أمَنُّ الناس على الدعوة!

نعم في الأمة خير كثير، والخير منها إلى يوم القيامة، لكنه التنافس في الخيرات ينبغي أن يكون شغلنا، والتسابق إلى الطاعات شعارنا

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله - قصص الصحابة -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي اللحظات الأخيرة من العمر المبارك لرسولنا صلى الله عليه وسلم نطق بكلمات وضعها الزمان شامة على جبين الصديق رضي الله عنه، كان منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ» (متفق عليه).

لقد كان الصديق رضي الله عنه أكثر الصحابة جودًا بماله، مع سماحة نفسه وحسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق هذا اللقب بجدارة «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ»، وإني جلست متفكرًا: لو أُذِن لنا فاطلعنا على نفقات المنفقين وبذل الصادقين فمن يا ترى في أيامنا هذه يستحق هذا اللقب: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ على الدعوة»؟! ولا أعني بذلك عند الناس، بل رِفعةً عند الله تعالى.

نعم في الأمة خير كثير، والخير منها إلى يوم القيامة، لكنه التنافس في الخيرات ينبغي أن يكون شغلنا، والتسابق إلى الطاعات شعارنا، والحرص على خدمة الدين بكل ممكن ومتاح، بالجهد والمال، بالنفس والنفيس، وبالدعاء، وهذا كله نابغ من استشعار المسئولية نحو هذا الدين، وهذه الدعوة المباركة.

أيها القارئ الكريم: إن من يتأمل حياة الصديق يجد الأسرة كلها ومنذ اللحظات الأولى قائمة بأمر الدين، حريصة عليه، ففي الأيام الأولى لإسلامه رضي الله عنه ينشط في الدعوة فيسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعًا، وهم من العشرة، بل نصف العشرة المبشرين بالجنة فيا له من ثواب ما أعظمه! ليأتي الصديق يوم القيامة وهم في ميزان حسناته، وكل مَن كانوا سببًا في إسلامه، وكل صالحتهم!

وعد للوراء قليلاً وتفكر في أعمال هؤلاء الكبار، بل ثم يستمر الصديق في البذل فنجد منه التصديق لأمر الإسراء والمعراج فحينما يُخبر بوقوعها يرد: "إن كان قال فقد صدق"، وينال من يومها لقب: "الصديق"، وتترجم مواقفه وحياته المباركة ذلك اللقب ترجمة حقيقية فيما يقوم به من خدمات لهذا الدين، ويناله رضي الله عنه مما نال الصحابة بمكة، وما يصده ذلك عن دينه.

ذكر الإمام بن كثير في البداية والنهاية (3/30) أنه رضي الله عنه ضُرِبَ ضربًا شديدًا، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، فحمله قومه في ثوب وهم لا يشكون في موته -تأمل فيمن يفعل به ذلك!- فلما تكلم آخر النهار كان أول ما قال: "ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!".

وبعد أخذ ورد ورفضٍ منه للطعام والشراب حتى يطمئن على خليله وحبيبه صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، فلما رآه هدأ وسكن رضي الله عنه وأرضاه.

وفي المرحلة المكية عينها كان له من البذل الكثير والكثير فقد أعتق بعض المعذبين واستنقذهم من أيدي المشركين: كبلال وعامر بن فهيرة وبعض الجواري، وكل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، ونزل فيه: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْده مِنْ نِعْمَة تُجْزَى . إِلا اِبْتِغَاء وَجْه رَبّه الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-20]، في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.

وتحين الهجرة إلى المدينة، وقلب الصديق يتقلب ويترقب متى سيهاجر؟ ومع من سيهاجر؟ وكيف يترك خليله؟ ويتمنى من داخله الصحبة، فلما كان ذات يوم وصرح له بها النبي صلى الله عليه وسلم بكى من شدة الفرح. وكان قد أعد العدة لها فجهز بعيرين ورتب أموره كذلك وخطط فأحسن، ووقف بيته وأهله نصرة لدينه.

ويخرج الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة، ولا يعلم خطرها إلا من يفهم ويعي كيف يكون الخطر والخوف على من يلازم ويصاحب رجلاً تريد قريش رأسه، وتطلب دمه!

مخاطرة وأي مخاطرة، لكنه الدين! أغلى عند الصديق من نفسه وأهله وماله، ويذهب الكفار لبيته فيسألون أسماء عن أبيها فتنفي أن يكون لها علم بشيء فليلطمها الخبيث أبو جهل على خدها -كما ذكر ابن هشام في سيرته-.

ويأبى الصديق أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار حتى يدخله هو أولاً؛ ليزيل ما به من أذى، فإن كان فيه شيء أصابه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان ابنه عبد الله يبيت بالقرب منهما ثم ينحدر سرًا إلى مكة، وكأنه قد نام مع قريش، ثم ينقل ما يكون من مكائدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار حين يختلط الظلام، وكان مولى الصديق -عامر بن فهيرة- يرعى غنمًا ويأتيهما كل ليلة، ويتتبع كذلك آثار عبد الله بعد ذهابه إلى مكة كي لا تهتدي بها قريش وتستدل بها عليهما، وفي أثناء ذلك لا يفارق الهم قلب الصديق، بل يصرح بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إن قُتِلتُ فإنما أنا رجلٌ واحد وإن قتلتَ هلكت الأمة".

وعندما يحين التحول من الغار تأتي أسماء بالسفرة، وتشق نطاقها؛ لتجعله سفرة، وانتطقت بالنصف الآخر، فعرفت بـ"ذات النطاقين".

وكان رضي الله عنه يكثر الالتفات في هذه الرحلة خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما نزلا ليستريحا فيسوي له بيده المكان ويضع له البساط، فينام ويبقى هو يحرسه رضي الله عنه، ثم يجهز له طعامه وشرابه مِن لبن وغيره [انظر البخاري (1/510)].

ويصل الركب المبارك إلى المدينة، وتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية ويفرض الجهاد وتكون الفتوحات ويحتاج إلى النفقات والبذل والتضحيات، فيأتي الصديق أيضًا على المقدمة إذ يحاول عمر أن يسبقه يومًا بالصدقة فيأتي بنصف ماله فيجد الصديق قد أتى بماله كله! فيعترف له بسبقه رضي الله عنهما.

وهكذا ظل رضي الله عنه في خدمة الإسلام هو وأهله وولده، ومواقفه أكثر من أن نحيط بها أو نحصيها في صفحات هذا المقال.. فكم أنفق؟ وكم بذل؟ وكم قدَّم رضي الله عنه؟

ومما يُلحظ أيضًا من سيرته المباركة هضم النفس والتواضع الجم فيخرج جنديًا في جيش أميره عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو مَن تأخر إسلامه -كما نعلم- ويخرج كذلك في جيش أميره أسامة بن زيد رضي الله عنه شابًا في سن بعض ولده؛ فكيف تكون هذه النفس التي لا تهتم أين يكون ولا تبحث عن الصدارة والوجاهة، بل قائدًا يخدم، وجنديًا يخدم؟! إنه {اِبْتِغَاء وَجْه رَبّه الأَعْلَى}.

إنه العمل بإخلاص لتحصيل رضا الله فيكون الجزاء: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}، بل والهرب من الصدارة والخوف منها، فلما يعرض عليه منصب الخلافة يشفق ويهتم لعلمه بثقل التبعة وعظم المسئولية، بل نجده وفي أول خطبة له يقول: "قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوموني". ثم تكون سيرته في الأمة أعظم سيرة وأجملها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك العابد البكّاء، والأسيف الذي لا يكاد يقرأ القرآن إلا بكى وأبكى رضي الله عنه وأرضاه!

وهو كذلك المسارع في الخيرات، فيعود المريض، ويتبع الجنازة، ويطعم الطعام، ويحرص على الصيام، فيبشره خير الأنام بقوله: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).

وتكون خاتمة حياته المباركة رضي الله عنه مع القرآن، فلما ذكرت عنده عائشة رضي الله عنها بيت شعر، قال لها: لا يا عائشة، وإنما: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، ويأمر برد ما وجد في بيته مما زاد عن حاله قبل الخلافة إلى بيت مال المسلمين.. بل يضن على نفسه بالجديد من الكفن مؤثرًا الأحياء من المسلمين! ألا رضي الله عنك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وماذا بعد؟!

إنني لم أعرض ذلك لنقرأ فحسب وإنما لنقتدي.. لنتعلم كيف يكون العمل؟ وكيف تكون الحركة والبذل والتضحية لهذا الدين العظيم، كم تحمل الصديق؟ كم أنفق؟ كم بذل وضحى؟! ما تعلل رضي الله عنه بالخوف على حياته، ما تباطأ رضي الله عنه حماية لأهله وولده، ولا خشي على ضياع تجارته.. ما بخل عن الأنفاق وما قصر، بل بادر وتقدم حتى سبق غيره، رصد عمره وماله لخدمة هذا الدين وهذه الدعوة المباركة، دينه أغلى عنده من روحه.. أغلى عنده وأحب إليه من ولده وماله.

إنه يتاجر لينفق على الدعوة.. إنه يفدي القائد بنفسه.. إنه الحريص على زيادة الملتزمين والمهتدين ولو بدفع ماله.. إنه المثال للغني الشاكر.. وهو كذلك الأسوة للعابد الزاهد.. وأيضًا القدوة للجندي الماهر.. ترون حال الأمة.. وحال مصرنا خاصة ولا يخفى عليكم حال الدعوة وما تحتاجه من بذل وتضحية بالجهد والمال والوقت. فمَن لهذه الدعوة؟!

ومَن يكون أمَنّ الناس عليها ابتغاء ثواب الله؟!

إنه مَن يتخذ أمثال الصديق قدوة له، فيعلم أن ما يقدمه لنفسه من الخير يجده عند الله خيرًا وأعظم أجرًا.. يعلم أنه هو المحتاج للدعوة، ليست الدعوة هي تحتاجه.. يعلم أنه دين الله وهو ناصره فيسعى لينال الشرف والمكانة عند الله في ضوء: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْده مِنْ نِعْمَة تُجْزَى . إِلا اِبْتِغَاء وَجْه رَبّه الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى}، وستسطر الملائكة في صحفها أمَنّ الناس، وأسبق الناس.. والموعد الله.

نسأل الله أن يستعملنا في خدمة دينه، وأن يجمعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في الجنة. آمين.

 

إيهاب الشريف

المصدر: موقع صوت السلف