[08] يوسف في السجن - الجزء الثالث

ألم يكن في الناس كلهم من يتولى هذا الأمر، حتى يتقلد الأمر أحد سجناء المملكة؟ أم أن القرآن يخاطب الملوك والرؤساء والقادة ألا ينسوا أهل السجون من تولى المسؤليات فقد يكون فيهم " القوي الأمين"{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وقد يكون فيهم " الحفيظ العليم" ويُحرم المجتمع من هذه النماذج، بسبب حكم القاضي الذي غيب هذه النماذج، وغيب عطاءها ونفعها لأمتها. إن هؤلاء السجناء مازالوا مواطنين لهم حق المواطنة.

  • التصنيفات: قصص الأنبياء -

رد الاعتبار حق للمظلوم

إن يوسف عليه السلام لم يكفه أن يكون محسنًا وصديقًا، بل تكلف موقفًا لو كان هناك من صيغ المبالغة ماهو أقوى من صيغة: (صِدَّيق) لاستحقه يوسف بجدارة، وكما أن الظالمين لم يكتفوا بسجن يوسف على براءته، بلا لا بد وأن يكونوا قد ألصقوا بالبريء التهم، وأذاعوا عنه مايبرر ظلمهم، بل ويعطي لهم الحق في سجن البرآء الأطهار، فإن يوسف عليه السلام استمسك بحقه في رد اعتباره وإثبات طهارته وبراءته كشرط لإتيان الملك.

وحينما يستجيب الملك لطلب يوسف عليه السلام، فيجمع النسوة ليحقق معهم هذا الأمر {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} [يوسف:51]، يملأ الإنسان العجب من هذا الموقف النبيل، في الرجوع إلى الحق، ورد الحقوق إلى أصحابها، كما يملؤه الاشمئزاز من كذب الحضارات الحديثة ذات المؤسسات الديمقراطية التي تتنكر لحقوق الشعب والأمم، في أن تختار لنفسها أسلوب حياتها فتفرض عليها عولمتها جبرًا دون اختيار، وإلا فالمحاصرة والمقاطعة والحرب إن لزم الأمر، وإهلاك النسل ونشر الفساد وتمكين المفسدين في الأرض، وتنتقل أساليب العولمة داخل أفرعها في الدول بحال التجريب.

فيحق لظابط شرطة أن يقتحم المساكن في هدوء الليل، ليروع الآمنين وليزرع في قلوب الناس الخوف والهلع، على طريقة إلى بيت الضحية، وهناك يروع الأطفال والنساء وينهب مايشاء، وكأن حق الملكية، وحرمة البيوت وحرية الأشخاص لم يعد لها أدنى نصيب من الرعاية والاعتبار ويجمع مايشاء، وكأنه غنيمة غنمها من عدو يحاربه، فإذا قال له صاحب البيت أثبت هذه المضبوطات؛ لعنه وسبه، ونال من عرضه ودينه، ولطمه على وجهه فتقع نضارته، فيستأذن ليأخذها فيدوس عليها بقدمه ليفتتها- فتته الله- ويقول ها هي نظارتك، وكل ذلك في بيته وعلى مرأى ومسمع من الحملة الفاجرة الظالمة، وعلى مرأى ومسمع من أهل بيته، ثم يأخذونه ويحبسونه على ذمة التحقيق إلى متى؟ الله أعلم، وفي السجن تواصل وزارة الداخلية ظلمها، ويمتد الحبس الاحتياطي إلى أمد غير معلوم، ليس للقانون ولا لأحكام المحاكم، ولا لحقوق المسجون أي حساب، لأن هناك قانونًا اسمه قانون الطوارئ الذي عاش إلى أرذل العمر، وكلما نادى المنادون بإلغائه ردد الببغاوات: إننا لا نطبق القانون إلا على الإرهابين، وتقوم وزارة الإعلام من خلال إذاعتها المرئية والمسموعة ووسائلها المقروءة تكيل التهم الكاذبة، اللهم شُل يدًا امتدت إلى بريء بالأذى، وأخرس لسانًا سب برئيًا ونال من دينه وعرضه وقال زورًا وروج منكرًا من القول غرورًا، وعوق جمعًا حُشد لحرب الله ورسوله والمؤمنين، وأبطل كيدًا كاده أعداؤك وأعداء رسولك، وأعداء المؤمنين من عبادك الصالحين، واشف صدورنا وأذهب غيظ قلوبنا.آمين.

ويطوى السياق ما كان بعد البراءة، وكيف بلغت يوسف عليه السلام وكيف جاء يوسف إلى الملك، واجتمع به وكلمه، وقال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].

{فَلَمَّا كَلَّمَهُ} [يوسف:54]

وهكذا ينتهى الانفتاح والتواصل والحوار عبر رسالة {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} [يوسف:42] ثم يتأخر الرد بضع سنين إلى أن يعود التواصل عبر رسالة: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46] ثم الأمر الإلهي: {ائْتُونِي بِهِ} [ يوسف:50] ثم اشتراط يوسف عليه السلام: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:51] ثم الأمر الملكي {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، ويخرج السجين إلى القصر الملكي ليلتقي الملك مباشرة ويكلمه مباشرة، ويختاره الملك ليكون ذا مكانه ومرتبة عظيمة موثوقًا به مأمونًا وأمينًا على كل شيء.

إن الحاشية الملكية مملوءة بهذه المكانات والمراتب، ومزدحمة بأهل القرب والحظوة. وفي هذه الدائرة يحرص الكل على مكانته بل على مكانة غيره، ممن يعلوه وتكثر الوشايات والمكائد والحسد وتسود أخلاق النفاق والتزلف.

أترى يوسف عليه السلام حسب لهذا الأمر حسابه فنأى عن كل مايلوث سمعته، وقد حرص على ألا يخرج من السجن إلا طاهرًا مبرءًا وعلى هذا كان اختياره: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، حيث الكفاءة والقدرة والعلم والأمانة، وحيث العمل والاتصال بالناس وقضاء حوائجهم ودراسة مشاكلهم والعدل بينهم بإيصال الحقوق إلى أهلها من غير تحيز إلى ذي سلطة أو جاه، أو قرابة أو نسب أو...

وبهذا يكون قد أثر جانب المجتمع والعامة على السلطان والخاصة  و«خير الناس أنفعهم للناس» [السلسلة الصحيحة:426]، فقال عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]

ألم يكن في الناس كلهم من يتولى هذا الأمر، حتى يتقلد الأمر أحد سجناء المملكة؟ أم أن القرآن يخاطب الملوك والرؤساء والقادة ألا ينسوا أهل السجون من تولى المسؤليات فقد يكون فيهم " القوي الأمين"{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وقد يكون فيهم " الحفيظ العليم" ويُحرم المجتمع من هذه النماذج، بسبب حكم القاضي الذي غيب هذه النماذج، وغيب عطاءها ونفعها لأمتها. إن هؤلاء السجناء مازالوا مواطنين لهم حق المواطنة.

إن الأسوار العالية والأبواب السوداء، والتهم التي ألصقت بهؤلاء، عدلًا أو ظلمًا، لايجب أن تمنع من الاستفادة بإمكانات هؤلاء ومشاركتهم في تحمل المسوؤلية نحو وطنهم الذي رعاهم ونماهم وأوصلهم إلى ماهم فيه من قدرات وإماكانات، يجب أن يُفيدوا بها وطنهم، سدادًا للدين واعترافًا بالفضل والجميل. وإلا ففي عزل هؤلاء عن المجتمع نبذ لهم وقتل لانتمائهم وإهدار لطاقاتهم وضمور لمواهبهم، وكفى بذلك خسارة للأمة لو وقف الأمر عند هذا الحد، وإلا فما بالك بأثر كل ذلك على أهليهم وذويهم، وكل من يعرف هؤلاء وله صلة بهم.

 

د. محمد عبدالمعطي الجزار.