هل نعاني من فوبيا العمل الخيري؟

مما لا يُمكن تصديق حدوثه في مملكة الإنسانية أن يكون بذل الخير لإخواننا في الدين والإنسانية خارج المملكة غير متاح أو جريمة أو حتى شبهة، قد يعاقب فاعلها.
بل والأدهى والأمر وهذا ملاحظ الآن؛ بأن فعل الخير أصبح "فوبيا" عند البعض، يخافون حتى من الحديث عنه فضلاً عن فعله، وفاعله متهم حتى تثبت براءته، فأصبح العمل الخيري منبوذاً عند كثير من الناس خوفاً من إصبع يتهم هنا أو وصمة بالإرهاب هناك.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

صدر مؤخراً نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الجديد، وقد استبشر الكثيرون وأنا منهم بصدور هذا النظام، والذي سيشكل نقطة تحول في العمل الخيري، وقد شمل النظام العديد من التعديلات التي من المؤمل أن يكون لها أثر إيجابي كبير على العمل الخيري والاجتماعي في الداخل.

القطاع الخيري يطلق عليه القطاع الثالث، لأهميته ومقارعته للقطاعين الحكومي والخاص، فالجمعيات الخيرية مناط بها عمل جليل وكبير، وفي دول كثيرة تقوم بدور مساند للمؤسسات الحكومية في مجالات عديدة اجتماعياً وثقافياً وتعليمياً وتوعوياً ودينياً، وعمل الخير فطرة لدى البشر فكيف وهو لدينا في شريعتنا (فرض) كالزكاة ، و(أمر) كالصدقة، وحق طبيعي لكل إنسان بكفالة الله له.

السعودية ينظر لها العالم الإسلامي أجمع على أنها مهبط الوحي ومنبع الرسالة وحاضنة الحرمين وقبلة المسلمين، ولا يمكن فصل هذا كله عن دورها الخيري الرسمي والشعبي في العالم أجمع، ولا عن توقعات المسلمين من هذا البلد الكريم ملكاً وحكومة وشعباً، وقد قامت المملكة على الخيرية وشعارها (شهادة التوحيد) ولقب ملكها "خادم الحرمين الشريفين"، لذلك فممارسة دورها الطبيعي الخيري كأغنى دول العالم الإسلامي متوقع ومطلوب، ودور القطاع الثالث فيها مرتقب من جميع دول العالم، مع التأكيد على الضبط اللازم الذي يحمي الدولة والمجتمع من أي شر قد يحدث جراء استغلال ذلك من قبل الأشرار.

جدير بالذكر أنه في خضم ما يسمى "الحرب على الإرهاب" كانت المؤسسات الخيرية السعودية التي تعمل في الخارج هدفاً صريحاً وواضحاً ، كأحد الأهداف الاستراتيجية للقضاء على الإرهاب (زعموا)، وبعد مرور أكثر من ١٠ سنوات على الحادي عشر من سبتمبر، تم تبرئة جميع المؤسسات الخيرية السعودية في الخارج التي تم اتهامها بدعم الإرهاب، وبدلاً من تجفيف منابع الإرهاب تم تجفيف منابع العمل الخيري في الخارج.

العمل الخيري للسعودية في الخارج واحد من الواجهات المشرقة للإنسان السعودي مما يجعل من إيقاف أو تعليق التصريح للمؤسسات الخيرية الجديدة التي تعمل في الخارج لا مبرر له، فضلاً عن التضييق على المؤسسات القائمة والمرخصة وإغلاقها.

ومما لا يُمكن تصديق حدوثه في مملكة الإنسانية  أن يكون بذل الخير لإخواننا في الدين والإنسانية خارج المملكة غير متاح أو جريمة أو حتى شبهة، قد يعاقب فاعلها.
بل والأدهى والأمر وهذا ملاحظ الآن؛ بأن فعل الخير أصبح "فوبيا" عند البعض، يخافون حتى من الحديث عنه فضلاً عن فعله، وفاعله متهم حتى تثبت براءته، فأصبح العمل الخيري منبوذاً عند كثير من الناس خوفاً من إصبع يتهم هنا أو وصمة بالإرهاب هناك.

خلال هذه السنوات ونتيجة لتوقف عمل المؤسسات الخيرية السعودية في الخارج، فقدنا كسعوديين حكومة وشعباً مواقع عديدة في جميع أنحاء العالم ، كانت بمثابة نبضات قلب ومنارات للعلم والعبادة وبذل الخير والعطاء، هذه المجتمعات كانت تتعاطف مع السعودية في مواقفها وتقف معها قلباً وقالباً، بعض هذه المواقع بعد تخلي السعوديين عنها (تنفيذاً للتعليمات) تم اختطافها من قبل مؤسسات ودول وجماعات وفرق ضالة، هذه الجهات والفرق استثمرت تقاعسنا وابتعادنا وعجزنا عن دعمها، فتولت إدارتها وسيطرت عليها، كثير من هذه الجهات للأسف تعمل ضد كل ما هو سعودي، أبرزها مؤسسات إيرانية تعمل وبدعم كامل وغير محدود من حكومتها وسفاراتها في جميع أنحاء العالم، فتصدرت إيران المشهد الخيري في ضل غياب شبه كامل للمنافس الأول وهو السعودية ومؤسساتها التطوعية الخيرية.

خلال هذه السنوات التي توقفت فيها العشرات من مؤسساتنا الخيرية في الخارج، لم نفقد تلك المواقع فحسب، بل وخسرنا مواقعنا ومكتسباتنا الدعوية وعمقنا المجتمعي في الكثير من الدول لابتعادنا القسري عنها، وبهذا فقدنا أيضاً أحد أبرز قوى الضغط على الحكومات والتعاطف مع المجتمعات في السياسة الخارجية، وقد يفسر هذا سر ضعف قدرتنا على التأثير على كثير من الشعوب في قضايانا ومواجهاتنا مع أعدائنا الإقليميين الذي يلبسون الحق بالباطل، ويدسون السم في العسل.

خلال سنوات معدودة تم إغلاق أكثر المؤسسات العاملة في الخارج إن لم يكن كلها، ولو أردت اليوم تأسيس مؤسسة خيرية سعودية تعمل وتنشط في عمل الخير في الخارج، فلن تستطيع بحجج كثيرة، أكثرها تقع في باب سد الذرائع.

في المقابل والحقيقة المعلومة أنه لن يستطيع كائناً من كان أن يمنع فعل الخير؛ قد لا نراه، أو لا نعلم عنه، ولكنه بالتأكيد يحدث، كما لا يستطيع أحد عملياً أن يفرض الوصاية بالقوة على فاعل الخير بكيفية توجيه صدقاته، ما دامت عملاً مشروعاً وجائزاً في الأوجه الشرعية.

عند التضييق على العمل الخيري خارج المملكة ومنع ممارسته في النور، قد يتوجه البعض تلقائياً إلى البدائل التي قد تؤدي الى المحظور، وبدلاً من أن يكون العمل الخيري في الفضاء الرحب، تتوجه كثير من الأموال كتبرعات في الغرف الخلفية، والتي قد يكون بعضها مظلماً، وبالتالي فقدت الدولة أهم سبل الرقابة وهي المؤسسات المسجلة رسمياً والتي تمارس عملها بشفافية تحت الشمس معتمدة على المستند والإثبات والرسمية، فأهم وسائل الرقابة على العمل الخيري هو في فتح المجال على مصراعيه للمؤسسات الخيرية تأسيساً ونشاطاً لتعمل في الخارج كما هي تعمل في الداخل، وتخضع للرقابة والمراجعة والتفتيش المطلق.

وقد يكون من المهم والمنطقي تأسيس هيئة عامة للعمل الخيري في الخارج، هذه الهيئة لا تمارس العمل بنفسها نهائياً، وإنما تكون مسئولة عن التراخيص والرقابة والإشراف والتنسيق لهذا القطاع، عمل هذه الهيئة المقترحة سيكون مماثلاً لما تطبقة مؤسسة النقد بإشرافها على القطاع المصرفي والتمويل وقطاع التأمين، أو هيئة السوق المالية بإشرافها على سوق المال والشركات الاستثمارية، فهي لا تمارس عملهم، ولكنها تمنح التراخيص وتخضع المرخصين للأنظمة، وتفتش وتوجه لفعل الصواب وتعاقب عند الخطأ.

أخيراً .. هي فرصة لأناس يستطيعون أن يكونوا بوابات للخير فيغرفون من أجر العمل الخيري غرفاً، وجل ما هو مطلوب منهم اقتراح نظام، أو توصية لتعديل سياسة أو تسهيل إجراء، أو تقديم مقترح، أو شفاعة حسنة، فهم يتاجرون مع الله بجاههم، وهي فرصة أكبر لمسئولين استعملهم الله فشرّفهم بمسئولية وسلطة لفتح الأبواب المغلقة، وهو باب من وفقه الله إلى فتحه فسيحصد من هذا الخير الى يوم الدين، ومن أغلقه فقد أغلق على نفسه وعلى الناس باب أجر وخير تحمل هو ومن آزره وزره الى يوم يبعثون.

-----

فهد بن عبدالله القاسم

المصدر: http://www.maaal.com/archives/91559