[05] أذية المحتسبين
إن الرسلَ عليهم السلام ما بُعثوا إلا ليمنعوا الناس من أهوائهم، ويوجهوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، واتباع أمره، ومجانبة نهيه. وإن أعداء الرسل ما عادوا المؤمنين لأنهم لا يعبدون إلا الله وحده، وإنما عادوهم لأنهم يأمرونهم بعبادة الله تعالى وحده، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان قبل بعثته يتعبد لله تعالى في غار حراء وما آذاه المشركون، بل كانوا يحترمونه ويوقرونه حتى سموه الأمين، وإنما عادوه لما قام بالاحتساب عليهم فأمرهم بعبادة الله تعالى ونبذ الأوثان.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الكبير؛ مالك الملك، ومدبر الأمر، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو على كل شيء قدير، نحمده حمدًا يليق بجلاله وعظمته، ونشكره شكرًا يزيد نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ودبرهم، وأحياهم ويميتهم، وإليه معادهم ومرجعهم، وعليه حسابهم وجزاؤهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ قدوة الناصحين المحتسبين، وإمام الأنبياء والمرسلين، وخير من أوذي في ذات رب العالمين؛ فشُج وجهه، وكُسرت رَباعيته، ووضع سلا الجزور على ظهره، وخُنق خنقًا شديدًا، ووُطئ على رقبته الشريفة حتى كادت عيناه تبرزان، وبُصق في وجهه، وحاول المشركون قتله غير مرة، فما فتَّ ذلك في عضده، ولا رَدَّه عن دعوته، بل تحمَّل أذى قومِه، وصبر على عشيرته، حتى بلَّغ رسالة ربه، واستنقذ من الضلال أمته، فها هم ملايين المسلمين يعبدون الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها من أثر تبليغه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتمسوا ما يرضيه، وجانبوا ما يسخطه، فوالوا أولياءه، وعادوا أعداءه، وأحبوا فيه، وأبغضوا فيه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ} [المائدة: 56]
عباد الله، أرسل الله تعالى الرسل إلى الناس ليأمروهم بعبادة الله تعالى وحده، فيخضعوا لأمره، ويستسلموا لحكمه، وينقادوا لشريعته، وينبذوا أهواء النفوس وشهواتها، فكان الناس فريقين: الأول: من عبد الله تعالى ونبذ هواه، والثاني: من اتبع هواه واستكبر عن عبادة مولاه. والله تعالى سمى الهوى إلهًا يعبد فقال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان:43].
إن الرسلَ عليهم السلام ما بُعثوا إلا ليمنعوا الناس من أهوائهم، ويوجهوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، واتباع أمره، ومجانبة نهيه. وإن أعداء الرسل ما عادوا المؤمنين لأنهم لا يعبدون إلا الله وحده، وإنما عادوهم لأنهم يأمرونهم بعبادة الله تعالى وحده، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان قبل بعثته يتعبد لله تعالى في غار حراء وما آذاه المشركون، بل كانوا يحترمونه ويوقرونه حتى سموه الأمين، وإنما عادوه لما قام بالاحتساب عليهم فأمرهم بعبادة الله تعالى ونبذ الأوثان.
وحال المشركين آنذاك أشبه ما يكون بالنظام الدولي اليوم، وبإعلانات حقوق الإنسان التي لا تعترف بسلطان الله تعالى على الإنسان، وتجعل الإنسان حرًّا في أقواله وأفعاله ومعتقداته، وتمنع الاحتساب الديني عليه.
ولما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام، وأُمر بالبلاغ فبلَّغهم حاربوه أشد حرب، وعادوه كما لم يعادوا أحدًا مثله؛ لأنه احتسب عليهم، وأراد إلغاء التعددية التي يمارسونها، وقالوا مستغربين: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
وهكذا كانت الخصومة التاريخية بين المحتسبين وأعدائهم على مرّ الأزمان. ولطالما عانى المحتسبون من أذية أعداء الحسبة فنالهم ما نالهم من السخرية واللمز والتهجير، وإلصاق التهم بهم، وبث الشائعات فيهم.
ولا عجب في أن يتسمى أعداء الحسبة بالمصلحين، ويدّعون الإصلاح، فقد فعل المنافقون ذلك من قبل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11-12]
إنَّ كل تغيير لشريعة الله تعالى، أو فرض لمنكر، أو إشاعة لفاحشة فهو إفسادٌ وإن ادعى مشرعوه ومشيعوه أنه إصلاح. ولا عجب أيضًا أن يُتهم المحتسبون بأنهم مفسدون فقد قال فرعون من قبل: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26]. ولا عجب أيضًا أن يتهم المحتسبون بأنهم يريدون باحتسابهم الشهرة أو الفتنة أو شيئًا من أمور الدنيا، فقد اتهم فرعون موسى وهارون عليهما السلام بذلك: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78].
وكان الملأ من قوم شعيب يأكلون بالغش أموال الضعفاء، فلما احتسب عليهم في ذلك: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]. وقد مثّل جانبَ الاحتسابِ رسلُ الله تعالى وأتباعُهم من العلماء والدعاة والمصلحين الناصحين في كل زمان ومكان، ومثّل أعداءَ الحسبة الكفارُ والمنافقون وأربابُ الشهواتِ والأهواءِ من المسلمين.
إن أعداء الحسبة قد رموا أنبياء الله بالضلال وبالكذب وبالجنون والسحر، وسخروا منه، وهددوهم بالطرد والرجم وقتلوا منهم، وهددوا وآذوا أتباعهم. ورمى أعداء الحسبة من كفار مكة محمدًا صلى الله عليه وسلم بالسحر والكهانة والجنون، وتآمروا على قتله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]. ورُمي مئاتُ العلماءِ والدعاةِ والمصلحين بالتهم المكشوفة، والأكاذيب المفضوحة، ورُوجت في حقهم الشائعات القبيحة، بل ونالهم على أيدي أعداء الحسبة؛ وعبر القرون المتطاولة، والبلدان المتباعدة، نالهم شديدُ الأذى من إهانة وضرب وسجن وطرد وتشريد، وقُتل عشراتٌ منهم بسبب احتسابهم على أهل الأهواء والضلال والانحراف.
تلك سنة الله تعالى في المحتسبين: أن يبذلوا دماءهم ويؤذوا في أعراضهم وأبدانهم بأنواع الأذى، ويحتملوا ذلك في سبيل هداية الخلق إلى الحق، وحجز الناس عن أسباب العذاب، ورد الأمم والدول عن مواطن الهلاك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
فنسأل المولى جلت قدرته أن يُبقيَ المحتسبين المصلحين في هذه الأمة، وأن يكثِّرَ سوادَهم، ويَشُدَّ أركانهم، ويعليَ أقدارهم، ويُلَيِّنَ قلوبَ العباد لخطابهم، وأن يجزيهم عن المسلمين خير الجزاء؛ إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال:25]
إخوة الإسلام، لقد أوجب الله تعالى الاحتساب على كل مؤمن، بشرط أن يكون عالمًا بما يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه، وأن لا يُخَلِّفَ احتسابُه منكرًا أعظمَ من المنكر الذي يحتسب لتغييره.
ووظيفة المحتسبين هي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وبعد أن ختم الله تعالى النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه سبحانه أبقى في هذه الأمة شعيرة الحسبة إلى آخر الزمان؛ ليستمر الإصلاح في الناس، وليردع أهل الأهواء والفواحش والمنكرات عن غيهم وإفسادهم.
وإن انتشارَ الفسادِ والسكوتَ عليه وعدمَ إنكاره سبيلُ العذاب: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
ومن عظيم أمر المحتسبين عند الله تعالى أنه سبحانه لما ذمّ قتلة الأنبياء من بني إسرائيل عطف المحتسبين على الأنبياء؛ لأن المحتسبين يقومون بمهمة الأنبياء فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، والمحتسبون هم ممن يأمر الناس بالقسط. ولذا فإن من عادى المحتسبين وآذاهم فكأنما عادى الرسل وآذاهم، ومن أعجبه ضعفُ الحسبة واندثارُها فإنما يعجبه ضعفُ دين الإسلام واندثاره؛ فإنه لا بقاء للإسلام إلا بالاحتساب.
فأحيوا فريضة الحسبة فيكم، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وكونوا عونًا للمحتسبين في قيامهم بأمر الله تعالى، فأهل الباطل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:32-33] .
اللهم وفق وسدد واحفظ العلماء والدعاة والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. اللهم أعنهم؛ واكتب عظيم الأجر لهم؛ ولكل من آزرهم وعاونهم. اللهم وفق وسدد واحفظ ولاة أمرنا لنصرة دينك وكتابك وسنة نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك ونصرة دينك. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا؛ وسائر بلاد المسلمين.