بنو فوتبائيل

حميد بن خيبش

إذا كان قدر الكرة المستديرة أن تتقاذفها الأرجل، فهل يصح أن يكون قدرا لأمة؟!

  • التصنيفات: دعوة المسلمين - الواقع المعاصر -

ليس في حب الرياضة ما يشين المرء أو يحط من قدره، فالسنة النبوية التي حددت للمسلم معالم السير تحث على تعلم فنون رياضية محددة تؤهل البنية الجسدية، وتحقق الجاهزية عند استدعاء للفرد لأداء مهام تستلزم التحمل والثبات والكفاءة العضلية.

لكن العقل والنقل متفقان على أن الشيء ينقلب إلى ضده إذا زاد عن حده، وأن تفاعل الإنسان مع محيطه محكوم بميزان الاعتدال الذي يهدد اختلاله مقومات الوجود البشري، وينأى بالإنسان عن المسار الذي اختطه الحق سبحانه ودل عليه في محكم التنزيل .

إن كرة القدم التي ظلت حتى الأمس القريب لعبة شعبية، أضحت اليوم صناعة عالمية تقف خلفها آلة دعائية مريبة، لا تكتفي باستنزاف الجيوب فحسب، بل تعيد النظر في القيم والأخلاق وسبل التعايش بين الأمم. وامتدت أذرعها الإعلامية والإعلانية لتسيطر حتى على عقول الصغار ووجدانهم، وتخلف رضوضا قيمية وتربوية تعجز مؤسسات التنشئة الاجتماعية عن التصدي لها. ومن يرصد حجم المتابعة الهائلة لمنافسة كروية، والتفاعل مع سيل الأخبار المتعلقة بصفقة انتقال لاعب أو تكلفة توقيع عقد يدرك أن هناك هوية مصطنعة بصدد التشكل، وجيلا يعلن ميلاده في الملاعب وعلى المدرجات.

لقد بلغ الشغف بالكرة المستديرة حد الجنون، وصار للخبر الرياضي وقعه الذي يضاهي وقع مآس يومية تكابدها الأمة. ولم يعد مثيرا للاهتمام مرأى صبي في العاشرة من عمره يسرد قائمة اللاعبين في فريق رياضي بتفصيل دقيق، يشمل جنسياتهم وسيرهم الذاتية والمبالغ التي تقاضوها للانتقال من منتخب إلى آخر، في حين لا يعدو بلد مسلم كفلسطين أو سوريا في رأيه، مفردة تتردد بين الحين والآخر في نشرات الأخبار! ورغم تعدد الآثار الجانبية لهذا الشغف، وانحراف الممارسة الرياضية عن المُثل والمبادئ التي تزعم الولاء لها،إلا أننا لا نلمس تعاطيا جادا مع الظاهرة,أو سعيا للحد من كلفتها الاجتماعية الممثلة تحديدا في تصاعد وتيرة العنف في الملاعب، والانجذاب المفرط لعالم الكرة اللامتناهي.

يشكل "بنو فوتبائيل" علة أخرى تنضاف إلى هموم الواقع الإسلامي المعاصر. إنهم تكتل من الصغار والمراهقين يتضاعف باستمرار بفعل التغطية الإعلامية المكثفة للحدث الكروي. جيل يطوف كل يوم حول وثنه الرياضي، لاعبا كان أو فريقا. يعلن له الولاء ويقاسمه أفراحه وأتراحه، ويدافع عن قميصه وألوانه بأساليب تتراوح بين المحاكاة الفجة للباس وقصة الشعر أو الانضمام لميليشيا العنف والشغب الرياضي.

جيل يؤجل ترتيب أولوياته أو الاندراج في مجتمعه بشكل إيجابي إلى حين تحقيق وثنه الكروي لكل الألقاب؛ وتحطيمه لكل الأرقام، ونسفه التام لكل خصم أو منافس في رقعة الملعب!

جيل يؤمن بأن خسارة مباراة لا يقل فداحة عن هزيمة الأمة أمام عدو غاشم مما يبيح كل أشكال التمرد، وأن تحقيق الفوز فيها بمثابة انتصار قومي يعيد للأمة أمجادها، وبالتالي ينبغي تخليده في سجل التاريخ!

جيل يدق ناقوس الخطر حول جدية التصدي للآثار الجانبية التي يفرزها الهوس الكروي، وفي مقدمتها:

* الولاء والانتماء: فعدد من الأسر المسلمة لا تخفي اليوم عجزها عن بلوغ  التربية المثلى المتضمنة للمبادئ الإجمالية التي نص عليها الشرع الحكيم، في ظل مزاحمة الفضائيات وشبكة الانترنيت لجهود الأبوين. غير أن تنشئة الطفل على الولاء لدينه وهويته وقيمه أمر بالغ الخطورة، ولا يمكن التهاون في تحقيقه ومتابعته، لأن تقديره لذاته وإحساسه بالانتماء لنسق متين من المثل والقيم والمعايير يحصنه ضد الاستسلام لمغريات الولاءات البديلة، كتلك التي لا تكف الترسانة الدعائية لكرة القدم عن تحريكها وإثارتها.

* القدوة: فمناهجنا التعليمية التي تعرضت في الآونة الأخيرة لعمليات قص وتشذيب أفرغتها من نماذج القدوة والتأسي التي يزخر بها تاريخنا الإسلامي، لم تترك لصغارنا خيارا غير الاستسلام للنماذج التي يطرحها الإعلام. وهي نماذج لا يختلف اثنان حول رداءتها وابتذالها، وتشويهها لمعاني البطولة والجهد الإنساني البناء.

فبين لاعب وطبال وراقصة لا يملك أبناؤنا غير الانسياق والتقليد والمحاكاة، مما يفرز أجيالا هشة لا تطمح سوى للركون إلى الملذات والاستجابة لغرائزها السفلى. لذا فإن تنشئة صغارنا على التأسي بالعظماء والأفذاذ هو تحد آخر ينضاف إلى جملة التحديات التي ترهن حاضر المسلم المعاصر ومستقبله.

* التحيز والتعصب: فالمفارقة باتت واضحة بين ما يروج له "الخطاب الكروي" تحديدا من قيم ومثل، وما يعكسه واقع المنافسات والبطولات. إذ أصبحت المدرجات فضاء لإثارة النعرات القومية وكل أشكال التعصب والعدوان ونبذ الآخر. بل خلصت بعض الدراسات إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية تسهم عبر إلهاب حماس المتفرجين في خلق أجواء مشحونة بالسلبية والكراهية مما يعكر صفو المنافسات؛ ويسيء لمبتغى تحقيق السلام والوئام والمحبة[1].

بل إن النقل المباشر للمباريات  يعتمد اليوم على مذيعين يجيدون اللغة المشتركة بين الملاعب والمعارك، فلا عجب أن تندلع النيران في المدرجات وتُدق طبول الحرب! لذا فاستعادة الأهداف النبيلة للرياضة عموما هو مطلب يستمد وجاهته من الكلفة الباهظة التي باتت تخلفها التظاهرات الكروية إن على المستوى المادي أو الأمني أو الاجتماعي.  

* فك الارتباط: فخلف كل لاعب "نجم" تختبئ آلة دعائية ضخمة؛ وشركات تسعى لترويج منتجاتها وتحقيق أفضل المبيعات بالاعتماد على شعبية اللاعب وقيمته الإعلامية. لن ننكر أن الرياضة عموما لم تعد فضاء للترويح والمنافسة بقدر ما أصبحت صناعة قائمة بذاتها تبحث عن أسواق وعملاء جدد. لكن حين يتعلق الأمر بالصغار فنحن مهددون بجيل من المستهلكين لا يكف عن الإلحاح لإشباع رغبته في اقتناء كل جديد، وأمام وضع كهذا تشعر الأسر المتوسطة والفقيرة بعبء إضافي يُلزمها بالاستجابة أو الرفض الذي يغذي ميل الطفل صوب بدائل تيسر الولوج إلى عالم الشغل المبكر أو الجريمة! إلا أن فك الارتباط هنا ينبغي أن يتم على مستوى الأسرة والمدرسة، من خلال التوعية وترسيخ قيم الإنتاج والكسب والجهد البناء. والحد من سلطة الإشهار المقيتة على عقول الناشئة.

* التنفيس بدل المعالجة: يسود الاعتقاد بأن الحشد الرياضي هو أهم الحشود الاجتماعية التي تتيح للأفراد التنفيس عن مشاعرهم المكبوتة، و التحرر النسبي من ضغوط المجتمع المحكوم بآليات الرقابة المتعددة. بل يعتبره البعض فضاء لتصريف الطاقة الزائدة التي قد تفلت من زمامها في الخارج لتكتسي طابع الانحراف السلوكي. إلا أن الواقع يُكذب هذا الطرح، فالمجتمع الذي يعاني من الفقر والعنصرية والتفسخ، يقول الدكتور أمين الخولي في كتابه (الرياضة و المجتمع)، تتحول ملاعبه هي الأخرى إلى ساحات قتال وأرض مناسبة للصراع الاجتماعي. فإذا استشرى العنف في المجتمع تأثرت الرياضة أشد التأثر، وإذا ما سعى السياسيون ورجال الأعمال للنجاح بأي ثمن تحول المناخ الرياضي إلى مرتع للفساد بما في ذلك الرياضيون والإداريون والحكام. لذلك تظل النداءات المتواصلة من لدن القائمين على الشأن الرياضي بنبذ العنف والتحلي بالروح الرياضية وقيم المحبة والتعاون حبيسة التصريحات المنمقة والاستوديوهات المكيفة. وحدها المعالجة الرصينة والموضوعية لاختلالات المجتمع ستشكل مدخلا لاستعادة نبل هذا النشاط الإنساني.

في عالم منقسم إلى بؤر مشتعلة وأخرى قابلة للاشتعال في أية لحظة، لا يزال الصوت الهادر للمعلق الرياضي عند انطلاق كل مباراة يردد على مسامعنا تراتيل المحبة والإخاء التي تحرص كرة القدم على تحقيقها، رغم علمه يقينا بأن الآلة الإعلامية والدعائية التي تسوق للحدث لا يهمها غير صناعة الفرجة؛ وهز المشاهد ودغدغة نظامه الحسي إلى الحد الذي ينسلخ فيه عن واقعه ليتحول إلى ترس في آلة تولد العنف بصيغ أكثر تهذيبا ومراوغة.

إذا كان قدر الكرة المستديرة أن تتقاذفها الأرجل، فهل يصح أن يكون قدرا لأمة؟!  

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يُراجع كتاب: علم الاجتماع الرياضي للدكتور إحسان محمد الحسن .دار وائل للنشر .عمان 2005 .