إرهابهم وإرهابنا: بين الإدانة والاعتذار
محمد بوقنطار
ية وهي توزع الموت وتزرع الرعب كانت تسمي إرهابها هذا في الاستعمال الرسمي بحرب التحرير ومكافحة الإرهاب وتجفيف منابع التطرف، مع أن واقع الحال أثبت أن الأمر لا يعدو أن يكون سياسة مرسومة تسترق العباد وتستغل البلاد وتجتاح الإسلام بغية اجتثاث جذوره من دوائر نفوذه وسلطانه.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
عندما أسس ابن خلدون لقاعدة أن المغلوب مولع بتقليد الغالب؛ نسي أن يقيد إطلاق قاعدته بضابط أن المقلد المغلوب لا يستهلك من جانب تقليد الغالب إلا ما كان له تعلق بالصورة والشكل على الحصر والقصر.
ولربما كان إطلاقه صالحا للزمان الذي عاش فيه ظرفا ومكانا، وعلى أي فليس في الإمكان إلا تقييد مطلقه بناء على ما راكمته تجربة التقليد في ما عاصرناه مع جيل التقليد والمغلوبية، وربما استطاع المغلوب أن يغادر درك الصورة ولكن وللأسف فكدح المغادرة هذا لا يتجاوز الصدح إذ يبقى حبيس خطابه الهلامي الذي مارس ويمارس من خلاله تعتيم وتوهيم المغادرة.
ولعل المتتبع لسلوكيات رد فعل المغلوب وهو ينتفض ضد تراثه ويمارس فعل الانسلاخ عن هويته يجده مثلا يرمينا ونحن نتعبد الله بتأخير اليمنى وتقديم اليسرى في مواضع؛ والعكس بالعكس في مواضع أخرى؛ بحقيقة تخلفنا وتقدم الغالب الذي وطئت قدماه أديم القمر وبلغ تقدمه المادي مبلغ شطر الذرة وهلم جرا من مسترسل معطوفات الابتكارات والاختراعات المادية التي تطوف حولها قلوب الأجيال المنكودة فتركن إلى وثن صورتها في ذل وخضوع مكتفية بمكاء وتصدية لا تغنيان من جوع ولا تعزان من هوان.
فلا غرابة والوضع على شاكلة ما سلف ذكره أن نجد هذه الأجيال اليوم قد أكلمها حد الوخز والمعاناة ما وقع في فرنسا من ترويع وقتل محدود الزمان محصور المكان محدد العدد، بينما لم نر أو نسمع أو نحس أنها اكترثت أدنى اكتراث لأشلاء وركام جثث إخواننا المتناثرة هناك وهنالك، ودمائهم المهدرة في سيل واد عرم وفي حبل زمان طال ويطول، ولسنا نستشرف لطوله حدا معلقا ولا إمساكا محققا، إن عضلات وجوهها لم تتقلص كما لم تسترخ في حزن وحنو من هول الصور والأصوات والروائح التي تؤثث لمأساتنا في مشارق الأرض ومغاربها، تلك المأساة التي كاد ويكاد يراها الأكمه، ويسمع أنينها الأصم، ويتحدث بفصولها الأبكم.
وكيف ولِم تتقلص في تمعر أو تسترخي في عطف وحنو وقد استمرأ أصحابها من بني الجلدة النظر إلى هذه المعاناة في شماتة ونشوة وغفوة، يحسبون علينا كل صيحة، صغيرتنا في سجل انطباعهم الأول والأخير كبائر لا تغتفر، يعتقدون في يقين أن أرخص اللحم في سلخانة مدنية الأسياد كان وأضحى وأمسى وبات هو لحم المسلمين.
ومن ثم فأين الحرج أن يُعمل الجزارون مداهم وسكاكينهم وبنادقهم وقنابلهم وبراميل متفجراتهم وصواريخهم فتردي وتقتل في أرضنا المحوزة الكل؛ فلا حيوانا وقرت؛ ولا رضعا رحمت؛ ولا شيوخا استثنت؛ ولا حرائر استحيت، وربما رقت لمأساتنا شعوب لا دين لها ولا ملة وأشفقت لحالنا فخرجت لتحتج على ما ينزل بنا من قتل وإبادة وتنكيل وتكالب وتهارش، بينما اعتلى هؤلاء ممن يأكلون من خيرها وينيبون لغيرها ركام أشلائنا وركبوا بحر دمائنا ليحذروا من الإرهاب الإسلامي وإرهاب المسلمين باعتباره السلوك الأوحد الذي يتهدد الإنسانية ويخرق هدوء أمنها وطيب سلمها، مستغلين أدق الاستغلال ما شذ عن أصل الاعتدال وقواعد الحلم والتسامح الإسلامي نصا ونسمة.
وهوالاستثناء الذي يصدر وصدر من فئات قليلة من المسلمين أشهرت سيف الخروج وأذاقتنا طعم القتل نحن ابتداء، ثم آثرت المواجهة المستوعبة لكلنا مقابل بعضهم في دائرة ما يعرف في أدبياتها في إطار ترتيب الأولويات بين الردة والكفر، ومن ثم بين أحكام المرتد وأحكام الكافر، ومن منهما الأولى بالمواجهة، ولسنا هنا نحتاج إلى مزيد تفصيل لكي نوضح الفرق الفارق بين عدد ضحايا جنس المرتد ونعني به مَن مِن المسلمين شق عصا الطاعة ولم يبايع خليفة القوم المزعوم، وعدد ضحايا الكفر ممن نحسب لأنظمتهم وعليها الحظ الأوفى في نشأة وتأسيس وفلسفة وجود هذا الكيان الغادر الشاذ.
ثم إننا نملك شعوبا وحكومات علماء ومقلدة وعواما جرأة الاستنكار في براءة من هذا الفكر وكذا مواجهته بالمقاربتين الفكرية والأمنية، فهل امتلك الغرب الشجاعة الكافية ليقر ويعترف بإرهابه وحساباته البئيسة وتكهناته المفلسة، والتي أهلكت سياسة الأخذ بها حرثنا وزرعنا وضرعنا ونسلنا.
فقد دخلت أمريكا بخيلها ورجلها إلى العراق تحت ذريعة كذبة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل ليتبين للكل بعد انهيار نظامه والتوقيع على هذا الدخول الحائف بركام ضارب في الطول والعرض من القتلى والثكالى والمعطوبين والمفقودين أن الأمر لم يكن غير سراب هو أوهن من الحبر الذي كتب به صكه الغادر، فهل سمعنا أو سجل التاريخ في درج أضعف الظلم اعتذار آل بوش وصقور البيت الأسود لشعب العراق وأفغانستان والفيتنام وحبل معطوفات الضحايا طويل الذيل عريض السيل.
وحتى لا نفارق لغة الأرقام نسأل مستفسرين في غير تجويز ولا شماتة عن عدد ضحايا الغرب جراء العمليات التي خرقت هدوء وأمن المواطن الغربي واستهدفته داخل حقل حدوده الواسعة، ولنبدأ بضحايا تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر والذي بلغ 2973 قتيلا، بينما نجد أن عدد ضحايا تفجيرات مدريد سنة 2004 م لم يتجاوز 191 قتيلا، ثم نجد أن تفجيرات لندن في سنة 2005 م خلفت 56 قتيلا بينما كان عدد ضحايا حادثة شارلي إيبدو هو 12 قتيلا، فيما بلغ عدد قتلى أحداث باريس الأخيرة 128 قتيلا، وهي الأحداث التي استوقفت أنفاس العالم ونكست لها أعلام الغرب ومعها العرب قاطبة وناح لضحاياها البعيد قبل القريب.
ولعل عملية جمع بسيط توضح أن مجموع ما قتله إرهابنا من القوم لم يتجاوز عتبة 3360 حسب التقديرات الرسمية هناك لا هنا، ولك أن تقارن أيها المنصف المتجرد الذي سجلت اسمك ورسمك في قائمة المؤبنين والنوحى والغاضبين الشاجبين المستنكرين في مروق من الإسلام والبراءة من أهله قبل الإرهاب ومرتكبيه تضامنا مع فرنسا المكلومة الجريحة جرح ليلة واحدة ووحيدة، لك أن تقارن بين هذا المجموع وتفصيل جمعه وطرحه وقسمته وبين عدد شهدائنا من أطفال سوريا فقط والذي تجاوز سقف 15930 شهيدا بينما تجاوز عدد ضحايانا من شهداء غزة إثر العدوان الصهيوني الأخير 2142 شهيدا ناهيك عن عدد ضحايا الغزو الأمريكي من العراقيين والذي بلغ رقما كارثيا قدر إلى الآن بـ1.455.590 قتيلا إضافة إلى جمهرة الضحايا والمنكوبين والمشردين من الأفغان.
والعجيب أن الحكومة الأمريكية وهي توزع الموت وتزرع الرعب كانت تسمي إرهابها هذا في الاستعمال الرسمي بحرب التحرير ومكافحة الإرهاب وتجفيف منابع التطرف، مع أن واقع الحال أثبت أن الأمر لا يعدو أن يكون سياسة مرسومة تسترق العباد وتستغل البلاد وتجتاح الإسلام بغية اجتثاث جذوره من دوائر نفوذه وسلطانه، وفتنة ذويه عن تركة الإرث الإسلامي المبارك ومن ثم تقديم كله قربانا للطامعين والجوعى والمتربصين وكأن هذا الكل قطيع غنم أعزل أُهدي إلى هالة من الذئاب لا ترحم.
والأعجب أننا معشر المغلوبين ونحن في غمرة التقليد والانبهار بصورة الغالب ننسى مآسينا وأحزاننا وقتلانا وجرحانا التي ذهبت أعيانها وبقيت آثار ما عانته في ضراوة مقرفة مسجلة في صفحات تاريخنا، ولكننا ضربنا صفحا عن ذكر واجترار ذوقها المر ووقفنا نلبس ثوب الأغرار ننظر في بلاهة لجرح عارض أصاب المتغلب في غير مقتل.
والغريب أن نتماهى حد السفاهة والبلاهة، فنقف عاجزين عن رد تهمة الإرهاب عنا ودفع كبيرة رمينا بالتطرف والعنف، حتى إذا ما تحركنا كانت الحركة في صوب الارتداد على الأعقاب والسعي وراء المطالبة بعزل الإسلام وفك الارتباط به وإخراجه بعيدا عن سياق المدافعة والمجاهدة، متوهمين بوعد أو بغيره أن هذا العزل والإخراج ربما كان له وقعه في التخفيف من ضراوة سياسة القتل والتشريد الذي سامنا إياه الغرب وأذاقنا من ألوان عذابه وصنوف ساديتهوبربريته مستبيحا منا العرض والنفس والأرض.
والمستغرب أن نستبعد في صفاقة وجه الإقرار بما وصل إليه الغرب من درك معيب وظلم مهيب، ثم نسلط اللسان ونرسل البصر الكرة والكرتين ونُجري أنهارا من المداد في بناء مشروع إدانة الإرهاب الإسلامي، ونحن من نحن؟ نحن الذين ننتمي إلى أمة موصولة بالله أمر نبيها في زمن الظهور والقوة والغلبة الفاتحين الأبرار بأن: لا يغدروا ولا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا صبيا ولا وليدا ولا مريضا ولا شيخا كبيرا ولا راهبا منعزلا، ولا يسرفوا في القتل ولا يمثلوا بجثة، وأن يحسنوا للأسير بإطعامه وإكرامه، ولا يهدموا معبدا ولا بناء ولا يخربوا عامرا ولا يذبحوا بعيرا ولا بقرة إلا للأكل، وأن يوفوا بالعهد ملتزمين خلق العفو والصفح عن المستسلمين وألا يجبروا أحدا على الإسلام.
فهذه أخلاق نبينا في مقام الاقتداء والتأسي، فأين هذا مما كتبه سادتكم في مواثيقهم الدولية الغاشمة ثم انبرت لتوقيعه على الأرض عساكرهم الباغية ووقعت عليه بالنار والدخان آلتهم الحربية الحضارية مخلفة من جنس دمائنا أنهارا وأودية، حتى إذا جاء ذكرنا في سياق قوانينهم فلا يأتي إلا مقيدا بالعنف والتطرف والإرهاب والبربرية، مذيلا بحقهم المطلق في استباحة ما ظهر منا وما بطن آناء الليل وأطراف النهار.