الحملة على الشثري: الوطن ينزف.. والديماغوجيون يرقصون!
ملفات متنوعة
كنت عائداً للتو من لقاء ساخن في فضائية "الاقتصادية"، حول مفهوم
"الوسطية" و"الاعتدال"، وقد ألقيت أثناء المقابلة بعض الشكوك حول هذين
المفهومين...
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
السبت 14 شوال 1430 هـ الموافق 03 أكتوبر 2009 م
الزمان: مساء الثلاثاء التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2009. كنت عائداً للتو من لقاء ساخن في فضائية "الاقتصادية"، حول مفهوم "الوسطية" و"الاعتدال"، وقد ألقيت أثناء المقابلة بعض الشكوك حول هذين المفهومين، لا سيما "الوسطية"، فبالرغم من أن أصل المفهوم ورد في القرآن الكريم إلا أنني زعمت أن ظهور خطاب "الوسطية" والترويج له وتسمية منتديات إلكترونية وبرامج تليفزيونية باسمه وإنشاء مراكز بحث تكرس جهدها لترسيخه ونشره - كل ذلك لم يحدث إلا بعد أحداث 11 سبتمبر التي أريد لها أن تكون حدثاً مفصلياً في تاريخ البشرية. ماذا يعني أن أقول عن نفسي إنني "وسطي"؟ لماذا لا أقول بدلاً من ذلك إنني مسلم؟ ثم من الذي يحدد أنني في المنطقة الوسطى؟ أنا أم من يختلف معي؟ ربما وجدت من يصفني بأنني "متطرف" مثلاً أو "منبطح"؟ وكلٌ يدعي وصلاً بالوسطية، وربما لا تقر له الوسطية بذاكا.
في ثنايا اللقاء دعوت الأستاذ جمال خاشقجي، رئيس تحرير جريدة الوطن
السعودية، والذي كان قد اتصل هاتفياً بالبرنامج واعظاً المشاهدين
بالوسطية والاعتدال، إلى أن تكون الصحيفة التي يقودها "وسطية" في
ليبراليتها، وأن تشكل أنموذجاً للوطن الذي تحمل اسمه، وأن ينأى بها عن
ما يسيء إلى الوطن بأقداسه ورموزه وتاريخه. دعوت في اللقاء أيضاً إلى
أهمية أن يحرص الكتَّاب والمعلقون على توحيد الصفوف وتقريب الفجوات،
والكف عن التحريض والتصوير النمطي للأشخاص والظواهر.
لم أكن وقتها قد اطلعت على عدد ذلك اليوم من جريدة "الوطن"، ولذلك لم
أخاطب رئيس تحريرها بشأن ما نشر على صدر صفحتها الأولى، إلا أن الضيف
الآخر في الاستديو، الشيخ محمد النجيمي، تحدث عن الأمر بوضوح، وأبلى
في التعبير عن رأيه بلاء حسناً، وهو أمر يحسب له، ويحسب لقناة
"الاقتصادية" أيضاً التي تدرك أن صدقيتها تنبع من اهتمامها بالتعددية
والتوازن.
عدت مرهقاً إلى البيت، فرأيت "الوطن"، أو بتعبير أدق: الجريمة التي
ارتكبت بحق الوطن. رأيت على يسار الصفحة الأولى صورة عالم شاب، هوعضو
في هيئة كبار العلماء بالسعودية، وعلى يمين الصورة تعليق يقول: "غبار
الشثري و"المجد": لم يشوش الشيخ والقناة على حلم الملك؟". كان الشيخ
الشثري واجماً في الصورة لا مبتسماً، وهو ما يؤكد أنه تم اختيارها
بعناية لتتسق مع التعليق/ الإدانة، ومع "فظاعة" الجرم الذي ارتكبه
الشيخ. بدا الشثري كأنه "مجرم حرب" أو قاطع طريق أو متهم بعملية
اختلاس كبيرة. عاد التفكير بي إلى الوراء ثلاثين عاماً عندما اقتحمت
جماعة متطرفة الحرم المكي، وعاثت فيه فساداً، ثم بعد القبض على ما
تبقى منهم، نشرت الصحف المحلية صور زعيمهم وهو متجهم الوجه عابس
المحيا. عادت بي الذاكرة أيضاً إلى الفترة نفسها تقريباً عندما نشر
الصحافي اللبناني سليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة "الحوادث"، سلسلة من
المقالات ضد النظام السوري توّجها بموضوع غلاف، وظهرت صورة كرتونية
(كاريكاتورية) للرئيس الراحل حافظ الأسد على الغلاف، بعنوان يقول:
"لماذا يكذب النظام؟"، وكان أن دفع اللوزي ثمن ذلك غالياً؛ إذ اختطفته
الاستخبارات السورية في الخامس والعشرين من شباط (فبراير) 1980 ووجد
فيما بعد مقتولاً مسلوخ اليد.
شدني التشابه بين العنوانين، ويبدو أن رئيس تحرير الوطن، كان يستحضر
عنوان اللوزي وهو يصوغ عنوانه التحريضي البائس: "لم يشوش الشيخ
والقناة على حلم الملك؟". قفزت إلى ذهني تلك الصور، وطفقت أتأمل
الخيال الشيطاني الذي أفرز هذا التناول المروع لجريمة مزعومة ارتكبها
الشثري ضد الوطن وضد الملك وضد المجتمع السعودي برمته. تمنيت وقتها لو
رأيت المشهد قبل اللقاء في "الاقتصادية" (من أسف أنه لم تتم دعوتي إلى
المشاركة في البرنامج إلا قبل موعد بثه على الهواء بدقائق، وهو ما
جعلني أتأخر عن الحضور قرابة ربع ساعة)، ولو رأيت ما فعله محرر
"الوطن" لكنت عبرت عن موقفي عندما تحدث خاشقجي إلى القناة. تمتمت في
نفسي: "كم هو حزين هذا اليوم.. يوم حزين للصحافة السعودية".
في صباح اليوم التالي تداعى لمقال خاشقجي جسد حماة الوطن بالسهر
والحمى، وتبارت حروفهم تقوِّل الشثري ما لم يقل، وترميه عن قوس واحدة.
بل طاول الهجوم قناة المجد التي بثت اللقاء مع الشيخ ضمن حلقة من
حلقات برنامجها "الجواب الكافي"، وكل القنوات الدينية الأخرى بذريعة
أنها تحصر الدين في قنوات بعينها، ما يفضي إلى التطرف والانغلاق. لن
أخوض في أسماء الكتَّاب، الذين حصدوا أوسمة كشف المجرم، الشاغب على
"الحلم"، المعطل للمشروع، المتنكر للحداثة، العاشق للركود، وأكتفي
بإيراد بعض الأمثلة: "ما قاله الشيخ..لا يعدو كونه رأي بعض الناس
الذين يمسكون بذنب البعير ويتركون بقيته.. وسيُعَدٌ كلامه.. تثويراً
شعبياً لمن لا يعرف من الحياة سوى.. (ذيل البعير)"، "إن سبب تخلف
المسلمين من قرون هو هذه الأفكار الظلامية"، "الإرهاب ليس فعلاً
إجرامياً حركياً فقط، بل هو أيديولوجيا وخطاب فكري.. والمتابع لمسار
الحركات الإرهابية سوف يجد أن شرارتها الأولى كانت رأياً متطرفاً..
وفي هذا السياق خرج الشيخ سعد الشثري هذه الأيام برأي لم يكن هناك
داعٍ له.. وحاول تحريك الفتنة... ولهذا فإن السكوت عليه هو سكوت على
فيروس أخطر من أنفلونزا الخنازير.."، "ظهرت بعض الدعوات المحملة بغبار
تورا بورا للتشويش على هذا الإنجاز الوطني.. ومن ذلك حديث الشيخ سعد
الشثري.. هكذا تقاس الأمور عند بعض شيوخ المسيار والمسفار.. نحن نعرف
أن بعض المنغلقين فكرياً لا يروق لهم إلا نموذج إمارة طالبان
المنقرضة"، "يأبى التطرف - بكل تشدده وتخلفه وظلاميته - إلاّ أن يكون
حاضراً.. حتى في بيئات إنسانية وحضارية خالدة.. إذا أردت أن تتقدم
خطوة إلى الأمام، فتذكر أن التطرف يقف لك بالمرصاد دائماً، عندها ليس
أمامك إلاّ أن تتحرر من عبودية (الفقيه الطالباني)، وعليك إذن أن تكسر
القيود"، "[إننا] نشهد تنطعاً وتطرفاً وتشدداً ورفضاً لتواجد الأنثى
ليس في مستشفى أو مطار أو طائرة.. بل في جامعة.. في الأثر الشعبي
يقولون: "كل يرى الناس بعين طبعه"، رافضُ الاختلاط ضعيفٌ هش أمام
الاختلاط ويتوقع أن الجميع بما في ذلك (العلماء والعالمات..) ليس
لديهم ما يكابدونه سوى اختلاطهم وماذا يثمر عنه، وبعض وسائل الإعلام
راع رسمي للتطرف.."، "قناة المجد وغيرها من القنوات الإسلامية وسائل
للمرابحة والتكسب من خلال التطرف والانغلاق، والبحث عن عالم منغلق
ومتخيل.. [و] تسعى إلى محاربة حركة المجتمع والتشكيك فيها.." "ما هكذا
يا سعد تورد الإبل"، "غلطة سعد الصغير"، كنا نربأ أن يكون عالمنا
معولنا الهدام.. شيخنا الشاب الفقيه.. قل خيراً أو اصمت".
الملاحظ في هذه الكتابات التي أشبهت حملة منسقة (orchestrated
campaign ) أنها كانت متوترة ومتشنجة ولذا فقدت التوازن ووقعت فيما
تزعم أنها تحاربه، وهو التطرف. تجاهل هؤلاء الحراك الإصلاحي ومناخ
حرية التعبير الذي وفره هذا الحراك في السنوات الأخيرة، ومكَّن هؤلاء
الكتاب وغيرهم من إبداء آرائهم بحرية، بما في ذلك قدرتهم على نقد جهات
رسمية عدة، ونشر تقارير تسائل أداء بعض المؤسسات الحكومية، كوزارة
الصحة، ووزارة التربية والتعليم، ومجلس الشورى، وهيئة الأمر
بالمعروف.. وغيرها. يسهب هؤلاء في الحديث عن ضرورة حرية التعبير،
وعندما يحاول من يختلفون معه أن يعبر عن رأيه، ولو بطريقة مهذبة وغير
مباشرة، يثورون ويشرعون سيوف التخوين والاتهام باللا وطنية وتبييت
النية على تدمير "الحلم" والانقضاض على المشروع الوطني ووأد الحداثة
واغتيال الحضارة... هكذا ببساطة، يتحول عضو في هيئة كبار العلماء، له
مواقف مشهودة في خدمة وطنه والدفاع عنه في وجه من حملوا السلاح لزعزعة
استقراره وتدمير مكتسباته، يتحول إلى "خارجي" من الصنف إياه.. "متطرف"
على شاكلة أولئك.. لا فرق.. تغيرت السحنات فقط.. وبقي المزيفون
الملتحون المربدة وجوههم من غبار تورا بورا، الذين يتلكؤون في إدانة
"الإرهاب"، وتعجبهم عبارة "بلد الحرمين" بدل "السعودية"، ويفرغون
الاحتفال باليوم الوطني من مضمونه.. هكذا نطق المشهد الحزين على صدر
صحيفة "الوطن"، وهي وجهة نظر لا وجهة وطن، وهكذا صورت الأمر ردودُ
الفعل المتعاطفة معه. لماذا لا يكون كلام الشيخ، الذي أثنى طويلاً على
جامعة الملك عبد الله ودورها المأمول في إرساء نهضة علمية كبيرة في
البلاد، لماذ ا لا يكون تعبيراً حراً أو رأياً آخر، يمكن أن يستوعبه
النقاش المتداول و"الحوار الوطني" الخلاق والمبدع الذي استهله خادم
الحرمين الشريفين ودعمه، وحرص على تحويله إلى ثقافة مجتمعية تتجاوز
الأطر التي تدور في فلكها ملتقيات هذا الحوار؟ لماذا لا يكون إسهاماً
في التنمية والإصلاح؟ لماذا اعتبر كلامه "بعيداً" عن توجهات الملك، أو
"منشقاً" عن الإجماع، والشيخ أصلاً من أبناء هذا الوطن، وهو عضو في
هيئة كبار العلماء، وكيف أمكن أن تكون عضويته في هذه الهيئة سبباً في
رميه بالتطرف والظلامية والتشويش؟
اتهم الشيخ "بالتحريض" على العنف. حسناً، ماذا يمكن أن نسمي حملة رئيس
تحرير الوطن ومن تبعه منهم غير التحريض في أبشع صوره، وغير التحامل
البعيد عن المنطق والمنبت الصلة بأخلاقيات الصحافة؟ إن الحراك الثقافي
والأدبي والصحافي الذي ازدهر في المملكة خلال السنوات الأخيرة يجب ألا
يتحول إلى ظاهرة سلبية تقوم من خلالها فئة محددة بإقصاء فئة أخرى
أوتهميشها أو وصمها بالعنف أو اللا وطنية لمجرد أنها تختلف معها. إذا
كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يكون هذا الحراك إيجابياً، بل هو ظاهرة
مرضية تنذر بمزيد من الاستقطاب والاحتقان والتوتر. بل يمكن القول إن
اتهام الشثري أو غيره من الفقهاء بضعف الانتماء الوطني أو "اللين" مع
ظاهرة العنف هو شنشنة نعرفها من القاعدة التي لا تكفر الحاكمين وحدهم،
بل تكفر أيضاً "علماء ذيل بغلة السلطان".
إن التخوين والاتهام با اللا وطنية هو الوجه الآخر للتكفير، وكلاهما سلوك إقصائي استبدادي ضار بالوطن (في التاسع من أيلول/ سبتمبر كتب خاشقجي في "الوطن" متهماً الداعين إلى تأجيل الدراسة باللا وطنية، وبعدها صدر القرار الملكي بالتأجيل..هكذا استسهل الرجل تخوين قطاع كبير من الشعب بجرة قلم، ومع أنه عارض إرادة ملكية وشعبية فإن أحداً لم يتهمه باللا وطنية). لا أرى فرقاً كبيراً بين من ينال من هيبة الحاكم، وبين من يشتم علماء الدين، فالهجوم على هيئة كبار العلماء والتعريض بأنها "هيئة للمشاغبين والمحاربين" هو هجوم ينال من هيبة الدولة السعودية ذاتها، ويضع شرعيتها موضع تساؤل.
ثمة نقطة أخيرة حول علاقة الليبرالية بهذه الحملة. كثير من الذين
دخلوا في معركة ضد الشيخ الشثري يصدرون عن ما يزعمون أنها منطلقات
ليبرالية. ببساطة، لا علاقة لليبرالية بكل هذا. الليبرالية تعني في
أبسط مفاهيمها تعدد الرؤى والاحتفال بالتنوع. الليبرالية مظلومة في
السعودية، بل مختطفة من قبل مجموعة (ولن أقول "عصابة" لأني لن أسفَّ
كما أسفَّوا) تريد احتكار منافذ التعبير وحرمان أكثر الناس منها، بمن
فيهم النخب الدينية كالعلماء والدعاة الذين يحظون بمكانة اجتماعية
كبيرة. إن الذين يسمحون لأنفسهم بقول كل شيء ويمنعون الآخرين من قول
أي شيء ليسوا ليبراليين، بل فاشيون.
أخيراً، لم تولد الحملة على الشثري من دون ارهاصات أومقدمات جعلت هذا
الوضع الخطير ممكناً. لقد انطلقت الهجمة على التدين ورموزه ومظاهره
منذ أحداث 11 سبتمبر، باسم محاربة التطرف الديني، فكان أن حل تطرف
مكان تطرف، وحورب الشر بالشر، واتُّخذ العنفُ المستتر بالدين ذريعة
للانقضاض على الدين نفسه، باسم تجفيف منابع الإرهاب فيما زعموا، أو
ربما "سداً للذرائع" على الطريقة الليبرالية (الجديدة)، واستخدمت
"الوسطية" ستاراً لتمييع المواقف والقفز مما طاب لهم أن يسموه "ثقافة
الكراهية" إلى أحضان ما اصطلحوا على تسميته "بثقافة التسامح"، ووجد
السعوديون أنفسهم أمام خطاب ديماغوجي مقرف يتصيد الأخطاء ويضخمها
منتجاً ومطورًا شبكة من الصور النمطية أفرغت كثيراً من أعمدة الرأي في
الصحف السعودية من العمق والتحليل، وحولتها إلى مساحات للافتراء
والتعميم وتصفية الحسابات.
لن يتبلور إصلاح حقيقي في البلاد، ولن يكون هناك معنى للحوار، ولا
جدوى ألبتة من العزف على سيمفونية التسامح من دون تمتع جميع شرائح
المجتمع بحقها في التعبير تحت مظلة الدستور. ولن يتشكل حراك مجتمعي
إيجابي نحو الإصلاح والحداثة من دون مشاركة جماعية في صناعتهما بعيداً
عن التشويش والتهميش والتهويش. إن الحملة (المكارثية) على الشيخ
الشثري ليست لها علاقة برأي أو فتوى صدرت منه على شاشة فضائية دينية،
بل كان الشيخ ببساطة كبش فداء لحسابات ترمي إلى أبعد من النيل من
وطنيته واستقامته. إما أن تكون الحملة (الشرسة وغير الأخلاقية) "خيراً
لكم"، فتكون بداية لنقد ذاتي عميق ومداواة للجراح النازفة التي خلفتها
في الجسد السعودي، وإما أن تكون منذراً بمزيد من التداعي وفقدان
البوصلة والانحدار إلى المجهول.