[03] الرجاء

خالد أبو شادي

هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عند الإنسان، لكن هذا يكون لشيء متوقع له سبب فإن لم يوجد له سبب صار تمنيًا لأن الإنسان إذا انتظر شيء بدون سبب لا يسمّى راجيًا بل متمنيًا! وأما ماله سبب وينتظر الإنسان محبوبًا بسبب عمله هذا هو الرجاء. فالرجاء هو الاستبشار بجود الله وفضل الرب تعالى والارتياح لمطالعة كرمه ومنّته، وهو الثقة بجود الرب وهو حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (الجنة). ولابد من التفريق بين الرجاء والتمنّي.

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

المقام دليل على الثبات والدوام لأنه لو كان شيئًا سريع الزوال لسمي حالًا وليس مقامًا، فينبغي لأعمال القلوب أن تكون مقامات وليست أمورًا عارضة، أعمال القلوب أشياء دائمة ثابتة، ومقامات الخوف والحياء من الله والإخلاص دائمًا موجود، لأن بعض الناس مع الضعف تكون لديهم أحوالًا وليست مقامات، والمطلوب أن يكون عليها مقيمًا وثابتًا دائمة وليست حالًا يزول و يحول!

الرجاء: هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عند الإنسان، لكن هذا يكون لشيء متوقع له سبب فإن لم يوجد له سبب صار تمنيًا لأن الإنسان إذا انتظر شيء بدون سبب لا يسمّى راجيًا بل متمنيًا! وأما ماله سبب وينتظر الإنسان محبوبًا بسبب عمله هذا هو الرجاء. فالرجاء هو الاستبشار بجود الله وفضل الرب تعالى والارتياح لمطالعة كرمه ومنّته، وهو الثقة بجود الرب وهو حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (الجنة). ولابد من التفريق بين الرجاء والتمنّي.

الرجاء: حاله كحال رجل شق الأرض وسواها وبذرها وحرثها وتعهدها بالسقيا والماء وأبعد عنها الآفات وقعد ينتظر حصول الثمرة ونماء الزرع، فهذا صاحب رجاء. فهو يرجو رحمة الله وثوابه بعد بذل الأسباب.

التمني: ليس رجاء شرعيًا، يكون مع الكسل، فلا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد ولا يبذل جهدًا ولا توكلًا فهذا حال من يتمنى أن ينبت زرع بدون أن يبذل، وصاحبه مفلس، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل الحسن.

والرجاء ضروري للسائر إلى الله والعابد لو فارقه لحظة تلف أو كاد يتلف، لأن المسلم يدور ما بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها و ثباتها، وقرب من الله يرجو الوصول إليه، لذلك كان الرجاء من أقوى الأسباب التي تعين المرء على السير إلى ربه والثبات على الدين، وهذا زمن الفتن والشهوات والمحن والشبهات.

أسباب وعوامل الثبات

الرجاء الذي هو ضد اليأس، واليأس هو تذكر فوات رحمة الله وقطع القلب عن التماسها وهو معصية {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، قالها يعقوب عليه السلام لأبنائه.

درجات الوصول إلى تحقيق الرجاء

1- ذكر سوابق فضل الله على العبد، أن الله له علينا فضائل سابقة.

2- ذكر وعد الله من جزيل ثوابه وعظيم كرمه وجوده بدون سؤال من العبد استحقاق فإن الله يعطي بدون أن يكون العبد مستحقًا إذا استقام الإنسان.

3- أن تذكر نعم الله عليك في أمر دينك وبدنك ودنياك في الحال(الآن) وأن يمدك بالألطاف والنعم من غير استحقاق ولا سؤال.

4- ذكر سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغني الكريم الرؤوف بعباده المؤمنين لذلك تحقيق الرجاء يقوم على معرفة أسماء الله وصفاته.

وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض لابد لها من بذر وكذلك لابد للقلب من طاعات والأرض لابد لها من تعاهد وسقي بالماء وحفر أنهار وسوق الماء إليها، وكذلك القلب لابد له من تعاهد وأن يسقى بماء الطاعة والعبادة وكذلك الأرض تحتاج حتى تنبت إلى صيانتها عن الأشياء الضارة، وترى المزارع ينتقي الدغل فينتزعه من أرض حتى لايؤذي زرعه والمؤمن ينقي قلبه من أي شبهة وشهوة حتى لا تفسد عليه زروع الطاعة التي سقاها بماء العبودية.

وقلّ أن ينفع إيمان مع خبث القلب كما لا ينمو البذر في الأرض السبخة إذًا ينبغي أن يقاس رجاء العبد برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضًا طيبة وألقى بذرًا جيدًا وسقى وتعاهدها بالرعاية ثم جلس ينتظر فضل الله، انتظار هذا يسمى رجاءً، أما إن بذر في أرض سبخة مرتفعة لا يصلها الماء، هذا غبي أحمق، أما إن بذر في أرض طيبة ولكن لا يصلها الماء وقال أنتظر المطر، انتظار هذا تمنّي وليس رجاء! الرجاء يصدق على انتظار محبوب تمهّدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس في اختيار وإرادة العبد، لذلك فالإنسان يبذل من الطاعات والعبادات وينتظر فضل الله أن يثبته وأن لا يزله ولا يزيغه حتى الممات ولا يضله حتى يلقاه وهو راضٍ عنه.

الراجي إنسان عنده مواظبة على الطاعات قائم بمقتضيات الإيمان، يرجو من الله أن لا يزيغه وأن يقبل عمله ولا يردّ عليه، وأن يضاعف أجره و يثيبه، فهو باذل للأسباب التي يستطيعها يرجو رحمة ربه، ولذلك يكون الذي يقطع البذور ولا يتعاهدها بماء الطاعات أو يترك القلب مشحونًا برذائل الأخلاق منهمكًا في لذات الدنيا ثم يطلب المغفرة يكون حمقًا وغرورًا {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169]، والكافر صاحب الجنة قال {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، فهو صاحب أماني ولا أعمال صالحة عنده {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36].

الرجاء دواء يحتاج له رجلان:

1- رجل غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة و جزم أنه ليس هناك فائدة.

2- رجل غلب عليه الخوف حتى أضرّ بنفسه وأهله، فتعدّى خوفه الحد الشرعي المطلوب فلابدّ أن يعدّل ويمدّ بشيء يحدث موازنة وهو الرجاء الذي هو حالة طبيعية عند المؤمن.

فبعض الناس الكلام معه في الرجاء دواء، أما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة لا ينفع معه أبداً دواء الرجاء، ولو استعملت معه الرجاء لزدته ضلالًا، لا ينفع له إلا دواؤ الخوف، فيوعظ بسياط الخوف ويقرّع المنايا، هذا المتمني المتساهل المفرط، فلا يصلح معه أن تحدثه عن الرجاء، وهذا أمر مهم ينبغي أن يتنبه له الوُعّاظ، قال بعض العلماء: "يجب أن يكون واعظ الناس متلطفًا معهم ناظرًا إلى مواضع العلل معالجًا كل علة بما يليق بها وهذا الزمان لا ينبغي أن يستخدم فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف وإنما يذكر الواعظ فضيلة وأسباب الرجاء إذا كان المقصود استمالة القلوب إليه لإصلاح المرضى"، التخويف ولكن بحيث لا تصل إلى تيئيسهم من رحمة الله.

قال علي رضي الله عنه: "إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يأمّنهم مكر الله"، لابد أن يكون هناك توازن وحسب حال الناس، فإذا كانوا ميّالين إلى التفريط والمعاصي والتساهل غلّب التهويف وإذا كان عندهم خوف زائد ويأس من رحمة الله غلّب الرجاء.

ثمرات الرجاء

1- يورث طريق المجاهدة بالأعمال.

2- يورث المواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال.

3- يشعر العبد بالتلذذ والمداومة على الإقبال على الله والتنعّم بمناجاته والتلطف في سؤاله والإلحاح عليه.

4- أن تظهر العبودية من قبل العبد والفاقة والحاجة للرب وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.

5- أن الله يحب من عباده أن يسألوه ويرجوه ويلحّوا عليه، لأنه جواد كريم أجود من سُئِل وأوسع من أعطي وأحب ما إلى الجواد الكريم أن يسأله الناس ليعطيهم ومن لا يسأل الله يغضب عليه والسائل عادة يكون راجٍ مطالب أن يُعطى فمن لم يرجو الله يغضب عليه، فمن ثمرات الرجاء التخلّص من غضب الرب.

6- الرجاء حادٍ يحدو بالعبد في سيره إلى الله فيطيب المسير ويحث على السير ويبعثه على الملازمة، فلولا الرجاء بـ(المضاعفة-رحمة الله-الأجور والثواب المضاعف-الجنة والنعيم) ما سار أحد، والقلب يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء.

7-  يطرح على عتبة محبة الله عزوجل ويلقيه في دهليزها فكلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه؛ ازداد حبًا لربه وشكراً له ورضا، وهذا من مقتضيات وأركان العبودية.

8- الرجاء يبعث العبد على مقام الشكر لأنه يحفزه للوصول إلى مقام الشكر للنعم وهو خلاصة العبودية.

9- الرجاء يوجب المزيد من التعرف على أسماء الله وصفاته.

الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف عند المؤمن، لأن كل خائف راجي وكل راجي خائف، ولهذا حسن وقوع الرجاء في مواضع يحسن فيه وقوع الخوف  {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، قال المفسرين: مالكم لا تخافون لله عظمة، فكل راجٍ خائف من فوات مرجوّه، هذا يفسّر لنا كيف أن الرجاء مرتبط بالخوف وأن الراجي خائف أن يفوت مطلوبه ورحمة الله وجنته. انظر إلى التداخل العجيب بين مقامات الإيمان في قلب المؤمن، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط! قال تعالى:  {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14]، أي لا يخافون وقائع الله بهم كما وقعت في الأمم الذين من قبلهم من التدمير والإهلاك.

10- ثم إن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه فحصل المطلوب يحصل مزيد من التشجّع وسؤال المزيد والإقبال على الله وهكذا لا يزال العبد في ازدياد في الإيمان والقرب من الرحمن.

11- على قدر رجاء العباد وخوفهم يكون فرحهم يوم القيامة بحصول المرجو الأعظم وهو نيل رضا الرب والجنة ورؤية الله فيها.

وكذلك فإن الله يريد من العبد أن يكمل نفسه بمراتب العبودية من الذل والانكسار لله والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والصبر على أقداره والشكر له وعلى إنعامه، ولذلك يقدر الذنب على العبد لتكمل مراتب العبودية عند العبد فيستغفر العبد، فلولا الذنب ما حصل انكسار ولا توبة، يبتليهم بالذنوب ليعالج ما في قلوبهم بالانكسار وطلب التوبة فينكسر بين يدي الله فيتحقق معنى مهم جداً جداً من معاني العبودية!

كيف تتحقق العبودية إذا لم يكن هناك انكسار وذل وخضوع؟، أحيانًا لا يصدر الإنكسار والذل هذا إلا بذنب يتوب منه العبد ويعرف تقصيره والبلية التي وقع فيها وحجم المعصية. الرجاء فيه انتظار وترقّب وتوقع لفضل الله عزوجل فيتعلق القلب أكثر بخالقه.

أنواع الرجاء

الرجاء ثلاث أنواع، نوعان محمودان ونوع غرور مذموم.

1- رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فماذا يرجو؟ ثواب الله.

2- رجل أذنب ذنوبًا ثم تاب منها فماذا يرجو؟ يرجو مغفرة الله ومحو الذنوب والتجاوز عنها وسترها.

3- رجل متمادي في التفريط والمعاصي والسيئات ويرجو رحمة ربه والمغفرة بلا عمل! فهذا غرور وتمني ورجاء كاذب لا يعتبر رجاء محمودًا أبدًا.

والمؤمن عندما يسير إلى الله له نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله من العجب والرياء والاغترار بالعمل وهذا يفتح عليه باب الخوف من الله، وينقله بعد ذلك إلى سعة كرم الله وفضله وبره ومغفرة ذنوبه ويفتح له باب الرجاء، وهذا هو النظر الثاني ولهذا قيل في حد الرجاء وتعريفه هو النظر إلى سعة رحمة الله عزوجل ولابد من الموازنة بين الخوف والرجاء كما قال العلماء:"العبد في سيره إلى الله كالطائر يطير بجناحين، جناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما اختلّ نوعًا ما وإذا ذهب الجناحان صار الطائر في حدّ الموت"، ما هما الجناحان في سير العبد إلى ربه؟ هما الخوف والرجاء.

وقد سُئِل أحمد بن عاصم رحمه الله: "ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهِم الشكر راجيًا لتمام النعم عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة. هنا علماء القلوب أصحاب النظر والتأمل في الأمور الإيمانية اختلفوا، أي الرجاءين أعظم؟ رجاء الثواب والأجر من المحسن؟ أو رجاء المغفرة من التائب المسيء؟

فرجحت طائفة رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه، فعنده طاعات و أسبابه قوية فيرجو على حقّ، والأخرى رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه من انكسار ومسكنة مقرون بذلة رؤية الذنب واستحضار المعصية خالص من العجب والاغترار بالعمل، الحاصل أم كلا القولين له حظ من النظر، فكلا الرجاءين محمود ولابد من تحصيلهما معًا ولا يستغنى بهذا عن هذا، لأن المسلم إما أن يكون في طاعة يرجو قبولها أو معصية يريد غفرانها ومحوها.

أسباب قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبت رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لتعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر إرادات العبد وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء (العلاقة بين المحبة والرجاء) وكل محب راجٍ خائف بالضرورة فهو يرجو من يحبه أن يعطيه ما ينفعه ويخاف أن يسقط من عينه وأن يطرده وأن يبعده ويحتجب عنه لذلك خوف المحب شديد ورجاؤه عظيم، لكن هل إذا وصل إلى محبوبه ينتهي الرجاء أم لا؟ أم يشتد؟ وماذا يحصل له بالموت؟

المؤمن قبل الموت عنده رجاء وخوف عظيمين، أما إذا مات قالوا أن خوفه ورجاؤه ذاتي للمحبة، يرجو ربه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه بالموت اشتد الرجاء له بما يحصل له بهم من حياة روحه ونعيم قلبه من الألطاف، فالرجاء بما عند الله يزداد، وعنده أعمال صالحة يريد عليها الأجر والثواب والخوف أيضًا يزيد لأن الموت قرّبه إلى النار، والقبر أول منازل الآخرة، فقد دخل إلى المرحلة الخطيرة جدًا.

لذلك لا يمكن أن تقول أن الميت تنقطع مشاعره بل يمكن أن تعظم! مشاعرهم متضاعفة لأنهم اقتربوا إلى دار الخلد،إلى نعيم أو عذاب، فيمكن أن تكون بهذا في القبر فمن الآن زّود نفسك بالطاعات واترك المعاصي لتزيد عندك أسباب الرجاء وتأمن في القبر، الخوف في القبر مصيبة، إذ يخاف من سوء المطلع والذي يمكن أن يرتكس فيه إذا قامت الساعة ويدخله من عذاب الله فإذًا الآن هو الآن يشتد في العمل حتى إذا لقي الله صار طلبه للجنة وأمن الخوف.

الكفار ما حالهم في قبورهم؟

آل فرعون، فرعون وجنوده، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، معناها أنهم الآن في قبورهم خوفهم يتضاعف كل يوم! وهم يعرفون في أي حفرة سيقعون فكيف الآن خوفهم وذعرهم! نسأل الله السلامة والعافية. وإذا وصل العبد إلى ربه ولقيه ازداد رجاؤه إذا كان محسنًا لأن الأجير إذا جاء وقت الراتب ازداد رجاؤه في الذي سيحصل عليه فإذا قدم العباد هؤلاء المحسنون على الله وكلما مضى زمن كلما ازداد رجاؤهم فيما سيحصلون عليه وينتظرونه في قبورهم «ربِّ أقِمِ الساعةَ» (مسند عمر[2/494])،  كي يرجع إلى أهله ومال لأنه فتح له باب إلى الجنة في القبر فهو يأتيه من النعيم والطيب فيقال له: «نَمْ كنومةِ العروسِ الذي لا يوقظهُ إلا أحبُّ أهلهُ إليهِ» (سنن الترمذي[1071]).

درجات الرجاء

الرجاء درجات، درجة أرفع من درجة، ومراتب بعضها فوق بعض:

1- الدرجة الأولى: رجاء يبعث العامل على الاجتهاد بالعبادة بل يولد عنده اللذة بالعبادة ولو كانت شاقة أو صعبة فيتلذذ بها ويترك المناهي، ومن عرف القدر المطلوب هان عليه ما يبذل فيه ومن رجا الأرباح العظيمة في سفره هانت عليه مشقة السفر، كذلك المحب الصادق الذي يسعى في مرضاة الرب تهون عليه مشقة صلاة الفجر والوضوء في البرد ومشقة الجهاد و مشقة الحج والعمرة وطلب العلم وتكرار الحفظ وانتصاب الجسم في الليل وجوع الصيام، بل تنقلب إلى لذّة!

فالدرجات العملية في التعبد لله: مشقة ومن ثم لذة، يقول أحد العلماء: " كابدت قيام الليل 20 سنة ثم تنعمت به 20 سنة"، فالمرء لا يصل أحياناً إلى لذة العبادة إلا بعد أن يذوق مشقتها، فإذا قوي تعلق الرجاء بالعوض سمحت الطباع بترك العادات وترك الراحة، فالإنسان مفطور أن لا يترك محبوبًا إلا لمحبوب أعظم منه.

2-الدرجة الثانية: المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها واستبدال مألوفات هي خير منها فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بالهمة وهذا يلزم له العلم وهو الوقوع على الأحكام الدينية لأن رجاؤهم متعلق بحصول ذلك لهم ولابد من علم وبذل الجهد بالمعرفة والتعلّم وأخذ النفس بالوقوف عند الحدود طلبًا وقصدًا.

3- الدرجة الثالثة: رجاء أرباب القلوب لقاء الخالق والاشتياق إليه سبحانه وتعالى وهذا الذي يمكن أن يزهّد الإنسان في الدنيا تمامًا -أعلى الأنواع-، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْبِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [الكهف:5]، هذا الرجاء (اللقيا) محض الإيمان وزبدته وإليه تشخص أبصار العابدين المجتهدين وهو الذي يسليهم ولذلك ضرب الله لهم أجل تسكن إليه نفوسهم.

عمير بن حمام الأنصاري لما ذكر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» (صحيح الجامع[4426])، اشتاقت نفسه إلى لقيا الله فقال: "لئن عشت حتى آكل هذه التميرات إنها لحياة طويلة" فقاتل حتى قُتِل ولقي الله شهيدًا. فلما علم الله شوق هذه الطائفة من عباده وهم الندرة والقلة وأن نفوسهم تضطرب حتى تلقها؛ ضرب لهم موعدًا تسكن إليه نفوسهم وتعمل حتى تقدم إلى الله.

سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قول علي رضي الله عنه: "لا يرجون عبدٌ إلا ربه ولا يخافنّ إلا ذنبه" فقال: الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه، فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه  {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، لذلك قال علي رضي الله عنه: "لا يخافن عبد إلا ذنبه" وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه  {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر: ( يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسبّ الملوك وأطيعوني أعطّف قلوبهم عليكم)، فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله  {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]،  {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2].

والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم إن لم يكن في الدنيا؛ في الآخرة حين يقال: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم فاطلبوا منهم الأجر!،  {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]،  {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81:82]، فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة، قال تعالى:  {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].

فالذين كفروا أعماله كرماد اشتدت به الريح أي أصبح أخف من التراب في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء،  {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23]فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجه الله ومن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه.

أنواع الرجاء من حيث الراجي:

الراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة وهذا نوع من الاستعانة فإذًا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

لقد ورد الرجاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:

1-  بيان رجاء المؤمنين وهوالرجاء المصحوب بعمل :  {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218]، الذين صدقوا بالله ورسوله وما جاء به وتركوا ديارهم وأحبابهم وأوطانهم وتغربوا عن أمصارهم وتحولوا عن بيوتهم هجرة إلى الله وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم وقدموا وبذلوا وقاتلوا وحاربوا وتحملوا الجراحات وألم طريق الجهاد والمخمصة والجوع والظمأ والنصب؛ هؤلاء يرجون رحمة الله عنهم الله ويطمعون أن يرحمهم  فيدخلهم جنته سبحانه وتعالى.

2-  الله عز وجل فتح باب الرجاء لعباده حتى في مغفرة أي ذنب كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذه الآية قيل أنها نزلت بعد قوله تعالى:  {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والشرك؟ فكره رسول الله ذلك فنزلت هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} والمقصود أن الله لا يغفر للمشرك إذا مات على الشرك، ولا يدخل المشرك تحت المشيئة وأما إذا تاب المشرك فإن الله يغفر له ذنبه حتى لو كان الشرك، والآية في المشيئة وليست في نفي المغفرة عن التائب عن الشرك..

3-  {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12]، قال ابن جرير: قضى أنه بعباده رحيم فكيف تتمثل هذه الرحمة؟ قال: لا يعجل عليهم العقوبة مع أنهم مستحقون بل يصبر ويحلم ويقبل منهم الإنابة والتوبة فهذا يعلقهم بالرجاء {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام:54]، قال ابن جرير: فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك يا محمد القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا فيقرون بذلك قولًا وعملًا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم هل لها من توبة؟ فلا تيأسهم منها وقل لهم سلام عليكم أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها أي عليكم الأمان لن يعاقبكم بعد توبتكم منها، كتب ربكم على نفسه الرحمة أي قضى الرحمة بخلقه سبحانه وتعالى.

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:102:103]، قال ابن جرير: "يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه والعمل السيء اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والآخر السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج غازيًا عسى الله أن يتوب عليهم ،وعسى من الله واجبة، يعني سيتوب فعلًا وحقًا.

4-  الرجاء مفتوح حتى في أمور الدنيا، يرجو مال، ولد، زواج، وظيفة، زوال مرض، وجود مفقود، فيعقوب عليه السلام علم أبناءه الرجاء حتى في المفقودات الدنيوية  {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، قال ابن جرير: حين طمع يعقوب في يوسف قال لبنيه يا بني اذهبوا للموضع الذي جئتم منه وخلفتم أخويكم به ولا تيأسوا من روح الله ولا تقنطوا من أن يروّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن و يفرّحنا برؤيتهما إنه لا ييأس من روح الله ولا يقنط من فرجه ورحمته ولا يقطع الرجاء منه إلا القوم الكافرون.

5-  {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فلا تيأسوا من رحمة الله أن الله يغفر لكم ذنوبكم كلها ولا يبقي منها شيئًا ولا نصفها ولا بعضها ولا الكبائر فقط، وليس الخطاب للذين عندهم معاصي قليلة بل أسرفوا وكثرت معاصيهم وكبائرهم وصغائرهم، لا تقنطوا من رحمة الله، فهذا أمر من الله بالرجاء، فالكريم إذا أمر بالرجاء لا يليق به إلا الكرم، فابذل السبب، واستغفر وتب توبة حقيقية وامتنع عن الذنوب وأصلح واستقبل حياة نظيفة واندم على ما فات واعزم على أن لا تعود إليه.

6-  الحديث القدسي: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة»، هذا الرجاء العظيم الذي يفتحه الله عزوجل، هذا فتح باب الرجاء للعباد.

7-  إن الإنسان له عند الموت أحوال في الخوف والرجاء خاصة مبنية على حسن ظنه بالله: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فليظن بي عبدي ما شاء»، قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به، لذلك الثلاثة الذين خلفوا لما ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب الله عليهم، فبالنسبة للموت يجب أن نجهز أنفسنا لتلك اللحظات لتفيض أرواحنا ونحن نحسن الظن بالله، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث أيام أعطى الأمة هذه الوصية التي رواها مسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزوجل» [2877]، فهذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة.

لهذا بعض السلف كان يأمر بنيه عند الموت أن تقرأ عليه آية الرحمة؛ حتى تطلع روحه وهو محسن الظن بالله أن يغفر له ويرحمه ويتقبله ويستقبله بالإنعام، وكذلك فإن الإنسان إذا صدق بالتوبة ولو تكرر الذنب فإن الله يغفر له ما أذنب، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، قال: ألا أبشّر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا.

هذا دليل كما قال ابن رجب: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، يقول ابن رجب: وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادًا في العمل، وخشية لله عزوجل فأما من لم يبلغ منزلته فلا يأمن أن يقصر إتكالًا على ظاهر الخبر. ومعاذ من العشرة المبشرين بالجنة، وفقيه لا يخشى عليه. كذلك عثمان فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» [سنن الترمذي:3701]، ماذا فعل؟‍‍!، لقد ازداد في الخير والبر والطاعات، هذه النفوس الله يعلم لو بشرهم برضوانه فإنهم لن يتركوا الخيرولن ينتكسوا، لذلك فأحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس ففيهم قلة فقه في الدين ويحتاجون عند التفريط إلى التخويف.

ثم إن الشرك شرك أكبر وأصغر وخفي، ومن الذين ينجو منه؟، ثم إن الحديث مقيد عند العلماء بالآيات و الأحاديث الأخرى التي فيها التعذيب على المعصية، وبعض العلماء حملوها على ترك دخول نار الشرك، لأن جهنم فيها دركات(نار الشرك-نار الكبائر-نار المعاصي-...) حملوه حتى لا يفهم خطأ على أنه لا يدخل نار الشرك.

القاعدة العامة  {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، فالسلف خوفتهم هذه الآية جداً فلذلك كانوا يعملون ويخافون، ومن أحاديث الرجاء التي تقال لإنسان مذنب تاب، وبالرغم من التوبة صار عنده نوع من اليأس والإحباط ويرى ذنوبه كبيرة وليس هناك فائدة من العمل، فهو كما يظن محكوم عليه بالنار : «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» [صحيح البخاري:2441]

عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجل أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله  {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: ألي هذه؟ قال: لجميع أمتي كلهم. تصريح أن الحسنات تكفر السيئات، وهل هي حسنات معينة كالصلوات الخمسة؟ أو هي الحسنات مطلقاً كما قال  العلماء وبعضهم بهذا وبعضهم بهذا.

في مرض الموت قيل للشافعي كيف أصبحت يا أبا عبدالله؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلًا ولأخواني مفارقًا ولكأس المنية شاربًا ولا أدري أءلى الجنة تسير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيهاثم أنشأ يقول:

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلّماً

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظم

«من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» [صحيح مسلم:2685]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ولابد من الجمع بين الخوف والرجاء.