على أن تأجرني ثماني حجج
مساعد بن سليمان الطيار
وأصل (الحجج) بمعنى (السنين) مأخوذ من شعيرة الحج؛ لأنها مرة في السنة، فصار الموعد مرتبطًا بهذه الشعيرة العظيمة، وهذا من دقائق اختيار الألفاظ من القرآن.
- التصنيفات: التفسير -
لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين، وحصل له ما حصل مع المرأتين وجاء إلى أبيهما، وقصص عليه القصص انتهى إلى جزاء ما صنع للابنتين، فزوجه أبوهما إحديهما على أن يستأجره (ثماني حجج)؛ أي ثمان سنين، فما سرُّ التعبير بحجج بدلًا عن لفظ أشهر منه (سنين)، أو (أعوام)؟!
وأصل (الحجج) بمعنى (السنين) مأخوذ من شعيرة الحج؛ لأنها مرة في السنة، فصار الموعد مرتبطًا بهذه الشعيرة العظيمة، وهذا من دقائق اختيار الألفاظ من القرآن.
وهذا يُشعر بتلك اللفظة التي نطق بها هذا المدْيَنِي العربي، وأن موسم الحج مما كانوا يحسبون به السنين.
إن اختيار هذا اللفظ في هذه القصة يحمل وراءه حكمًا وفوائد، ولعل منها الآتي:
1 ـ أن شعيرة الحج كانت قائمة آنذاك، ولم لا، والله تعالى قد تكفَّل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بإسماع رسالته في الأذان بالحج إلى الناس، فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27ـ 29].
2 ـ أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يعلم مدلول هذه الكلمة، وما يتعلق بها من فريضة الحج، فهو وإن كان تربَّى في قصر فرعون؛ إلا إنه كان يتلقى من أمه الحقيقية تعاليم لا يتلقاها في قصر فرعون.
وبنو إسرائيل من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهم ممن يشملهم هذا النداء الإبراهيمي العظيم، ولا يُتوقَّع أن يترك المؤمنون من ذريته هذه الشعيرة العظيمة.
روى البخاري بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ».
وروى مسلم بسنده عن ابن عباس: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: «
» فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ: « ». ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: « » قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى. قَالَ: « ».3 ـ إن اختيار هذه اللفظة الدالة على مرور العام في هذا الموطن من القرآن دون ورود مثيل لها يشعر بأن هذه اللفظة مما نطق بها عرب مدين آنذاك، وهي لم تزل باقية عن عرب بمدلولها القديم هذا.
ومن شواهد أشعارهم في ذلك -وهي كثيرة-:
- قال أبو حاتم السجستاني (ت: 255) في كتاب (المعمرين): "وعاش عوف بن سبيع بن عميرة بن الهوان بن أعجب بن قدامة بن جرم بن ربّان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة مائة سنة وثمانين سنة".
وقال في ذلك:
ألا هل لمن أجرى ثمانين حجَّة *** إلى مائة عيش وقد بلغ المدى
وما زالت الأيَّام ترمي صفاته *** وتغتاله حتَّى تضعضع وانحنى
وصار كفرخ النَّسر يهتزُّ جيده *** يرى دون شخص المرءِ شخصا إذا رأى
وبدِّل من طرف جواد حشيَّة *** ومن قوسه والرُّمح والصَّارم العصا
وإنِّي رأيت المرء يظعن جاره *** لنيَّته لا بدَّ يوما وإن ثوى
- وفي جمهرة أشعار العرب (ص:84):
وكان لبيد أحد المعمرين؛ يقال: إنه لم يمت حتى حرم عليه نكاح خمسمائة امرأةٍ من نساء بني عامر، وهو القائل لما بلغ تسعين حجة:
كأنّي وَقَدْ جـاوَزتُ تِسْعينَ حجّةً *** خَلَعتُ بها عنِّي عِذارَ لجـامي
رَمتني بناتُ الدَّهرِ من حيثُ لا أرَى *** فكَيفَ بمن يُرْمى، وليس برامي
ولـو أنّـني أُرمَى بِسَـهْـمٍ رأيتُـها *** ولكنَّـني أُرمَى بغَـيرِ سِـهـامِ
- ورثت الخرنق أخت طرفه أخاها بقولها:
نَعِمنا بهِ خَمسًا وعشرينَ حِجَّةً *** فلمّا تَوَفَّاها استَوى سيِّدًا فَخمَا
فُجِعْنا بهِ لـمّا استَتَمَّ تَمامَهُ *** على خَيرِ حالٍ، لا وَليدًا ولا قَحما
- ومنها قول زهير في معلقته:
وقفت بها، من بعد عشرين حجة *** فلأيا عرفت الدار بعد توهم
- وفي كتاب الشعر والشعراء في شعر عمرو بن قمئة:
رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى *** فكيف بمن يرمى وليس برام
وأهّلكني تأميل ما لست مدركًا *** وتأميل عام بعد ذاك وعام
إذا ما رآني الناس قالوا: ألم تكن *** جليدًا حديث السّنّ غير كهام
فأفنى وما أفنى من الدّهر ليلة *** فلم يغن ما أفنيت سلك نظام
فلو أنّني أرمى بنبل رأيتها *** ولكنّني أرمى بغير سهام
على الرّاحتين مرّة وعلى العصا *** أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
كأنى وقد جوزت تسعين حجّة *** خلعت بها عنّى عذار لجامي
وهذا غيض من فيض من بقاء هذا المدلول عند شعراء الجاهلية، والمخضرمين، أما شعراء الإسلام فاستخدموا (الحجة) بمعنى (السنة أو العام) كثيرًا، ومنه قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني *** لبين رتاج قائمًا ومقام
أطعتك يا إبليس تسعين حجة *** فلما انقضى عمري وتم تمامي
فزعت إلى ربي وأيقنت أنني *** ملاق لأيام الحتوف حمامي
وفي ختام هذه المقالة أدعو إلى نوع من دراسة الألفاظ القرآنية:
الأول: ما كان على هذا السبيل من الألفاظ التي تستخدم في قصص القرآن، ولا تأتي في غير هذه القصة أو تلك، ومثلها -غير ما ذكرت هنا- جملة (حاش لله)، فلم ترد إلا في سورة يوسف فقط، وكلاهما في قول النسوة:
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31].
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:51].
الثاني: الألفاظ (المفردة) في القرآن التي لم ترد بأي صورة من تصريف اشتقاقها إلا مرة واحدة، كلفظة (الصمد) ولفظة (باسقات) ولفظة (العرجون)، وغيرها.
ومجال دراستها رحب من جهة اللغة وبلاغة الاختيار.