[32] الورع - تعريفه ومراتبه
خالد أبو شادي
هناك مسألة مهمة جدًا في الورع وهي قضية العلم، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامًا مهمًا في هذا؛ قال: "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن مافي الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع.
- التصنيفات: أعمال القلوب -
الورع لغة: ورِع، يرِعُ، مأخوذ من مادة وَرَعَ التي تدل على الكفّ والانقباض، والورع في اللغة العفة وهي الكفّ عن ما لا ينبغي ويقال توّرع أي تحرّجَ، والورع التقوى.
الورع بالاصطلاح الشرعي: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأحوط، والورع اجتناب الشبهات ومراقبة الخطرات، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الورع: "عمّا قد تُخَاف عاقبته وهو ما يًعلَم تحريمه وما يُشَك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله -فهذا قيدٌ مهم في الأشياء المشكوك فيها-، وكذلك الاحتيال بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه". وعرف ابن القيم رحمه الله بقوله: "ترك مايُخشى ضرره في الآخرة".
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] منزلة الورع أيضًا وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال عزوجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، أي نفسك فطهر من الذنب فكنّى عن النفس بالثوب، وهذا قول جماعة من المحققين من أهل التفسير، كما قال غيلان الثقفي: وإني بحمد الله لا ثوب غادر لبست، ولا من غدرة أتقَنّعُ.
ولا ريب أن تطهير النفس من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق، والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: « » [صحيح ابن حبان:229]، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وقال إبراهيم: "الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك وترك الفضلات – الأشياء الزائدة-". وروى الترمذي مرفوعًا: "يا أبا هريرة كن ورعًا تكن أعبد الناس".
ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".
هناك مسألة مهمة جدًا في الورع وهي قضية العلم، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامًا مهمًا في هذا؛ قال: "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن مافي الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع.
كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا- فيأتي مثلًا جيش من المسلمين أميره لا يمكن تغييره وعنده فسق وهو في جهاد يقاتل الكفرة، فجاء أحدهم فقال أنا أتورع أن أجاهد وراء هذا الفاسق، ماذا سيحصل؟؛ يجتاح العدو البلد وتقع الهزيمة في المسلمين.
وأحدهم مات أبوه وعنده أموال مشبوهة وعليه ديون فلما جاء الناس يطالبون حقوقهم فقال الابن: أنا أتورّع أن أقضي ديون أبي من الشبهة فهذا الورع فاسد وهذا الإنسان جاهل، فالجهل إذًا يجعل بعض الناس يتركون واجبات بزعم الورع-، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة- غير مكفّرة- أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع".
ومن القواعد في الورع ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهدٌ ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع"، وقال رحمه الله أيضًا: "أما الورع فإنه الإمساك عما يضر- عن المحرمات- أو قد يضر-الشبهات-، فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهلٌ وظلمٌ، وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتَورَّع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة، كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب، فإن الورع عنها ضلالة".
قسّم بعض العلماء الورع إلى ثلاث مراتب فقالوا:
1- واجب وهو الإحجام عن المحرمات وهذا للناس كافة.
2- الوقوف عن الشبهات ويفعله عدد أقل من الناس.
3- الكفّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وتفصيل ذلك الورع عن المباحات التي تشغل عن الله والآخرة ويكون عمله موافقًا للسنّة فلا يتورّع عن الزواج و الطعام مثلًا.