[06] الرأسمالية تترنح 1-2
أزمة مالية واقتصادية ظهرت بوادرها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبدأت آثارها السلبية تعصف بالعالم؛ قاصمة لظهر أمريكا والغرب الصليبي المادي؛ ولغيرهم ممن يرتبط معهم بتعاملهم الربوي المصلحي المادي. إن هذا الانهيار في الاقتصاد يمثل كارثة ماحقة للنظام الذي أطلق على نفسه (النظام الرأسمالي).
- التصنيفات: خطب الجمعة -
السبب الأول: العلو في الأرض بالفساد
الخطبة الأولى
أزمة مالية واقتصادية ظهرت بوادرها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبدأت آثارها السلبية تعصف بالعالم؛ قاصمة لظهر أمريكا والغرب الصليبي المادي؛ ولغيرهم ممن يرتبط معهم بتعاملهم الربوي المصلحي المادي. إن هذا الانهيار في الاقتصاد يمثل كارثة ماحقة للنظام الذي أطلق على نفسه (النظام الرأسمالي).
عباد الله، إن هذه الأزمة لابد أن يكون لها أسبابٌ دينية؛ وليست قضية اقتصادية بحتة، فنحن المسلمون المؤمنون لسنا من الذين يعزون ما يحدث في ملكوت الله سبحانه وتعالى إلى الطبيعة أو الصدفة، أو غير ذلك من الأمور التي تدل على خروج الأمور عن هيمنة الله تعالى وتصرفه في شؤون خلقه، لأننا نؤمن بأن الله تعالى هو المتصرف في شؤون الكون كله، على أن بعض الناس لفرط جهلهم وضعف إيمانهم بربهم اغتر بحلم الله عز وجل وإمهاله لأهل البغي والظلم والفساد؛ حتى ظنُّوا أن الصلة بين الخالق والمخلوق مبتورة؛ وأن التدبير الألهي لا دخل له في جريان الأحداث الجسام. وظنوا أن البشر يمكن أن يشرِّعوا لأنفسهم وحياتهم واقتصادهم أفضل من شريعة ربهم.
إن هذا الغرب الصليبي الذي أطاحت به هذه الأزمة الاقتصادية اغتروا حينما صاروا أصحابَ قوىً مادية وإبداعٍ حضاري وقدرةٍ على التحكم في الاختراع والابتكار؛ والوصول إلى معرفة بعض أسرار الكون التي أودعها الله سبحانه في مخلوقاته؛ وصار لسانُ حالهم مقالة قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] وصاروا كالذي قال: {أنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:24]. وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. وأرادوا من سائر الشعوب أن تنحنيَ لهم وأن تصبح تابعة ذليلة، ولا تقول لشيء فعلوه: لم فعلتم كذا؟، وحتى وصل بهم الأمر أن تَدَخَّلُوا في بعض الأمور الداخلية في بلاد المسلمين، مما يشكل استعمارًا حضاريًاـ إن صح التعبيرـ، وقد دفعهم إلى كلِّ هذا قطع صلتهم برب السماوات والأرض، ومالك الدنيا والآخرة، القدير على كل شيء، الذي يمهل ولا يهمل، المحيط بكل شيء علمًا ،العدل الذي لا يُظلم في حكمه وشرعه أحد، القاصم لكل جبار متكبر، وخُيِّل إليهم أنه لا سلطان عليهم، ولووا أعناقهم عن النظر في سنن الله سبحانه في الأفراد والجماعات والدول، وفي الصالحين والمفسدين على مدى تاريخ البشرية.
عباد الله، إن المؤمن بالله وبسننه في خلقة ليوقنَ أن هذه الهيمنة بالظلم والفساد في الأرض أنها صولة من صولات الباطل؛ الذي لا بدَّ لَه من أن يضمحل مهما طال زمن الظلام؛ تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخاري:6501] وقولِه صلى الله عليه وسلم: « »، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود 102]» [صحيح البخاري:4686]. وتصديقًا لقولِ الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وقولِه عز وجل: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:31].
» [صحيحأيها المؤمنون، لقد مارس المستكبرون في الأرض على المسلمين كلَّ وسائلِ العدوان والظلم والقهر والتسلط والاحتقار، حتى وصل الأمر إلى إشعال الفتن في عدد من ديار المسلمين؛ واستباحةِ الدم المسلم؛ واعتبارِه أحقر وأرخص من دم الحيوان، واستنـزافِ خيرات المسلمين، وتسليط بعضِ حكامهم عليهم، وممارسةِ تعذيبٍ في غاية البشاعة على الأسرى والمسجونين ظلمًا، وإهانةٍ للقرآنِ، وسخريةٍ بخير الأنام، وهدم البيوت على رؤؤس الشيوخ والنساء والأطفال، وانتهاكِ أعراض الرجال والنساء، والإغراق في التعامل بالربا الذي أعلن الله الحرب على المتعاملين به، إلى غير ذلك من صور الظلم والفساد، بعد ذلك ألا يحق لكل مسلم أن ينتظر من جبار الأرض والسماوات وعدَه الذي لا يُخْلَف؛ على الذين عاثوا في الأرض الفساد؟، بلى والله؛ بل ذلك من إيمان المؤمن وصدق عقيدته في موعود الله سبحانه وتعالى.؟
اللهم اعز الإسلام والمسلمين، واذل الكفر والكافرين؛ ودمر اليهود والنصارى المعتدين، واكشف الكربة عن إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين. أقول ما سمعتم وأستغفر الله .....
الخطبة الثانية
إنَّ كل من ربط حياته بأعداء الله سبحانه، ورأى فيهم القدرة على جلب النفع ودفع الضر، وركن إليهم، واطمأن إلى سَيرهم وتعاملهم، وأقرَّهم على طغيانهم، وظنَّ أن بيدهم الحلولَ لمشكلات البشرية، وزعم أن سلطانَهم لا يُقهر، لا شك أنه سيناله من البلاء بقدر ركونه إليهم؛ وتبعيته لهم؛ فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود:113].
وما أجمل تصوير القرآن الكريم لحال ضعفاء النفوس المبهورين بأعداء الإسلام؛ الذين يتابعونهم خوفًا من أن تكون لهم الغلبة؛ فينـزلَ بهم البلاءُ على أيديهم؛ لسوء ظنهم بربهم وبدينهم؛ وبوعد الله لأوليائه، انظر ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51-52]، فضعفاء الإيمان ومرضى القلوب يسارعون في موالاة أعداء الإسلام؛ وموافقتهم على ما يريدون؛ لأن خشيتهم من الأعداء صارت أعظمَ من خشيتهم من الله؛ كلُّ ذلك بسبب ضعف صلتهم بالله؛ وتغلغل حب الدنيا في نفوسهم؛ وافتتانهم بها؛ حتى صارت هي الهمَّ الأول؛ والغايةَ التي لا يرون فوقها غاية.
أيها المؤمنون، نتذكرُ بعضَ الآيات القرآنية التي ذكر الله عز وجل فيها سنَّته في المعرضين عن دينه، كيف يستدرجهم بالسعة في الرزق؛ وقوة السلطان؛ ووفرة المتاع الدنيوي؛ والعلم ببعض شؤون الدنيا، حتى إذا أُغرقوا في الترف واللذة والإعراض أخذهم الله سبحانه بغتة، يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:43-45]. فعلنا يا عباد الله أن نتعرف على سنن الله الكونية؛ وذلك بالنظر والتدبر لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وما مضى من تاريخ الأمم، ونثق بوعد الله وموعوده، ونعتبر ونتعظ، فالسعيد من وُعظ بغيره، فنحذر من أسباب سخط الجبار جل وعلا؛ من الظلم والربا وغيرهما، ونحذر من الاغترار والتبعية لأعداء الإسلام والمسلمين.
اللهم اجعل هذه الأزمة نازلة بأهل الكفر والإلحاد؛ واجعل من ورائها الخير للإسلام والمسلمين. اللهم جنبنا الظلم والربا، واغننا اللهم بحلالك عن حرامك. اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والفواحش ماظهر منها ومابطن. اللهم آمنا في أوطاننا.