[24] إفساد الخوارج
إنَّ أعداءَ الملّة لا يألون جهدًا في محاولةِ تفريق الكلمةِ وتمزيق الصفّ، صدعًا للأُمّة، وقطعًا للعُروة. وإنّ هذه البلادَ المباركة هي موئلُ العقيدةِ ومأرِزُ الإيمان؛ وجزيرةُ الإسلام؛ ومحَطُّ أنظار المسلمين في جميع الأمصار والأقطار، ومهوَى أفئدةِ الحجَّاجِ والعُمَّار والزُّوار، حِفظُ أمنها واجبٌ معظَّم، وحمايةُ أرضِها فرضٌ محتَّم، وستظلُّ بحولِ الله بلدًا آمنًا مطمئنًّا ساكنًا مستقرًا متلاحمًا متراحمًا.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله أقوى عدّةٍ عند البلاء، وأمضَى قوةٍ عند البأساءَ والضرَّاء، واعلموا أنّ الدهرَ مشوبٌ صَفوُ أيامِه بالكدَر، ولا محيصَ عن القدر المقدور المسطور.
عباد الله، إنَّ بلادَ الإسلام بلادٌ محسودَة وبالأذى مقصودَة، لا تسلَم من مُعادٍ وحاقِد ومناوٍ وحاسِد، والأمةُ تمرّ في هذا الزمانِ العصيب بأحرَج مواقِفها وأصعبِ ظروفها وأشدِّ خطوبها، تتلقَّى الطعَناتِ الغادرةَ والهجماتِ الماكرةَ من حاسديها ومُعاديها. وإنَّ أهل الإسلام سيبذلون المهَجَ والدماءَ والأشلاءَ والشهداء للدِّفاع عن دينها وعقيدتها والذَّودِ عن أرضها وعِرضِها والذَّبِّ عن حُرُماتها ومقدَّساتها، مستحضرةً قولَ قائدِها وإمامِها نبيِّنا وسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «
» [صحيح الجامع:6445].إخوة الإسلام، الجماعةُ منَعَة، والفرقةُ ضياع، الجماعةُ لُبّ الصَّواب، والفرقةُ أسُّ الخراب، الفرقةُ بادرةُ العِثار وباعثةُ النِّفار، تُحيلُ العَمار خرابًا؛ والأمنَ سرابًا، وهي العاقِرة والحالقة، ولم يمشِ ماشٍ شرٌّ من واشٍ، ورأسُ الأشرار كلُّ محرِّش فتّان. وإنَّ أعداءَ الملّة لا يألون جهدًا في محاولةِ تفريق الكلمةِ وتمزيق الصفّ، صدعًا للأُمّة، وقطعًا للعُروة. وإنّ هذه البلادَ المباركة هي موئلُ العقيدةِ ومأرِزُ الإيمان؛ وجزيرةُ الإسلام؛ ومحَطُّ أنظار المسلمين في جميع الأمصار والأقطار، ومهوَى أفئدةِ الحجَّاجِ والعُمَّار والزُّوار، حِفظُ أمنها واجبٌ معظَّم، وحمايةُ أرضِها فرضٌ محتَّم، وستظلُّ بحولِ الله بلدًا آمنًا مطمئنًّا ساكنًا مستقرًا متلاحمًا متراحمًا.
أيها الإخوة، لقد خرجَت علينا عُصبةٌ غاوِية، خرجت علينا في هذا الوقتِ العصيبِ عُصبةٌ غاويةٌ وحَفنَة شاذّةٌ وسُلالةٌ ضالّة، في محاولات يائسة؛ وإرادة بائسةٍ؛ لنشر الفوضى وشقِّ عصا الطاعة وإثارة الدهماء والغوغاء، فأظهروا مكنونَ الشِّقاق، وشهَروا سيوفَ الفتنة، وجاهدوا بالمحادّة والمضادّة، بعقيدةٍ مدخولة وأفهامٍ كليلةٍ وأبصارٍ عليلة، تاهت بهم الآراءُ المُغويةُ في مهاوٍ مضِلّة وسُبُل مهلكة، فكفّروا وروّعوا وأرعبوا وقتلوا وفجَّروا وخانوا وغدَروا، فلا عن المعاهَدين كَفّوا، ولا عن المسلمين عَفّوا، رمَوا أنفسَهم في هلكة الانتحار بدعوَى الاستشهاد وأوقعوا أنفسهم في دَرَكاتِ الخروج بدعوَى الجهاد. يقابلون الحُجَج باللَّجج؛ والقواعِدَ بالأغاليط؛ والمحكماتِ بشُبهٍ ساقِطة؛ لا تزيدُهم إلاّ شكًّا وحيرةً واضطرابًا، قومٌ باغون، من جادل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام، فَراشُ نار وحُدثاء أغرار وسفهاءُ أشرار، خالفوا ما درجَ عليه السلفُ وانتهجه بعدَهم صالحو الخلَف، وفارقوا ما نقلته الكافّةُ عن الكافّة والجماعة عن الجماعة، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: « » [أخرجه البخاري:7054]، يقول صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح مسلم:1848].
هؤلاء ينطبق فيهم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: « » [رواه البخاري:6930]. وينطبق فيهم أنهم من سلالة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حينما أعطى أناسًا شيئصا من المال ليتألفهم؛ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله يا محمد)، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « (أي: الله) » ، وبعد أن ولّى هذا الرجل المعترض على النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: « (أي من نسله وعقبه أو على شاكلته) » [صحيح البخاري:3344].
هذه الأحاديث تصف بجلاء هؤلاء الخوارج الذين يكفرون ويقلون أهل الإسلام، كفانا الله مكرهم ورد كيدهم في نحورهم وحفظنا وبلادنا من شر كل ذي شر، وأدام الله علينا نعمة الأمن والإيمان. إنه نعم المولى ونعم النصير.
الخطبة الثانية
عباد الله، إنّ هذه الفتنةَ لن تعدوَ أن تكون سحائبَ صيفٍ – بإذن الله - عن قليلٍ تَقشَّع، وعروقَ باطلٍ لا تُمهَل أن تُقطَع، المتالِفُ لها راصِدة، والعزائمُ لها حاصِدة. وإنّ من الخير لكلِّ ذي لُبٍّ وعقلٍ أن لا يبرِمَ أمرًا ولا يُمضيَ عزمًا إلا بمشورةِ ذي دينٍ صالح ورأيٍ ناصح وعقلٍ راجح؛ لأنّ المشورةَ حِصنٌ من الندامةِ وأمانٌ من الملامة، ومن استبدَّ برأيه عمِيت عليه المراشِد وضلَّ في أوضار الغلوّ والتطرُّف والشذوذ.
والعلماء هم أسلمُ الناسِ فِكرًا وأمكنُهم نظرًا، لا يؤثِرون على الحقِّ أحدًا، ولا يجِدون من دونه ملتحدًا، وهم ضميرُ الأمّة وغيظُ عدوِّها وحُرَّاسُ عقيدتها، نظرُهُم عميق ورأيهم وثيق وفِكرُهم دقيق، به علامةُ التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائعُ والتجارب مكنونَ المآلات والعواقب، فخُذوا مِن علمهم؛ واصدُروا عن رأيهم، وإياكم وكلَّ قولٍ شاذٍّ وفكرٍ منحرف منفرد، وإنما يأكلُ الذئب من الغنم القاصِية.
إخوة الإسلام، إنه لا اتفاقَ لكلمةٍ ولا انتظامَ لشتات ولا سلامةَ من عاديات التفرّق إلا بتوحيدِ الكلمة على كلمةِ التوحيد واجتماعِ المشارِب على المنهج السَّديد والطريق الرشيدِ كتابِ الله وسنّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سَلفنا الكرام. وإنّ المسالكَ الشاذّةَ التي يسلُكها أهلُ الغُلوّ والتطرّف والتكفير والتفجير والمسالكَ المدحورة التي يسلُكها أهلُ العلمَنة ودعاةُ التغريب والتحلُّل والانفتاح وتحريرِ المرأة لا تعدو أن تكونَ جمرةَ الفتنة ونار الاصطِدام والكراهية وأذيال الشَّطَط والجنوح، وإنَّ المحافظةَ على الجماعةِ والوَحدةِ مقتضيةٌ حَسمَ شذوذهما برادعٍ قويّ وزاجرٍ مليّ ورعاية وافية وامتثالٍ وثباتٍ على ما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وذلك هو المخرَج من كلِّ بلاء والنجاةُ من كلِّ لأواء.
إخوة الإيمان، إنّ هذه القلاقلَ والبلابل إنما تُدفَع بالتوبة والاستغفار، وتُرفَع بالتضرُّع والافتقارِ والإقلاع عن الذنوب والأوزار، فالأمنُ بالدين يبقَى، والدين بالأمن يقوى، فاحتَموا من المعاصي مخافةَ البلاء ، فإنّه لم يُبتَل المسلمون اليومَ بنقمةٍ نازلةٍ ولا بنعمةٍ زائلة ولا شدّةٍ ولا كارثة إلا بسببِ فُشوِّ المعاصي وظهورِ المنكَرات وانتشارِ المحرّمات بلا نكيرٍ ولا تغيير، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ولم تحدُث فتنةٌ وشرور إلا بسبب ما أُحدِث من عصيانٍ وفجور، فكُفُّوا عن المعاصي المهلِكة والذنوبِ الموبقة، وتوبوا توبةً صادِقة، تُدفَع عنكم النِّقَم، وتُحْرَسْ عليكم النِّعمَ، ويَدُم عزُّكم بين الأمم، قال جل وعلا: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147].
اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها ما بطن. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا. اللهم من أرادنا وبلادنا بسوء وفتنة فخيّب سعيه واكفنا شره.