محدث الشام ومحدث العصر(6)
خالد سعد النجار
محمد ناصر الدين الألباني محدث الشام ومحدث العصر (1333هـ/1914م-1420هـ/ 1999م)
- التصنيفات: التاريخ والقصص - تراجم العلماء -
من روائع الشيخ الألباني
التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما [1]
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد؛
فنحن اليوم في زمن وصل فيه المسلمون إلى حد ـ لا يمكن أن يصل إلى أسوأ منه مسلم يؤمن بالله ورسوله ـ من الذل والاستعباد من الآخرين؛ ولذلك ولشعور كل منا بما نزل بنا من هذا الذل المخيم على جميع البلاد الإسلامية نتساءل دائمًا وأبدًا عن السبب الذي أدى بالمسلمين إلى هذه الحالة المزرية السيئة، والوضع المهين المخزي، والسر في وصولهم إلى هذا الدرك المنحط من الذل، كما نتساءل عن العلاج والدواء؛ لنتمكن من النجاة من هذا الذل والشقاء..ثم تتنوع الآراء وتتعدد الملاحظات، وكل يأتي بمنهج أو سبيل يرتئيه لحل هذه المشكلة، ومعالجة هذه المعضلة.
وأنا أرى أن هذه المشكلة قد ذكرها الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووصفها في بعض أحاديثه الثابتة عنه، وبيّن علاجها، ومن هذه الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: «المرض الذي شاع حتى أحاط بالمسلمين، فذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نوعين من المرض على سبيل التمثيل لا التحديد.
» (رواه أبو داود وأحمد) فنجد في هذا الحدث ذكرمن أمراض المسلمين:
النوع الأول: هو وقوع المسلمين في بعض المحرمات بالاحتيال عليها وهم على علم بها: وهذا كامن في قوله - عليه الصلاة والسلام -: « » فالعينة: نوع من البيع يشير هذا الحديث إلى تحريمه، ولكن بعض الناس رأوا إباحة ذلك؛ لأنها وضعت في باب البيع والشراء، واستدلوا على ذلك بالعمومات التي تدل على جواز البيع؛ كمثل الآية المشهورة: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فقالوا: هذا بيع وشراء، فلا بأس أن يزيد أو ينقص!
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أولاً: مبين للناس؛ كما قال ربنا - تبارك وتعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44]
وهو ثانيًا: كما وصفه ربنا - تبارك وتعالى - بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128] فمن رأفته ورحمته بنا - عليه الصلاة والسلام -؛ أن نبهنا على مكامن احتيال الشيطان على بني الإنسان، وحذرنا أن نقع في أحابيله في أحاديث كثيرة جدًا، منها ما نحن الآن في صدده، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إِ » أي: إذا استحللتم ما حرم الله ورسوله بأدنى الحيل باسم أن هذا بيع، والحقيقة أنه ستار، وأنه استدانة مقابل زيادة، وهذا ربًا مكشوف، فحذرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث من أن نقع في مثل هذا الاحتيال لاستحلال ما حرم الله، فذلك أخطر من أن يقع المسلم في الحرام وهو يعلم أنه حرام؛ لأنه يرجى له يومًا ما أن يعود إلى ربه ويتوب؛ لأنه على علم بأن ما يفعله حرام.
أما إذا كان قد زُيَّنَ له سوء عمله لسبب من الأسباب؛ إما بالتأويل الخطأ أو بالجهل البالغ، فظن أن عمله لا شيء فيه، فبديهي أن لا يخطر في باله يومًا ما أن يتوب إلى الله، فكان خطر المُحَرَّم المُسْتَحَلِّ فكريًا واعتقاديًا أشدّ بكثير من المُحَرَّم المكشوف، فالذي يأكل الربا، ويعلم أنه ربا، ويعتقد أنه ربا؛ هذا ـ مع أنه يحارب الله رسوله كما في نص الآية ـ خطره في النتيجة أيسر من ذلك الذي يأكل الربا وهو يعتقد أنه إنما يأكل حلالاً، هذا كمثل الذي يشرب المسكر ويعتقد أنه حرام، فيرجى أن يتوب إلى الله، أما الذي يشرب المسكر، وهو يعتقد لسبب ما أنه شراب حلال؛ فهذا أخطر من ذاك؛ لأنه لا يتصور أن يتوب عنه أبدًا ما دام يسيء فهم حكم هذا الأمر.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ذكر بيع العينة ـ كما ذكرنا في مطلع الكلام ـ على سبيل التمثيل لا على سبيل التحديد، فيشير إلى أن كل حرام يرتكبه المسلم مستحلاً له بطريقة ما من طرق التأويل؛ فهذا من نتائجه أن يذله الله - عز وجل - ويذل بسببه المسلمين إذا فشا فيهم وشاع.
النوع الثاني: ثم ذكر النوع الثاني من الأشياء التي يشترك الناس كلهم في معرفة مخالفتها للشريعة، فقال: «الدنيا، تحصيل الرزق باسم أن الله أمرنا بالسعي وراء الرزق، فيبالغ المسلمون في ذلك، وينسون ما فرض الله عليهم من الفرائض، ويلتهون بالسعي وراء الزرع والضرع، وما شابه ذلك من المكاسب، فينسيهم ذلك ما فرض الله عليهم من الواجبات، وذكر على سبيل المثال الجهاد في سبيل الله؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: « ».
» أي: انشغلتم بالسعي وراء حطامهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد تحقق فينا هذا الذل؛ فيجب علينا أن نأخذ العلاج من هذا الحديث بعد أن وصف المرض، وما سيثمر هذا المرض من ذلك، فقد تمسكنا بالأدواء، وأدت بنا إلى المرض، ألا وهو الذل، فعلينا إذن أن نعود إلى تطبيق الدواء الذي وصفه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وصرح بأنه إذا رجعنا إليه رفع الله عنا هذا الذل.
والناس يقرءون هذا الحديث، ويسمعون كثيرًا قوله -صلى الله عليه وسلم- «
» فيظنون أن الرجوع إلى الدين أمر سهل، أما أنا فأرى أن الرجوع إلى الدين يحتاج ـ كما يقال عندنا ـ إلى «هز أكتاف»، وذلك لأننا جميعًا نعلم أن هذا الدين قد أصيب بمحاولات كثيرة لتغيير حقائق كثيرة منه، وقد استطاع بعضهم أن يصل إلى مثل ذلك التغيير أو التحريف، فبعض هذا التغيير معروف لدى كثير من الناس، وبعضه ليس كذلك؛ بل على العكس من ذلك عند جماهير الناس فهناك مسائل ـ بعضها اعتقادية وبعضها فرعية فقهية ـ يظنون أنها من الدين، وهي ليست من الدين في شيء.كيف يرجع المسلمون إلى دينهم؟
وهو العلاج الذي نص الرسول - عليه الصلاة والسلام - على أنهم إن أخذوه؛ رفع الذل عنهم؛ وإلا فلا: « » إذاً: العلاج الوحيد هو الرجوع إلى الدين؛ لذلك فأنا أرى أن أي إصلاح ـ يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام، والناشدون لإقامة دولة الإسلام بإخلاص - هو أن يعودوا إلى أن يفهموا أولاً أنفسهم، ويفهموا الأمة.
ثانيًا: الدين الذي جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - وذلك لا سبيل إليه ـ فيما أعتقد اتفاقًا بين جميع الفقهاء بأنه لا سبيل إلى الرجوع إلى فهم الدين على الحقيقة التي أنزلها الله - عز وجل - ـ إلا بدراسة الكتاب والسنة، ولا جرم أن الأئمة رحمهم الله حذروا أتباعهم الأولين الذين كانوا على علم من أن يتبعوهم، وأن يقلدوهم، ويجعلوهم الأصل في الرجوع، وينسوا بذلك أصل الشريعة: الكتاب والسنة.
ولستم بحاجة جميعًا إلى أن نسوق لكم أقوال الأئمة التي تدندن كلها حول الكلمة التي صحت عنهم جميعًا: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) فحسبنا هذا القول منهم الآن، فهذا دليل على أن كل إمام من أولئك الأئمة نصح نفسه، ونصح أمته وأتباعه حينما أمرهم بأن يرجعوا إلى الحديث إذا كان مخالفًا لاجتهاده ورأيه..فهذا إذاً يفتح الطريق ـ حتى باسم تقليد الأئمة ـ للرجوع إلى الكتاب والسنة.
مسائل تخالف السنة الصحيحة
فنذكر بعض الأمثلة ـ وهي لا تزال موجودة في كتبنا تدرس في كل المدارس الشرعية والكليات وما شابه ذلك ـ: في أحد المذاهب الإسلامية أنّ المصلي إذا دخل في الصلاة يسدل يديه ولا يقبض. لماذا؟! هكذا المذهب! بينما جهد كل علماء الحديث بأن يأتوا بحديث واحد ولو ضعيف ـ بل ولو موضوع ـ على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبض بيده اليمنى على اليسرى إذا وقف يصلي، هذا لا وجود له، فهل هذا هو الإسلام؟ أنا أعرف أن البعض سيقول: إن هذا من المسائل الفرعية، وقد يتساهل بعضهم في التعبير فيقول: هذا من التوافه. وأنا أعتقد أن كل شيء جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما له علاقة بالدين والعبادة؛ فليس من توافه الأمور.
نحن نعتقد أن كل ما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - يجب أن نتبناه دينًا أولاً؛ مع وزنه بأدلة الشريعة؛ إن كان فرضًا ففرض؛ وإن كان سنة فسنة، أما أن نسميه أمرًا تافهًا أو قشورًا؛ لأنه مستحب! فهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء إطلاقًا؛ لاسيما وأن اللب لا يمكن أن نحافظ عليه إلا بالمحافظة على القشر، أقول هذا لو أردت أن أجادلهم باللفظ.
هذا المثال البسيط ـ وهو السدل في الصلاة ـ؛ لماذا يستمر المسلمون على العمل به، والأحاديث تترى في كل كتب السنة على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقبض؟! ليس هناك إلا التقليد والجمود على مخالفة الأئمة في قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
قد لا يرضى هذا المثال البسيط بعض الناس، فنذكر مثالاً آخر، وهو: أن بعض كتب فقه المذاهب ما زالت تذكر بأن الخمر قسمان: قسم مستنبط من العنب؛ فهذا قليله وكثيره حرام، وقسم آخر مستنبط من غير العنب: من الشعير، أو من الذرة، أو من التمر، أو غير ذلك مما تفنن اليوم الكفار في استنباط الخمر منه، فهذا النوع من الخمر ليس كله حرامًا؛ وإنما الذي يسكر منه فقط فهو حرام! لماذا لا يزال هذا القول مسطورًا؟! وقد يدافع عنه بعض الناس بألوان من الدفاع! لا لشيء؛ إلا أن إمامًا من أئمة المسلمين اجتهد فقال هذا القول! مع أننا جميعًا ـ على اختلاف مذاهبنا ومشاربنا ـ نقرأ في كتب السنة وبالأسانيد الصحيحة قوله - عليه الصلاة والسلام -: «
» (رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد)؛ وقوله: « » (رواه مسلم).لماذا يظل مثل هذا القول الخطير الذي يشجع الناس ـ الذين هم على شفا حفرة من الفسق، أو قد وقعوا فيها فعلاً ـ ويزين لهم شرب القليل من خمر غير العنب؛ بحجة أن الإمام الفلاني ـ وهو عالم فاضل ـ قال هذا؟ يا للحجة! نحن نعتقد أنه عالم فاضل، ولكن الفرق أننا لا ننسى أنه غير معصوم عن الخطأ، وهم يتناسون هذه الحقيقة، فيظلون يدافعون عن هذه الكلمة، فبعضهم يستغل هذا القول ينشر المادة المسكرة بين المسلمين، وبعضهم يدافع عن الإمام لا عن القول.
لماذا يبقى مثل هذا القول في كتب الفقه مع مصادمته الأحاديث القاطعة الدلالة والثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إبطال مثل هذا القول؟!! لماذا نجبن أن نقول: إن إمامًا من أئمة المسلمين أخطأ في مسألة، أو في اجتهاد، أو في رأي له، فيؤجر أجرًا واحدًا بدل أن يؤجر أجرين؟! لماذا لا نقول هذا أولاً كمبدأ، وثانيًا كتطبيق لبعض الفروع، ومنها هذا الفرع الذي نحن في صدده؟!
الجواب: لأنه قد ران علينا، وفي قلوبنا تقديس الأئمة واحترامهم أكثر مما أوجب الله علينا.
ونحن نؤمن بقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - لنا: « » (صحيح الجامع (5443)). هذا مما حض عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام - المسلمين أن يعرفوا حق العالم، ولكن هل من حق العالم أن نرفعه إلى مستوى النبوة والرسالة، حتى نعطيه العصمة بلسان حالنا؟! فلسان الحال أنطق من لسان المقال.
إذا كان علينا أن نحترم العالم ونقدره حق قدره، وأن نقلده حينما يبرز لنا الدليل؛ فليس لنا أن نرفع من قوله، ونضع من قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا أن نؤثر قوله على قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -!
مثال آخر: مثلاً في النكاح لا يزال هذا الحكم باقيًا على أنه رأي إسلامي محترم؛ فلا يزال يُقضي بأن البنت المسلمة البالعة الراشدة لها أن تزوج نفسها بنفسها دون إذن وليها؛ مع تصريح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: « » (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد). فهذا الحديث غير معمول به، وذاك القول معمول به ومقضي به. وقد يقول بعض الناس: ألم يفهم الحديث أحدٌ إلا أنت؟!
وأقول: هذا الحديث قد أخذ به أفهم الأئمة باللغة العربية وأساليبها؛ ألا وهو الإمام الشافعي، فليس هو رأيًا لإنسان يُعرف أصله أنه من ألبانيا؛ ولكن هذا الألباني وجد حديثًا، ووجد فهمًا لإمام وهو إمام قرشي مطلبي. ثم لماذا تُرك هذا الرأي الصحيح المقرون بهذا الحديث الصحيح لرأي إمام آخر من أئمة المسلمين؟! إن اجتهاد الإمام على رءوسنا، ولكن الاجتهاد له قيمة حينما لا يتعارض مع النص المعصوم من الكتاب والسنة.
فكلنا يقرأ في كتب الأصول قولهم: «إذا ورد الأثر بطل النظر»، «لا اجتهاد في مورد النص»، كل هذه القواعد المعروفة علميًا، فلماذا لا نهتم بتطبيق هذه القواعد عمليًا، ونظل نتمسك ببعض الفروع المخالفة للسنة؟!
فإذا أردنا أن نأخذ بالعلاج الذي وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وصف المرض: «حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» فهل الرجوع إلى الدين هو فقط باللسان؛ أم هو بالاعتقاد والعمل؟!
إن كثيرًا من المسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهم لا يلتزمون لوازم هاتين الشهادتين، وهذا بحث طويل؛ فكثير من المسلمين اليوم لا يعطون «لا إله إلا الله» حقها من التفسير.
ولقد انتبه لهذا كثير من الشباب المسلم والكُتّاب المسلمين؛ وهو أن من حق هذه الشهادة أن الحكم لله، نعم، أريد أن أقولها صريحة: لقد انتبه الشباب المسلم والكتاب المسلمين اليوم إلى هذه الحقيقة؛ وهي أن الحكم لله - عز وجل - وحده، وأن تسليط القوانين الأرضية، واعتمادها لحل المشاكل القائمة اليوم؛ ينافي كون الحكم لله - عز وجل -، ولكنني أرى كثيرًا من هؤلاء الكتاب لا ينسجمون مع هذا الانتباه الخطير الذي انتبهوا له؛ وهو كون الحكم لله - عز وجل -، وحكم الله هو حكم الكتاب والسنة.
تُرى هل إذا جاء حكم مخالفٌ من فلان الكافر فهو مخالف لحكم الله؛ وإذا جاء من اجتهاد مجتهد مخطئ لا يكون مخالفًا لحكم الله؟!
أنا أعتقد أنه لا فرق؛ إذ إنه يجب على المسلم أن لا يأخذ بأي قول مهما كان مصدره، ما دام أنه يخالف الكتاب والسنة، لكن هناك فرقًا بين ذاك الذي قال ذلك الكفر؛ فهو كافر مخلد في النار؛ وبين من قال ذلك خطأ من المسلمين؛ فهو مأجور على خطئه.
إذاً: يجب الرجوع إلى الدين بعد محاولة وسلوك طريق فهم هذا الدين، وذلك يكون بتطبيق الفقه الذي يسمى اليوم بالفقه المقارن، وهذا الفقه يجب أن يُدرّس، وأن يدرسه أهل الاختصاص من حملة الشهادات الشرعية الفقهية والحديثية.
الرجوع إلى الدين هو الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لأن ذلك هو الدين باتفاق الأئمة، وهو العصمة من الانحراف والوقوع في الضلال، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: «
» (صحيح الجامع (2937)).وضربنا بعض الأمثلة التي توجب على أهل العلم اليوم أن يرجعوا إلى فهم الدين من أصليه المذكورين: الكتاب والسنة؛ لكيلا يقع المسلمون في استحلال ما حرم الله؛ متوهمين أنه مما أباحه الله.
كلمة أخيرة حول الرجوع إلى الدين:
إذا أردنا العزة من الله - تبارك وتعالى - وأن يرفع عنا الذل، وينصرنا على العدو؛ فلا يكفي لذلك ما أشرنا إليه من وجوب تصحيح المفاهيم، ورفع الآراء التي أولت الأدلة الشرعية عند أهل العلم وعند أهل الفقه الاختصاصي.. وإنما هناك شيء آخر مهم جدًا ـ وهو بيت القصيد ـ لتصحيح المفاهيم؛ ألا وهو العمل؛ لأن العلم وسيلة للعمل، فإذا تعلم الإنسان، وكان عمله صافيًا مصفّى، ثم لم يعمل به؛ كان بديهيا جدًا أن هذا العلم لا يثمر، فلابد من أن يقترن مع هذا العلم العمل.
ويجب على أهل العلم أن يتولوا تربية النشء المسلم الجديد على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، فلا يجوز أن ندع الناس على ما توارثوه من مفاهيم وأخطاء؛ بعضها باطل قطعًا باتفاق الأئمة، وبعضها مختلف فيه، ولو وجه من النظر والاجتهاد والرأي، وبعض هذا الاجتهاد والرأي مخالف للسنة.
فبعد تصفية هذه الأمور، وإيضاح ما يجب الانطلاق والسير فيه؛ لابد من تربية النشء الجديد على هذا العلم الصحيح؛ وهذه التربية هي التي ستثمر لنا المجتمع الإسلامي الصافي، وبالتالي تقيم لنا دولة الإسلام.
وبدون هاتين المقدّمتين: «العلم الصحيح»، و «التربية الصحيحة على هذا العلم الصحيح» يستحيل ـ في اعتقادي ـ أن تقوم قائمة الإسلام، أو حكم الإسلام، أو دولة الإسلام.
وأضرب مثلاً لضرورة هذه التربية الصحيحة على العلم الصحيح:
تجد من هؤلاء الشباب الطيب من يستحلون الاستماع للأغاني وآلات الطرب! وذلك لأنهم يجدون الإذاعات تملأ الأسماع، ولا يوجد هناك توجيه عام لهذا النشء المسلم الجديد بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن آلات المعازف، وحذر من الاستماع إليها، وهدد الذين يمسون في لهو ولعب، ويستمعون إلى المعازف أن يمسخوا قردة وخنازير.
لم يُرَبَّ هذا النشء الجديد على معرفة ما يجوز وما لا يجوز، وذلك لأنه يجد أقوالاً كثيرة؛ يجد مثلاً ابن حزم الإمام له رسالة في إباحة الملاهي، وسرعان ما تطبع هذا الرسالة وتنتشر بين الناس، فتوافق منهم هوى. وربما قال بعض الموجهين وبعض من يدعي الإصلاح: ما دام هذا إمامًا وله مثل هذا الرأي؛ إذاً نحن نتبعه أو نقلده في سماعنا للطرب؛ لاسيما وقد أصبحت بلوى عامة.
فأين السنة حينئذٍ؟! إن السنة أصبحت نسيًا منسيًا!
وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جعل العلاج في رفع الذل المخيم علينا إنما هو بالرجوع إلى الدين؛ فيجب علينا إذاً أن نفهم الدين بواسطة أهل العلم فهمًا صحيحًا، موافقًا للكتاب والسنة، وأن نربي النشء الصالح الطيب على ذلك، وهذا هو الطريق لمعالجة المشكلة التي يشكو منها كل مسلم.
وقد أعجبتني كلمة ـ هي في الواقع كأنها خلاصة لما قلته أو بينته آنفًا ـ لبعض المصلحين في العصر الحاضر، وهي في رأيي كأنها من وحي السماء؛ يقول: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم».
ولابد من أن نصلح نفوسنا على أساس من إسلامنا وديننا، وهذا ـ كما ذكرنا ـ لا يكون بالجهل؛ وإنما بالعلم؛ حتى تقوم دولة الإسلام على أرضنا هذه.
وفي الختام؛ أوصى كل من يستطيع أن يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم أن يتعاون هو وغيره ـ من ذوي الاختصاصات ـ على بيان الإٍسلام الذي جاء في الكتاب والسنة، وتربية النشء على ذلك، وهذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
عندما سئل العلامة الألباني عن واقعنا الأليم
السؤال:
نعلم يا شيخنا في هذه الأيام أن الإسلام محارب في جميع الأرض، وبعدم اهتمام من الحكومات فماذا علينا نحن في هذا الأمر؟، وهل نأثم بجلوسنا بعدم عمل أي شيء؟
المفتي: محمد ناصر الدين الألباني
الإجابة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: ١]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: ٧٠ – ٧١]
أما بعد ...فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النار.
السؤال كأنه من حيث ظاهره وألفاظه، أقل مما يقصد لافظه؛ حيث يقول: نقعد، ولا نعمل أي شيء! فهو يعني في أي شيء ـ ليس أي شيء مطلقاً ـ وإنما يعني شيئاً معيناً لأنه لا أحدٌ إطلاقاً يقول: بأن المسلم عليه أن يعيش كما تعيش الأنعام لا يعمل أي شيء ـ لأنه خُلق لشيء عظيم جداً؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك فلا يتبادر إلى ذهن أحد من مثل هذا السؤال أنه يقصد ألا يعمل أي شيء، وإنما يقصد ألا يعمل شيئاً يناسب هذا الواقع الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب، هذا هو الظاهر من مقصود السائل و ليس بملفوظ السائل.
وعلى ذلك نجيب: لا يختلف وضع الدعوة الإسلامية اليوم لا في قليل ولا في كثير عمّا كانت عليه الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، ألا وهو العهد المكي، وكلنا يعلم أن القائم على الدعوة يومئذ، هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أعني بهذه الكلمة أن الدعوة كانت محاربة؛ من القوم الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنفسهم، كما في القرآن الكريم، ثم لما بدأت الدعوة تنتشر، وتتسع دائرتها بين القبائل العربية حتى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة من مكة إلى المدينة - طبعاً نحن الآن نأتي برؤوس أقلام لأن التاريخ الإسلامي الأول والسيرة النبوية الأولى معروفة عند كثير من الحاضرين -لأنني أقصد بهذا الإيجاز والاختصار، الوصول إلى المقصود من الإجابة على ذلك السؤال.
ولذلك فإنني أقول: بعد أن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعه بعض أصحابه إلى المدينة، وبدأ - عليه الصلاة والسلام - يضع النواة لإقامة الدولة المسلمة هناك في المدينة المنورة - بدأت أيضاً عداوةُ جديدة بين هذه الدعوة الجديدة أيضاً في المدينة - حيث اقتربت الدعوة من عقر دار النصارى وهي سورية يومئذِ؛ - التي كان فيها هرقل ملك الروم -، فصار هناك عداء جديد للدعوة ليس فقط من العرب في الجزيرة العربية؛ بل ومن النصارى أيضاً في شمال الجزيرة العربية أي في سورية ثم أيضاً ظهر عدوُ آخر ألا وهو فارس، فصارت الدعوة الإسلامية محاربة من كل الجهات؛ من المشركين في الجزيرة العربية، ومن النصارى واليهود في بعض أطرافها، ثم من قبل فارس؛ التي كان العداء بينها وبين النصارى شديداً كما هو معلوم من قولة تبارك وتعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1-4].
الشاهد هنا: لا نستغربنَّ وضع الدعوة الإسلامية الآن، من حيث إنها تُحارب من كل جانب. فمن هذه الحيثية كانت الدعوة الإسلامية في منطلقها الأول أيضاً كذاك محاربة من كل الجهات، وحينئذٍ يأتي السؤال والجواب.
ما هو العمل؟ ماذا عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الذين كان عددهم يومئذٍ قليلاََ بالنسبة لعدد المسلمين اليوم حيث صار عدداَ كثيراَ وكثيراَ جداَ؟
هنا يبدأ الجواب: هل حارب المسلمون العرب المعادين لهم أي قومهم في أول الدعوة؟ هل حارب المسلمون النصارى في أول الأمر؟ هل حاربوا فارس في أول الأمر؟
الجواب: لا، لا كل ذلك الجواب لا.
إذاَ ماذا فعل المسلمون؟
نحن الآن يجب أن نفعل ما فعل المسلمون الأولون تماماَ. لأن ما يصيبنا هو الذي أصابهم، وما عالجوا به مصيبتهم هو الذي يجب علينا أن نعالج به مصيبتنا، وأظن أن هذه المقدمة توحي للحاضرين جميعاً بالجواب إشارةً وستتأيد هذه الإشارة بصريح العبارة.
فأقول: يبدو من هذا التسلسل التاريخي والمنطقي في آنِ واحدِ أن الله - عز وجل - إنما نصر المؤمنين الأولين؛ الذين كان عددهم قليلاً جداً بالنسبة للكافرين والمشركين جميعاً من كل مذاهبهم ومللهم، إنما نصرهم الله - تبارك وتعالى - بإيمانهم.
إذاً ما كان العلاج أو الدواء يومئذٍ لذلك العداء الشديد الذي كان يحيط بالدعوة هو نفس الدواء ونفس العلاج الذي ينبغي على المسلمين اليوم أن يتعاطوه؛ لتحقيق ثمرة هذه المعالجة كما تحققت ثمرة تلك المعالجة الأولى، والأمر كما يقال: التاريخ يعيد نفسه؛ بل خير من هذا القول أن نقول إن الله - عز وجل - في عباده وفي كونه الذي خلقه ونظّمه وأحسن تنظيمه له في ذلك كله- سنن لا تتغير ولا تتبدل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
هذه السنن لابد للمسلم أن يلاحظها، وأن يرعاها حق رعايتها، وبخاصةٍ ما كان فيها من السنن الشرعية، هنالك سنن شرعية وهنالك سنن كونية. وقد يقال اليوم- في العصر الحاضر- سنن طبيعية، هذه السنن الكونية الطبيعية يشترك في معرفتها المسلم والكافر، والصالح والطالح بمعنى؛ ما الذي يقوّم حياة الإنسان البدنية؟ الطعام والشراب والهواء النقي ونحو ذلك. فإذا الإنسان لم يأكل، لم يشرب، لم يتنفس الهواء النقي، فمعنى ذلك أنه عرَّض نفسه للموت موتاً مادياً. هل يمكن أن يعيش إذا ما خرج عن اتخاذه هذه السنن الكونية؟
الجواب: لا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، هذا -كما قلت آنفاً -يعرفه معرفة تجريبية كل إنسان؛ لا فرق بين المسلم والكافر والصالح والطالح لكن الذي يهمنا الآن أن نعرف أن هناك سنناً شرعية يجب أن نعلم أن هناك سنناً شرعية، من اتخذها وصل إلى أهدافها وجنى منها ثمراتها، ومن لم يتخذها فسوف لن يصل إلى الغايات التي وُضعت تلك السنن الشرعية لها؛ تماماً - كما قلنا - بالنسبة للسنن الكونية إذا تبنَّاها الإنسان وطبقها، وصل إلى أهدافها.
كذلك السنن الشرعية إذا أخذها المسلم؛ تحققت الغاية التي وضع الله تلك السنن من أجلها من أجل تحقيقها وإلا فلا.
أظن هذا الكلام مفهوم ولكن يحتاج إلى شيء من التوضيح، وهنا بيت القصيد وهنا يبدأ الجواب عن ذاك السؤال الهام.
كلنا يقرأ آية من آيات الله - عز وجل - بل إن هذه الآية قد يُزيّن بها صدور بعض المجالس أو جدر بعض البيوت وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] لافتات - توضح وتكتب بخط ذهبي جميل رُقعي أو فارسي ...إلى آخره، وتوضع على الجدار، مع الأسف الشديد هذه الآية أصبحت الجدر مزينة بها، أما قلوب المسلمين فهي خاوية على عروشها، لا نكاد نشعر ما هو الهدف الذي ترمي إليه هذه الآية {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ولذلك أصبح وضع العالم الإسلامي اليوم في بلبلة وقلقلة لا يكاد يجد لها مخرجاً، مع أن المخرج مذكور في كثير من الآيات، وهذه الآية من تلك الآيات، إذا ما ذكّرنا المسلمين بهذه الآية فأظن أن الأمر لا يحتاج إلى كبير شرح وبيان وإنما هو فقط التذكير {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
كلنا يعلم إن شاء الله أن قوله - تبارك وتعالى - {إن تنصروا الله} شرطٌ، جوابه {ينصرْكم} إن تأكل إن تشرب إن .. إن الجواب تحيا، إن لم تأكل إن لم تشرب، ماذا؟ تموت؟ كذلك تماماً المعنى في الآية ﮋإن تنصروا الله ينصركمﮊ المفهوم - وكما يقول الأصوليون -: مفهوم المخالفة، إن لم تنصروا الله لم ينصركم؛ هذا هو واقع المسلمين اليوم.
توضيح هذه الآية جاءت في السنة في عديد من النصوص الشرعية، وبخاصةٍ منها الأحاديث النبوية. {إن تنصروا الله} معلوم بداهة أن الله لا يعني أن ننصره على عدوه بجيوشنا وأساطيلنا وقواتنا المادية؛ لا! إن الله - عز وجل - غالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى أن ينصره أحد نصراً مادياً هذا أمر معروف بديهياً لذلك كان معنى {إن تنصروا الله} أي إن تتبعوا أحكام الله، فذلك نصركم لله تبارك وتعالى.
والآن هل المسلمون قد قاموا بهذا الشرط؟ قد قاموا بهذا الواجب أولاً؟ ثم هو شرط لتحقيق نصر الله للمسلمين ثانياً؟
الجواب: عند كل واحدٍ منكم، ما قام المسلمون بنصر الله - عز وجل - وأريد أن أذكر هنا كلمةً؛ أيضاً من باب التذكير وليس من باب التعليم، على الأقل بالنسبة لبعض الحاضرين.
إن عامة المسلمين اليوم قد انصرفوا عن معرفتهم، أو عن تعرفهم على دينهم، - عن تعلمهم لأحكام دينهم -، فأكثرهم لا يعلمون الإسلام، وكثيرٌ أو الأكثرون منهم، إذا ما عرفوا من الإسلام شيئاً، عرفوه ليس إسلاماً حقيقياً؛ عرفوه إسلاماً منحرفاً عمّا كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
لذلك فنصر الله الموعود به من نصر الله يقوم على معرفة الإسلام أولاً معرفةً صحيحة، كما جاء في القرآن والسنة، ثم على العمل به ثانياً -، وإلا كانت المعرفة وبالاً على صاحبها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. إذاً نحن بحاجة إلى تعلم الإسلام، وإلى العمل بالإسلام.
فالذي أريد أن أذكّر به - كما قلت آنفاً - هو أن عادة جماهير المسلمين اليوم أن يصبّوا اللوم كل اللوم بسبب ما ران على المسلمين قاطبةً من ذلٍ وهوان على الحكام، أن يصبوا اللوم كل اللوم على حكامهم الذين لا ينتصرون لدينهم، وهم - مع الأسف - كذلك؛ لا ينتصرون لدينهم، لا ينتصرون للمسلمين الُمَذلّين من كبار الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، هكذا العُرف القائم اليوم بين المسلمين! صب اللوم كل اللوم على الحكام، ومع ذلك! أن المحكومين كأنهم لا يشملهم اللوم الذي يوجهونه إلى الحاكمين! والحقيقة أن هذا اللوم ينصب على جميع الأمة حكّامًا، ومحكومين.
وليس هذا فقط بل هناك طائفة من أولئك اللائمين للحكام المسلمين بسبب عدم قيامهم بتطبيق أحكام دينهم، وهم محقون في هذا اللوم، ولكن! قد خالفوا قوله تعالى: {إن تنصروا الله} أعني نفس المسلمين اللائمين للحاكمين حينما يخصونهم باللوم قد خالفوا أحكام الإسلام؛ حينما يسلكون سبيل تغيير هذا الوضع المحزن المحيط بالمسلمين بالطريقة التي تخالف طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث إنهم يعلنون تكفير حكام المسلمين- هذا أولاً -! ثم يعلنون وجوب الخروج عليهم - ثانياً -! فتقع هنا فتنة عمياء صماء بكماء بيد المسلمين أنفسهم؛ حيث ينشق المسلمون بعضهم على بعض، فمنهم هؤلاء الذين أشرت إليهم الذين يظنون أن تغيير هذا الوضع الذليل المصيب للمسلمين إنما تغييره بالخروج على الحاكمين، ثم لا يقف الأمر عند هذه المشكلة، وإنما تتسع وتتسع حتى يصبح الخلاف بين هؤلاء المسلمين أنفسهم! ويصبح الحاكم في معزلٍ عن هذا الخلاف.
بدأ الخلاف من غلوّ بعض الإسلاميين في معالجة هذا الواقع الأليم أنه لابد من محاربة الحكام المسلمين لإصلاح الوضع!، وإذا بالأمر ينقلب إلى أن هؤلاء المسلمين يتخاصمون مع المسلمين الآخرين الذين يرون أن معالجة الواقع الأليم ليس هو بالخروج على الحاكمين، وإن كان كثيرون منهم يستحقون الخروج عليهم! بسبب أنهم لا يحكمون بما أنزل الله؛ ولكن هل يكون العلاج كما يزعم هؤلاء الناس، هل يكون إزالة الذي أصاب المسلمين من الكفار أن نبدأ بمحاكمة الحاكمين في بلاد الإسلام من المسلمين؟ ولو أن بعضهم نعتبرهم مسلمين جغرافيين كما يقال في العصر الحاضر هنا نحن نقول:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتملْ *** ما هكذا يا سعدُ تُورَد ُالإبلْ.
مما لا شك فيه أن موقف أعداء الإسلام أصالةً وهم اليهود والنصارى والملاحدة من خارج بلاد الإسلام؛ هم أشد بلا شك ضرراً من بعض هؤلاء الحكام الذين لا يتجاوبون مع رغبات المسلمين أن يحكموهم بما أنزل الله فماذا يستطيع هؤلاء المسلمون؟ وأعني طرفاً أو جانباً منهم وهم الذين يعلنون وجوب محاربة الحاكمين من المسلمين، ماذا يستطيع أن يفعل هؤلاء لو كان الخروج على الحكام واجباً قبل البدء بإصلاح نفوسنا نحن؟!.
كما هو العلاج الذي بدأ به الرسول - عليه السلام -، إن هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إطلاقاً؛ والواقع أكبر دليل على ذلك، مع أن العلاج الذي يتبعونه وهو أن يبدؤوا بمحاربة الحكام المسلمين! لا يثمر الثمرة المرجوة لأن العلة - كما قلت آنفاً - ليست في الحاكمين فقط؛ بل وفي المحكومين أيضاً، فعليهم جميعاً أن يصلحوا أنفسهم، والإصلاح هذا له بحث آخر قد تكلمنا عليه مراراً وتكراراً وقد نتكلم قريباً إن شاء الله عنه.
المهم الآن المسلمون كلهم متفقون على أن وضعهم أمر لا يحسدون عليه ولا يغبطون عليه؛ بل هو من الذل والهوان بحيث لا يعرفه الإسلام، فمن أين نبدأ؟ هل يكون البدء بمحاربة الحاكمين المسلمين؟! أو يكون البدء بمحاربة الكفار أجمعين من كل البلاد؟! أم يكون البدء بمحاربة النفس الأمارة بالسوء؟ من هنا يجب البدء، ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بدأ بإصلاح نفوس أفراد المسلمين المدعوّين في أول دعوة الإسلام كما ذكرنا في أول هذا الكلام- بدأت الدعوة في مكة ثم انتقلت إلى المدينة ثم بدأت المناوشة بين الكفار والمسلمين، ثم بين المسلمين والروم، ثم بين المسلمين وفارس .. وهكذا - كما قلنا آنفاً - التاريخ يعيد نفسه.
فالآن المسلمون عليهم أن ينصروا الله لمعالجة هذا الواقع الأليم، وليس بأن يُعالجوا جانباً لا يثمر الثمرة المرجوة فيها، لو استطاعوا القيام بها! ما هو هذا الجانب؟ محاربة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! هذا أولاً كما قلت آنفاً -لابد من وقفة قصيرة- غير مستطاع اليوم، أن يُحارب الحكام؛ وذلك لأن هؤلاء الحكام لو كانوا كفاراً كاليهود والنصارى؛ فهل المسلمون اليوم يستطيعون محاربة اليهود والنصارى؟
الجواب: لا، الأمر تماماً كما كان المسلمون الأولون في العهد المكي، كانوا مستضعفين، أذلاء، محاربين، معذبين، مُقَتَّلِين لماذا؟! لأنهم كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، إلا إيمانهم الذي حلّ في صدورهم، بسبب إتباعهم لدعوة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ هذا الإتباع مع الصبر على الأذى هو الذي أثمر الثمرة المرجوة؛ التي نحن ننشدها اليوم، فما هو السبيل للوصول إلى هذه الثمرة؟ نفس السبيل الذي سلكه الرسول - عليه الصلاة والسلام - مع أصحابه الكرام، إذاً اليوم لا يستطيع المسلمون محاربة الكفار على اختلاف ضلالاتهم، فماذا عليهم؟ عليهم أن يُؤمنوا بالله ورسوله حقاً، ولكن المسلمين اليوم كما قال رب العالمين: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37].
المسلمون اليوم اسماً وليسوا مسلمين حقاً! أظنكم تشعرون معي بالمقصود من هذا النفي.
ولكني أذكركم بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:1-7] أي الباغون الظالمون، فإذا أخذنا هذه الخصال فقط، ولم نتعد هذه الآيات المتضمنة لهذه الخصال إلى آيات أخرى؛ التي فيها ذكر لبعض الصفات والخصال التي لم تُذكر في هذه الآيات، وهي كلها تدور حول العمل بالإسلام. فمن تحققت فيه هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات المتلوه آنفاً وفي آيات أخرى؛ أولئك هم الذين قال الله - عز وجل - في حقهم «أولئك هم المؤمنون حقا».
فهل نحن مؤمنون حقاً؟!
الجواب: لا، إذاً يا إخواننا لا تضطربوا!
فنحن المصلين اليوم؛ - هذه الخصلة – {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} هل نحن خاشعون في صلاتنا؟ أنا ما أتكلم عن فرد، اثنين، خمسة، عشرة، مائة، مائتين، ألف، ألفين.
لا أتكلم عن المسلمين على الأقل الذين يتساءلون، ما هو الحل لما أصاب المسلمين؟ لا أعني أولئك المسلمين اللاهين الفاسقين الذين لا تهمهم آخرتهم، وإنما تهمهم شهواتهم وبطونهم لا. أنا أتكلم عن المسلمين المصلين.
فهل هؤلاء المصلون قد اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في أول سورة المؤمنين؟
الجواب: كجماعة، كأمة: لا.
إذاً: ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكَها .. إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ.
فلابد من اتخاذ الأسباب؛ التي هي من تمام السنن الشرعية بعد السنن الكونية؛ حتى يرفع ربنا - عز وجل - هذا الذل الذي ران علينا جميعاً. أنا ذكرت هذه الأوصاف من صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، لكن هناك في الأحاديث النبوية التي نذكّر بها إخواننا دائماً، ما يُذكّر بحـال المسلمين اليوم؛ وأنهم لو تذكروا هذا الحديث كان من العار عليهم أن يتساءلوا لماذا أصابنا هذا الذل؟! لأنهم قد غفلوا عن مخالفتهم لشريعة الله.
من تلك الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: «
العينة: نوع من الأعمال الربوية؛ - ولا أريد أيضاً أن أدخل فيها بالذات - فهل منكم من يجهل تعامل المسلمين بأنواع من الربا، وهذه البنوك الربوية قائمة على ساق وقدم في كل بلاد الإسلام ومعترف فيها بكل الأنظمة القائمة في بلاد الإسلام.
وأعود لأقول ليس فقط من الحكام؛ بل ومن المحكومين لأن هؤلاء المحكومين هم الذين يتعاملون مع هذه البنوك وهم الذين إذا نُوقشوا، وقيل لهم: أنتم تعلمون أن الربا حرام وأن الأمر كما قال - عليه السلام -: «
» [3] لماذا يا أخي تتعامل بالربا؟! «بيقلك شو بدّنا نساوي بدنا نعيش»!! إذاً العلاقة ما لها علاقة بالحكام لها علاقة بالحكام والمحكومين. المحكومون هم في حقيقة أمرهم يليق بهم مثل هؤلاء الحكام، وكما يقولون «دود الخل منّه وفيه». هؤلاء الحكام ما نزلوا علينا من المريخ!! وإنما نبعوا منّا وفينا فإذا أردنا صلاح أوضاعنا فلا يكون ذلك بأن نعلن الحرب الشعواء على حكّامنا وأن ننسى أنفسنا؛ والمشكلة منّا وفينا؛ حيث المشكلة القائمة في العالم الإسلامي.لذلك نحن ننصح المسلمين أن يعودوا إلى دينهم. وأن يطبقوا ما عرفوه من دينهم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4-5] كل المشاكل القائمة اليوم والتي يتحمس بعض الشباب ويقول ما العمل؟! سواءٌ قلنا ما هو بجانبنا من المصيبة التي حلت بالعالم الإسلامي والعالم العربي! وهي احتلال اليهود لفلسطين، أو قلنا محاربة الصليبين للمسلمين بإرتيريا وفي الصومال، في البوسنة والهرسك في .. إلى آخر البلاد المعروفة اليوم. هذه المشاكل كلها لا يمكن أن تعالج بالعاطفة وإنما تعالج بالعلم والعمل. {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
{وقل اعملوا} الآن نقف عند هذه النقطة. العمل للإسلام اليوم في الساحة الإسلامية، له صور كثيرة وكثيرة جداً، وفي جماعات وأحزاب متعددة، والحقيقة أن هذه الأحزاب من مشكلة العالم الإسلامي التي تكّبر المشكلة أكثر مما يراها بعضهم. بعضهم يرى أن المشكلة احتلال اليهود لفلسطين، أن المشكلة ما ذكرناه آنفاً، محاربة الكفار لكثير من البلاد الإسلامية وأهلها، لا!
نحن نقول: المشكلة أكبر وهي تفرق المسلمين. المسلمون أنفسهم متفرقون شيعاً وأحزاباً خلاف قول الله تبارك وتعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32].
الآن الجماعات الإسلامية مختلفون في طريقة معالجة المشكلة التي يشكو منها كل الجماعات الإسلامية، وهي الذل الذي ران على المسلمين، وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟
هناك طرق:
«الطريقة الأولى»: هي الطريقة المثلى التي لا ثاني لها، وهي التي ندعو إليها دائماً وأبداً وهي فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقهُ وتربية المسلمين على هذا الإسلام المصفّى، تلك هي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما ذكرنا ونذكر أبداً. فرسول الله بدأ بأصحابه أن هداهم إلى الإيمان بالله ورسوله- أن علمهم بأحكام الإسلام-، وكانوا يشكون إليه ما يصيبهم من ظلم المشركين وتعذيبهم إياهم، كان يأمرهم بالصبر، يأمرهم بالصبر! وأن هذه سنة الله في خلقه أن يُحارب الحق بالباطل وأن يُحارب المؤمنون بالمشركين وهكذا، فالطريقة الأولى لمعالجة هذا الأمر الواقع هي العلم النافع والعمل الصالح.
هناك حركات ودعوات أخرى، كلها تلتقي على خلاف الطريقة الأولى والمثلى والتي لا ثاني لها وهي اتركوا الإسلام الآن جانباً! من حيث وجوب فهمه! ومن حيث وجوب العمل به! الأمر الآن أهم من هذا الأمر! وهو أن نجتمع وأن نتوحد على محاربة الكفار!!
سبحان الله، كيف يمكن محاربة الكفار بدون سلاح؟! كل إنسان عنده ذرّة عقل أنه إذا لم يكن لديه سلاح مادي فهو لا يستطيع أن يحارب عدوه المسلّح، ليس بسلاح مادي بل بأسلحةِ مادية! فإذا أراد أن يحارب عدوه هذا المسلح وهو غير مسلح ماذا يقال له؟ حاربه دون أن تتسلح؟! أم تسلح ثم حاربه؟
لا خلاف في هذه المسألة أن الجواب: تسلح ثم حارب، هذا من الناحية المادية، لكن من الناحية المعنوية الأمر أهم بكثير من هذا، إذا أردنا أن نحارب الكفار؛ فسوف لا يمكننا أن نحارب الكفار بأن ندع الإسلام جانباً؛ لأن هذا خلاف ما أمر الله - عز وجل - ورسوله المؤمنين في مثل آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
{إن الإنسان لفي خسر} نحن بلا شك الآن في خسر، لماذا؟! لأننا لم نأخذ بما ذكر الله - عز وجل - من الاستثناء حين قال: {إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} نحن الآن نقول آمنا بالله ورسوله، ولكن! حينما ندعو المسلمين المتحزبين المتجمعين المتكتلين على خلاف دعوة الحق الرجوع إلى الكتاب والسنة يقولون هذا ندعه الآن جانباً! الأمر أهم!. هو محاربة الكفار!، فنقول: بسلاح أم بدون سلاح؟! لابد من سلاح حين، السلاح الأول: السلاح المعنوي، وهم يقولون الآن دعوا هذا السلاح المعنوي جانباً! وخذوا بالسلاح المادي! ثمّ، لا سلاح مادي!! لأن هذا غير مستطاع بالنسبة للأوضاع التي نُحكم بها الآن؛ ليس فقط من الكفار المحيطين بنا من كل جانب؛ بل ومن بعض الحكام الذين يحكموننا! فنحن لا نستطيع اليوم رغم أنوفنا أن نأخذ بالاستعداد بالسلاح المادي هذا لا نستطيعه.
فنقول: نريد نحارب بالسلاح المادي! وهذا لا سبيل إليه، والسلاح المعنوي الذي هو بأيدينا {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19] العلم ثم العمل في حدود ما نستطيع، هذا نقول بكل بساطة متناهية دعوا هذا جانباً! هذا مستطاع ونؤمر بتركه جانباً! وذلك غير مستطاع. فنقول: يجب أن نحارب!! وبماذا نحارب؟! خسرنا السلاحين معاً؛ السلاح المعنوي العلمي نقول نؤجله! لأنه ليس هذا وقته وزمانه!! السلاح المادي لا نستطيعه فبقينا خراباً يباباً ضعفاء في السلاحين المعنوي والمادي.
إذا رجعنا إلى العهد الأول الأنور؛ وهو عهد الرسول - عليه السلام - الأول، هل كان عنده سلاح مادي؟ الجواب، لا. بماذا إذاً كان مفتاح النصر؟ السلاح المادي أم السلاح المعنوي؟ لاشك أنه السلاح المعنوي، وبه بدأت الدعوة في مثل تلك الآية {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} إذاً العلم- قبل كل شيء إذاً بالإسلام قبل كل شيء ثم تطبيق هذا الإسلام في حدود ما نستطيع.
نستطيع أن نعرف العقيدة الإسلامية -الصحيحة طبعاً- نستطيع أن نعرف العبادات الإسلامية، نستطيع أن نعرف الأحكام الإسلامية، نستطيع أن نعرف السلوك الإسلامي، هذه الأشياء كلها مع أنها مستطاعة فجماهير المسلمين بأحزابهم وتكتلاتهم هم معرضون عنها؛ ثم نرفع أصواتنا عاليةً نريد الجهاد! أين الجهاد؟! مادام السلاح الأول مفقود والسلاح الثاني غير موجود بأيدينا؟!!
نحن لو وجدنا اليوم جماعة من المسلمين متكتلين حقاً على الإسلام الصحيح وطبقوه تطبيقاً صحيحاً، لكن لا سلاح مادي عندهم؛ هؤلاء يأتيهم أمره تعالى في الآية المعروفة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] لو كان عندنا السلاح الأول المعنوي؛ فنحن مخاطبون بهذا الإعداد المادي. فهل نحارب إذا لم يكن عندنا إعداد مادي؟! الجواب: لا. لأننا لم نحقق هذه الآية التي تأمرنا بالإعداد المادي؛ فما بالنا، كيف نستطيع أن نحارب ونحن مفلسون من السلاحين المعنوي والمادي؟! المادي الآن لا نستطيعه، المعنوي نستطيعه؛ إذاً {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فالذي نستطيعه الآن هو العلم النافع والعمل الصالح.
لعلي أطلت في هذا الجواب أكثر من اللازم، لكني أنا ألخص الآن فأقول:
ليست مشكلة المسلمين في فلسطين فقط - يا إخواننا-، لأنه مع الأسف الشديد من جملة الانحراف التي تصيب المسلمين اليوم؛ أنهم يخالفون علمهم عملاً! حينما نتكلم عن الإسلام وعن الوطن الإسلامي، نقول: كل البلاد الإسلامية هي وطن لكل مسلم؛ ما في فرق بين عربي وعجمي، ما في فرق بين حجازي وأردني ومصري ... وإلى آخره، لكن هذه الفروق العملية موجودة، هذه الفروق عمليه موجودة! ليس فقط سياسياً؛ هذا غير مستغرب أبداً، لكن موجودة حتى عند الإسلاميين! مثلاً تجد بعض الدعاة الإسلاميين يهتمون بفلسطين؛ ثم لا يهمهم ما يصيب المسلمين الآخرين في البلاد الأخرى. مثلاً: حينما كانت الحرب قائمة بين المسلمين الأفغان وبين السوفييت وأذنابهم من الشيوعيين، لماذا؟! لأن هؤلاء مثلاً ليسوا سوريين! مصرين! أو ما شابه ذلك. إذاً المشكلة الآن ليست محصورة في فلسطين فقط؛ بل تعدت إلى بلاد إسلامية كثيرة فكيف نعالج هذه المشكلة العامة؟ بالقوتين المعنوية والمادية، بماذا نبدأ؟
نبدأ قبل كل شيء بالأهم فالأهم وبخاصة إذا كان الأهم ميسوراً؛ وهو السلاح المعنوي فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً ثم السلاح المادي إذا كان ميسوراً. اليوم - مع الأسف الشديد؛ الذي وقع في أفغانستان .. الأسلحة التي حارب المسلمون الأسلحة المادية التي حارب المسلمون بها الشيوعيين هل كانت أسلحة إسلامية؟ الجواب: لا.
كانت أسلحة غربية، إذا نحن الآن من ناحية السلاح المادي مستعبدون؛ لو أردنا أن نحارب وكنا أقوياء من حيث القوة المعنوية، إذا أردنا أن نحارب بالسلاح المادي فنحن بحاجة إلى أن نستورد هذا السلاح؛ إما بالثمن وإما بالمنحة أو شيء مقابل شيء! كما تعلمون السياسة الغربية اليوم على حدّ المثل العامّي: «حكّلّي لحكّلّك»! يعني أي دوله الآن حتى بالثمن لا تبيعك السلاح إلا مقابل تنازلات. تتنازل أنت أيها الشعب المسلم مقابل السلاح الذي تدفع ثمنه أيضاً فإذاً يا إخواننا الأمر ليس كما نتصور عبارة عن حماسات وحرارات الشباب وثورات كرغوة الصابون تثور ثم تخور في أرضها لا أثر لها إطلاقاً!.
أخيراً أٌقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} إلى آخر الآية.
لكن أكرر أن العمل لا ينفع إلا إذا كان مقروناً بالعلم النافع؛ والعلم النافع إنما هو قال الله قال رسول الله كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
العلم قال الله قال رسولـــــهُ *** قال الصحابةُ ليس بالتمويــــهِ
ما العلمُ نصبَكَ للخلاف سفاهــةً *** بين الرسولِ وبين قولِ سفيــــهِ
كلا ولا جحد الصفات ونفيــها *** حذرا من التعطيل التشويـــــهِ
مصيبة العالم الإسلامي مصيبة أخطر - وقد يستنكر بعضكم هذا الذي أقوله! - مصيبة العالم الإسلامي اليوم أخطر من احتلال اليهود لفلسطين! مصيبة العالم الإسلامي اليوم أنهم ضلـوا سواء السبيل. أنهم ما عرفوا الإسلام الذي به تتحقق سعادة الدنيا والآخرة معاً. وإذا عاش المسلمون في بعض الظروف أذلاء مضطهدين من الكفار والمشركين وقتّلوا وصلّبوا ثم ماتوا فلا شك أنهم ماتوا سعداء ولو عاشوا في الدنيا أذلاء مضطهدين. أما من عاش عزيزاً في الدنيا وهو بعيد عن فهم الإسلام كما أراد الله - عز وجل - ورسوله فهو سيموت شقياً وإن عاش سعيداً في الظاهر.
إذاً بارك الله فيكم: العلاج هو فرّوا إلى الله! العلاج فرّوا إلى الله! فرّوا إلى الله تعني أفهموا ما قال الله وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واعملوا بما قال الله وما قال رسول الله. وبهذا أنهي هذا الجواب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.[4]
التعصب للأحزاب و الطوائف كما يراها المحدث محمد ناصر الدين الألباني [5]
التعصب للأحزاب والطوائف لم يستخدم الشيخ الألباني لفظ التحزب وإنما استخدم لفظ (التكتل) بديلاً عنه، حيث يعني بالتكتل خلاف ما يعنيه غيره، إلا أنه أوضح أن هذا اللفظ (التكتل) يعني عند غيره لفظ (التحزب).
وقال الشيخ: «إن الهدف الوحيد من هذا التكتل هو تجميع المسلمين كلهم على الكتاب والسنة. واستدل بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يد الله مع الجماعة » [6] وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « » [7]
ويقصد الشيخ بالتكتل قوله: نحن نريد بالتكتل أن يتعاون المسلمون على فهم الكتاب والسنة وعلى تطبيقه في حدود استطاعتهم ونريد من هذه الكلمة ما يراد من كلمة الحزبية في العصر الحاضر.[8]
سلبيات التعصب للأحزاب و الطوائف:
يذكر الشيخ الألباني العديد من سلبيات التحزب ويحث المسلمين على تجنب هذه السلبيات قائلاً: «إن الإسلام يحارب هذا التفرق الذي ينافي التكتل، ولكن التكتل ينافي التحزب أيضاً، لأن التحزب يعني التعصب لطائفة من الطوائف الإسلامية ضد الطوائف الأخرى، ولو كانوا على الحق فيما هم سائرون فيه» [9] ونذكر جملة من هذه السلبيات:
- معاداة من لا ينتمي للحزب: يبين الشيخ الألباني أن من آثار سلبيات التعصب للطوائف والأحزاب أنهم يعادون من لم يكن في تكتلهم وفي منهجهم ولو كان أخاً مسلماً صالحاً، فهم يعادونه لأنه لم ينضم لهذا التكتل الخاص أو التحزب الخاص.[10]
- الهيمنة الفكرية و عدم إعطاء الحرية لأفراد الحزب: قال الشيخ الألباني: قد وصل بهم أن حزباً منهم يفرض على كل فرد من أفراد الحزب أن يتبنوا أي رأي يتبناه الحزب مهما كان هذا الرأي لا قيمة له من الناحية الإسلامية، وإذا لم يقتنع ذلك الفرد برأي من آراء الحزب فُصل ولم يعتبر من هذا الحزب الذين يقولون أنه حزب إسلامي، ومعناه أنهم يعودون إلى ما يشبه اليهود والنصارى في اتباعهم لأحبارهم ورهبانهم في تحريمهم وتحليلهم. فقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].[11]
سبب التعصب للأحزاب والطوائف
يرى الشيخ الألباني أن هناك سبباً رئيساً أدى إلى ظهور التعصب للأحزاب والجماعات والطوائف يتمثل في عدم تبني الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح نظاماً ومنهاجاً عملياً.
وقد أوضح الشيخ هذا الأصل في حديثه عن الأحزاب الموجودة اليوم أو الجماعات القائمة على الأرض الإسلامية فقد تعددت مناهجها واختلفت نظمها اختلافاً كبيراً.
بين الشيخ - رحمه الله - أن «لفظة الأحزاب ليس على منهج الإسلام الذي قال ربنا - عز وجل -: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31- 32].
وقال في آية أخرى أن حزباً واحداً هو الذي يكون الحزب الناجح والحزب الفالح وهو قوله - تبارك وتعالى -: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، فالأحزاب كثيرة والسبل عديدة، والآيتان تلتقيان في ذم التعدد الحزبي والتعدد الطرقي، ويبين ربنا - عز وجل - في كل منهما بصراحة أن الطريقة الموصلة إلى الله - عز وجل - إنما هو طريق واحد.
ولقد زاد النبي -صلى الله عليه وسلم- كغالب عادته مع كثير من آيات ربه، فزاد بياناً تلك الآيتان بمثل قوله -صلى الله عليه وسلم- وقد كان جالساً بين أصحابه جلسته الدالة على تواضعه، كان جالساً على الأرض فخط عليها خطاً مستقيماً وخط حول هذا الخط المستقيم خطوطاً قصيرة، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، ثم قال وهو يمر أصبعه الشريفة على الخط المستقيم: « ».
أما الحديث الآخر وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: « » وفي رواية أخرى « ».[12]
وهذا الحديث يؤكد أن النجاة لا تكون بالتفرق والتحزب إلى أحزاب وشيع وطرق شتى وإنما بالانتماء إلى طريق واحدة وبسلوك طريق واحدة ألا وهو طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- .
لا يبقى بعد ذلك إلا حزب واحد أثنى عليه الله - عز وجل - في القرآن: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] والذي يرغب أن يكون في هذا الحزب الذي كتب له الفلاح في الدنيا والآخرة، فلا يمكن أن يحقق ذلك في نفسه إلا إذا عرف علامة هذه الحزب ونظامه ومنهجه».[13]
ويبين الشيخ سمات هذا الحزب فيقول: إذا كان الطريق الموصل إلى تحقيق هذا الحزب واحداً فلا بد كذلك أن يكون المنهج واحداً. فإذا تعددت المناهج لتلك الجماعات أو الطوائف والأحزاب، فلا شك أن التعدد لهذه المناهج فرع لتعدد الأحزاب و الجماعات.
وبين الشيخ - رحمه الله - أن قوله النبي -صلى الله عليه وسلم-: «
» في وصفه للفرقة الناجية في غاية الأهمية، وأن سبيل هذه الفرقة الناجية ليس ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب بل إضافة إلى ذلك ما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم.[14]سبل علاج التعصب للأحزاب والطوائف والجماعات:
وجد الباحث مجموعة من آراء الشيخ حول علاج هذا التعصب للأحزاب والجماعات والطوائف، وكانت هذه الآراء على النحو التالي:
- أن يقوم على هذا التكتل مجموعة من العلماء: يقول الشيخ ناصر الدين -رحمه الله- : مشكلة أي تكتل في العالم الإسلامي هو فقدهم للعلماء الكثيرين، فلا يكفي واحد أو اثنان أو ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وإنما يجب أن يكون هناك العشرات من العلماء و ذوي الاختصاصات المختلفة.
فالتكتل الإسلامي يحتاج إلى أناس قد أوتوا حظاً من العلوم الضرورية. فهو (التكتل) يحتاج إلى أفراد مختلفين من كافة الاختصاصات. ينبغي أن لا نتصور أن من كان خطيباً مفوهاً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، كما لا ينبغي أن نتصور العكس تماماً، أن من كان عالماً بالكتاب والسنة أن يكون خطيباً مفوهاً، أو أن يكون قد جمع العلوم كلها. أن يتوفر في شخص واحد كل المتطلبات التي تتطلبها الدعوة فهناك أفراد قليلون جداً جداً يعدون على الأصابع، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية. فهذا النقص الموجود في مجموع الأفراد إنما يكون بتكتل هؤلاء الأفراد وتطعيم كل علم بالآخر مما قام في مجموعة من الأفراد.[15]
- أن يكون هذا التكتل قائماً على الكتاب والسنة: فيرى الشيخ الألباني أنه بعد تجمّع هؤلاء العلماء من كافة الاختصاصات فإن أول أمر يجب عليهم أن يهتموا به عند إقامة أي تكتل هو «أن يكون هذا التكتل قائماً على الكتاب والسنة». فقال - رحمه الله -: علينا أن نسعى لإيجاد هؤلاء الأشخاص ثم أن يتكتلوا على عقيدة وعلى كلمة سواء وأن يسعوا في تطبيق هذا المنهج».[16]
- أن يعطي هذا التكتل الحرية العلمية للأفراد: قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: «ينبغي على أي تكتل إسلامي صحيح أن يعطي للأفراد حريتهم العلمية. فلا مانع أن يكون في ذلك التكتل الإسلامي شخصان أحدهما يخالف الآخر. لأننا نعتقد (أن كل خير في اتباع من سلف، و كل شر في ابتداع من خلف), فقد كان في السلف الأول نوع من الاختلاف في بعض المسائل الشرعية. فما كان ذلك بالذي يلزم الحاكم المسلم بأن يفرض رأيه على كل مسلم يتبناه ولو كان مخالفاً لرأي الفرد».[17]
- أن يفهم أفراد هذا التكتل الإسلام فهماً صحيحاً ويربوا عليه: بين الشيخ الألباني أهمية أن يولي هذا التكتل اهتماماً كبيراً بأن يعمل على تكتيل جماعة من المسلمين يفهمون الإسلام فهماً صحيحاً في كل فروعه وأصوله ويربون أنفسهم على ذلك كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول بعثته.[18]
- الاهتمام الأكبر بالنوع لا بالعدد: أكد الشيخ الألباني على أن يهتم هذا التكتل بالأفراد وقد عاب الشيخ - رحمه الله - على بعض الأحزاب و التكتلات التي تجمع بين السني والبدعي، وبين السلفي والخلفي. بل قد يكون في بعضهم من هو ليس من أهل السنة والجماعة.[19]
لذا فعلى القائمين على التكتلات الإسلامية أن يهتموا بأن يكون أفراد هذا التكتل من أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج السلفي حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان الفرقة الناجية: «
».[20]فتوى الألباني رحمه الله في المقاطعة
قال فضيلة الشيخ: مشهور بن حسن آل سلمان
وجدت كلمة أو سؤالاً- لشيخنا الألباني - رحمه الله -، فهو من ضمن سلسلة الهدى والنور في شريط رقم (190)، يُسئل الشيخ - رحمه الله - في وقت اعتداء بلغاريا على المسلمين، دولة بلغاريا لمّا اعتدت على المسلمين الذين هم فيها، فسئل الشيخ في الشريط عن حكم أكل اللحم البلغاري، أذكر لكم جوابه بالنصّ، يقول الشيخ ما نصّه:
«أنا حقيقة أتعجب من الناس، اللحم البلغاري بلينا به منذ سنين طويلة كل هذه السنين أما آن للمسلمين أن يفهموا شو حكم هذا اللحم البلغاري؟ أمر عجيب! فأنا أقول لابد أنكم سمعتم إذا كنتم في شك وفي ريب من أنّ هذه الذبائح تذبح على الطريقة الإسلامية، أو لا تذبح على الطريقة الإسلامية، فلستم في شك بأنهم يذبحون إخواننا المسلمين، هناك الأتراك المقيمين منذ زمن طويل يذبحونهم ذبح النعاج، فلو كان البلغاريون يذبحون هذه الذبائح التي نستوردها منهم ذبحاً شرعيّاً حقيقةً أنا أقول: لا يجوز لنا أن تستورده بل يجب علينا أن نقاطعهم حتى يتراجعوا عن سفك دماء إخواننا المسلمين هناك، فسبحان الله مات شعور الأخوة التي وصفها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنها كالجسد الواحد: « » (رواه مسلم)؛ لم يعد المسلمون يحسون بآلام إخوانهم فانقطعت الصلات الإسلامية بينهم، ولذلك همهم السؤال أيجوز أكل اللحم البلغاري؟!
لك يا أخي أنت عرفت إن البلغار يذبحون المسلمين هناك، ولا فرق بين مسلم عربي ومسلم تركي ومسلم أفغاني إلى آخره، والأمر كما قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فإذا كنا إخوانا فيجب أن يغار بعضنا على بعض، ويحزن بعضنا لبعض، ولا نهتم بالمأكل والمشرب فقط»
وأتمّم كلامه يقول: «فلو فرضنا أن إنساناً ما اقتنع بأن اللحم البلغاري فطيسة..حكمها فطيسة؛ لأنها تقتل ولا تذبح، لا نستطيع أن نقنع الناس بكل رأي؛ لأن الناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك -كما جاء في القرآن الكريم-، فإذا كنّا لا نستطيع أن نقنع الناس بأنّ هذه اللحوم التي تأتينا من بلغاريا هي حكمها كالميتة، لكن ألا يعلمون أن هؤلاء البلغار يذبحون إخواننا المسلمين هناك، أمّا يكفي هذا الطغيان وهذا الاعتداء الأليم على إخواننا من المسلمين هناك أن يصرفنا عن اللحم البلغاري ولو كان حلالاً، هذا يكفي، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين» انتهى كلام الشيخ - رحمه الله - تعالى- بحروفه.
_____________________
[1] من رسالة «التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما» للعلامة محمد ناصر الدين الألباني
[2] أخرجه أبو داود في سننه رقم 3462 وأحمد في مسنده رقم 5007، 5562 و الطبراني في مسند الشاميين رقم 2417 وغيرهم كلهم من حديث ابن عمر مرفوعاً.
[3] أخرجه أحمد في مسنده رقم 22007، 22008 والدارقطني في سننه 3/16 وغيرهما عن عبد الله بن حنظلة.
[4] موقع المختار الإسلامي على الإنترنت
[5] إياد محمد الشامي
[6] (رواه النسائي, و ابن حبان غيرهما, و ذكره الألباني في صحيح الجامع برقم 5934) (الألباني د. ت، 1/594)
[7] (رواه أحمد, وأبو داود, والنسائي، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم 1067) (التبريزي: 1405 هـ، 1/ 235).
[8] (الألباني: سلسلة الهدى والنور)
[9] (الألباني: سلسلة الهدى والنور).
[10] المصدر السابق
[11] المصدر السابق
[12] (الترمذي: د. ت، 5 / 26)
[13] (الألباني: سلسلة الهدى والنور).
[14] (الألباني: سلسلة الهدى والنور)
[15] (الألباني: سلسلة الهدى والنور، 1/320)
[16] (الألباني: سلسلة الهدى والنور، 1/320)
[17] (الألباني: سلسلة الهدى والنور، 1/320)
[18] (الألباني: سلسلة الهدى والنور، 1/322).
[19] (الألباني: سلسلة الهدى والنور، 1/322).
[20] (الترمذي: د. ت، 5 / 26).