يستغل العاملون في هذا المجال مواقعهم المؤثرة لأجل أن يبلغوا ما يستطيعون من الخير، وأن يتخففوا قدر ما يستطيعون من المخالفة.
إن العلم لديكم أن المجال الطبي من أوسع الأبواب التي دخل منها الداعون إلى النصرانية في بلاد المسلمين وفي غير بلاد المسلمين، ولم يكن علم المهنة ولا تخصصها مانعًا لمثل هؤلاء في استثمار المجال الذي يعملون فيه في الدعوة إلى النصرانية، وكما نعلم فإن آلافًا بل ملايين تحولوا من الإسلام إلى النصرانية من خلال هذه البوابة، بوابة الطب. والواقع في إندونيسيا مثل صارخ لمثل هذا الاستغلال البشع من هؤلاء للدعوة إلى النصرانية من خلال التضليل والتدليس واستغلال حاجات الناس.
إذا كان كذلك فهل ينبغي أن يقشعر بدن كثير من المسلمين إذا قلنا لهم أن المجال الطبي من أوسع مجالات الدعوة إلى الله عز وجل، وكأنهم يروننا أننا نريد أن يترك الطبيب مجسه ومبضعه لأجل أن يتلو محاضرة، لسنا نبتغي هذا، وإنما نبتغي الكلمة الحسنة والأسلوب المهذب والتنبيه إلى المخالفة وإهداء ما يستطيع من خلال عمله الطبي أو من خلال المجتمع الذي يعيش فيه.
4- كما أننا نأمل أن يستثمر العاملون في المجال الطبي رجالاً ونساءً وضعهم الاجتماعي المتميز الذي يضفي على مواقفهم ونصائحهم نوعًا من القبول والالتزام. وأنتم تعلمون أيها الأخوة أن أي مجتمع تنشأ فيه مهنة أو حرفة يكون للمنتسبين إليها إذا كانوا قلة، مكانة عالية في المجتمع، فإذا كثروا ربما خفت هذه المكانة، ونحن نعيش في مجتمع يعيش في بدايات النهضة، ولا شك في أن الأخوة العاملين والأخوات العاملات في هذا المجال؛ المجتمع يقدر لهم هذا العمل بل وينصاع إلى كثر من نصحهم و توجيههم وإرشادهم، وهذا خير يساق إليكم وأنتم لا تدرون، ربما يوجد شخص عادي أو مدرس أو واعظ لا تؤثر كلمته في جمهور من الناس مثلما تؤثر كلمة طبيب أو مختص، فإذا حباك الله هذه المنزلة وبوأك هذا القبول فحري بك أن لا تفرط في هذه المنحة التي وهبت إياها والقبول الذي أعطاك الله عز وجل إياه.
5- الوضعية الطبية التي نعيشها وتعيشونها أيها الأخوة والأخوات هي ميراث، ورثناه عن غيرنا، ولاشك في أن في هذا الميراث أشياء حسنة جدًا، وأخرى ليست حسنة سواء كان ذلك في البرامج أو في الإدارة أو في السلوكيات، والذي ينبغي العناية به أن نكون في مجال ترشيد وتصحيح لكل هذه المكونات لهذا المجال الطبي بالمراجعة الدائمة والنقد الدائم والسلوك الحسن.
إن من السلبية التامة أن نستسلم لمثل هذه الوضعيات التي ننقلها من مجتمعات أخرى، نحن لسنا نقول إن كل شيء يأتي من مجتمعات الكفار هو مدانٌ أولاً وأخيرًا، فإن هناك من الأوضاع المادية ما يشترك فيه المؤمن والكافر، لكن هناك مجالات وسلوكيات ومناهج في الإدارة والتعامل يحسن أن يكون ـ بل يجب أن يكون ـ لمجتمعات المسلمين تميزًا لا يحاكون فيه غيرهم من البشر.
ومن هنا فليس المجال الطبي مجالاً محرمًا أن ينقد ولا أن يرشد ولا أن يصلح، كما أننا لا نعتبره كلأً مباحاً يتكلم فيه كل أحد بما يشاء، فإذا كنا لا نبتغي من الناس أن يتجرؤوا؛ فلا ينبغي أيضًا من العاملين في هذا المجال أن يتقوقعوا، فإن هناك ما يحتاج إلى ترشيد وهناك ما يحتاج إلى إصلاح، ومن النقد ما يكون نقدًا هادفًا ومنه ما يكون نقداً هدّاماً لا خير فيه.
6- كما أن من الآمال أيها الأخوة والأخوات أن يزول الحرج الذي يعانيه الكثير اليوم تجاه الطب وروافده، فإن هناك فئة من المجتمع رجالاً ونساءً يحبون هذا المجال ويعشقون العمل فيه، ولكنهم ـ خاصة النساء ـ يلحظون عوائق تصدمهم وتردهم عن التفاعل الإيجابي في هذا المجال، وهذه العوائق نوعان:
1- عوائق تنظيمية أو إدارية نشأت عليها مثل هذه الأجهزة.
2- وعوائق من بعض السلوكيات من أرباب المهنة.
ولا شك في أن المجال الطبي اليوم يشكو عوزًا في العاملين فيه، هذا على مستوى الرجال على ما أسمعه من إخوتي الأطباء، ومن جهة أخرى أكثر وأكثر على مستوى النساء.
إن هناك مشكلة في المجتمع فإن كثيرًا من الناس يريدون أن يلتحقوا بهذا المجال ولكنهم يتوجسون كثيرًا ويحرصون كثيرًا على أن يبتعدوا عنه مع قناعتهم بأهميته. وربما كنا نحن السبب الذين نعيش على قمة هذا الهرم تنظيماً وإدارةً وسلوكًا نوجد هذا الحرج في المجتمع، و إذا أوجدنا هذا الحرج في المجتمع فإننا ربما لا نظفر إلا بعد قليل جدًا أو بنوعية قليلة جدًا.
ولهذا فكل واحد في هذا الجهاز مسؤول أن يزيل هذا الحرج بإزالة هذه العوائق سواء كان مديرًا أو مسئولًا وحتى الفرد الذي بسلوكياته ربما أضفى عند العامة صورة معينة تلتصق بهذا المجال. واللبيب تكفيه الإشارة، ولست بحاجة إلى إفصاح أكثر من هذا.
7- إن من الأمنيات والآمال التي نرجو أن تتحقق: أن يظهر الفصل في المجال الطبي في قنواته المتعددة من طب وتمريض وخدمة للمجتمع و أجهزة إدارية؛ أن يظهر الفصل بين الرجال و بين النساء. هذا ليس حلمًا يراود المرء بل هو واقع في كثير من بلدان العالم وهو واقع يشهد بإمكانية هذا بل يشهد بنجاحه أيضًا.
ثم إن الفصل يعني التخلص من السلبيات في هذا المجال رجالاً ونساءً، ثم هو من وجه ثالث إيجادٌ لجوٍ يهيئ لكلٍ من الجنسين ـ عاملين ومرتادين ـ جوًا نفسيًا يساهم في إنجاح العمل الطبي. تعلمون أن المرأة التي أحياناً تكون بين يدي الطبيب تود لو أنها كانت بين يدي طبيبة لتفصح أكثر وأكثر عن بعض أعراضها وأمراضها.
لسنا ـ أيها الأخوة والأخوات ـ ندعي أن هذا الفصل ـ الذي هو أمنية ـ يمكن أن يتحقق بين يوم وليلة، ولكننا نريد خطوات حقيقية ونريد استراتيجية واضحة المعالم محسوبة الخطى نحو هذا الاتجاه، وهو ليس اتجاهًا عسيرًا، بل هو ليس اتجاهًا فضوليًا، وإنما هو اتجاه ضروري أن يكون هناك انفصال تام قدر المستطاع في مثل هذا المجال.
سيكون هناك بلا شك حاجات للضرورة يكشف فيها الرجال على النساء والنساء على الرجال، والحالات الضرورية لا ينفيها الشرع ولا يلغيها، ولكن المقصود أن يكون الأعم الأغلب السائد أن يكون هناك جو يتميز فيه الرجال عن النساء.
وإذا كنا نشكو عوزًا في جانب النساء المتخصصات في مثل هذا فلنبدأ الخطوات الحقيقية الفعلية في إيجاد هذه الكوادر النسائية من طب وتمريض بحيث بعد ذلك نكون قادرين على إيجاد مثل هذه الصورة، وإذا كنا نعيش في مجتمع نامي التعليم لم يزل في خطواته الأولى فيه فإن المستقبل يفرض علينا أن يكون هناك اتساع في مثل هذا المجال، لكن بالضوابط التي تجعل الناس يتفاعلون معه براحة وطمأنينة.
وأخيراً.. أرجو أن يساهم الأخوة والأخوات باقتراحات عملية في تحقيق هذه الآمال، ولست أعني هذه الورقة ولا هذه المحاضرة، وإنما أعني أن يكون هناك خطوات عملية في كل هذه الأبواب والمحاضرات، هذه الاقتراحات العملية يمكن أن تقدم إلى المسؤولين المباشرين، يمكن أن تكون استراتيجية واضحة المعالم ترفع لأصحاب القرار الأعلى، يمكن أن توجدوا أنتم نماذج حية وأمثلة بارزة لصور عملية تبتدئ من العيادة إلى القسم إلى المستشفى إلى مشاريع كبرى تجارية تعزز هذه النظرة التي نتمناها.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والسداد وأن يبارك في جهودكم وأن يجعلكم مفاتيح لكل خير، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.