ولاية الفقيه
محمد بن إبراهيم الحمد
الشيعة الإثنا عشرية تعتقد أن الولاية العامة على المسلمين منوطة بأشخاص معينين بأسمائهم، وعددهم، وقد اختارهم الله كما يختار أنبياءه، وهؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر، وهؤلاء الأئمة أمرهم كأمر الله، وعصمتهم كعصمة رسل الله أو أعظم، وفضلهم فوق فضل أنبياء الله. ولكن آخر هؤلاء الأئمة – حسب اعتقادهم – غائب منذ سنة (260هـ).
- التصنيفات: مذاهب باطلة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فالشيعة الإثنا عشرية تعتقد أن الولاية العامة على المسلمين منوطة بأشخاص معينين بأسمائهم، وعددهم، وقد اختارهم الله كما يختار أنبياءه، وهؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر، وهؤلاء الأئمة أمرهم كأمر الله، وعصمتهم كعصمة رسل الله أو أعظم، وفضلهم فوق فضل أنبياء الله. ولكن آخر هؤلاء الأئمة -حسب اعتقادهم- غائب منذ سنة (260هـ).
ولذا فإن الاثني عشرية تحرم أن يلي أحد منصبه في الخلافة حتى يخرج من مخبئه. فيقولون: "كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت". وعلى هذا مضى شيعة القرون الماضية، وقد استطاعوا أن يأخذوا (مرسومًا إماميًا وتوقيعًا من الغائب -على حد زعمهم- يسمح لبعض شيوخهم أن يتولوا بعض الصلاحيات الخاصة بالغائب لا كل الصلاحيات، ولذا استقر الأمر عند الشيعة على أن ولاية فقهائهم خاصة بمسائل الإفتاء وأمثالها، كما ينص عليه (توقيع المنتظر).
أما الولاية العامة التي تشمل السياسة وإقامة الدولة – فهي من خصائص الغائب، وهي موقوفة حتى يرجع من غيبته؛ ولذلك عاش أتباع هذا المذهب وهم ينظرون إلى خلفاء المسلمين على أنهم غاصبون مستبدون. وهذا الأمر يقودهم إلى الحسرة؛ لأنهم يعتقدون أن الخلفاء استولوا على سلطان إمامهم؛ لذلك فهم يَدْعون دائمًا بأن يعجل الله فرج هذا الغائب؛ حتى يقيم دولتهم، وينتقم من أعدائهم، لكن غيبة هذا المنتظر طالت، وتوالت قرون قاربت الاثني عشر دون أن يظهر، والشيعة – طوال هذا الوقت – محرومون من دولة شرعية -حسب اعتقادهم-.
ثم بدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي المنتظر تداعب أفكار المتأخرين منهم، فنتج عن ذلك القولُ والاعتقاد بولاية الفقيه، وهي تعني أن يقوم الفقيه الشيعي -لا غيره- مقام الإمام الغائب، بحيث يكون له ما للغائب من التقديس، والتعظيم، والخضوع، والانقياد لأوامره واجتهاداته، ولا يحل لأحد أن يعترض على الفقيه؛ لأن المعترض عليه معترض على الله.
فالفقيه عندهم ليس له الولاية الخاصة بمعنى أنه المرجع في الفتوى والخصومات فحسب، بل له الولاية العامة، أي له ما للإمام من السلطة الدينية، والولاية العامة لأمور الناس، والزعامة الشاملة فيما يخص شؤون المسلمين العامة، وله الحق في الموارد التي يكون للإمام التصرف فيها، كأخذ الخمس من الغنائم، وله المعادن والأرض التي لا مالك لها، ورؤوس الجبال، وما يكون فيها من حجارة أو شجر أو معدن.
(وعقيدة عموم ولاية الفقيه لم توجد عند الإثني عشرية قبل القرن الثالث عشر). وقد أشار الخميني إلى أن شيخهم النراقي (ت1245هـ) والنائيني (ت1355هـ) – قد ذهبا إلى أن للفقيه جميع ما للإمام من الوظائف والأعمال في مجال الحكم والإدارة والسياسة، ولم يذكر الخميني أحدًا من شيوخهم نادى بهذه الفكرة قبل هؤلاء، ولو وجد لذكره؛ لأنه يبحث عما يبرر به مذهبه، وقد التقط الخميني هذا الخيط الذي وضعه مَنْ قبله، وراح ينادي بهذه الفكرة، وضرورة إقامة دولة برئاسة نائب الإمام لتطبيق المذهب الشيعي.
ولذلك فهو يقول: "واليوم -في عهد الغيبة- لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول: إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب، ليهملهم بعد ذلك؟ ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور الإسلام وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن أرضنا، هل يُسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة تعني ضرورة من ضرورات الحياة".
ويقول في موطن آخر: "قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟ ويعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟
القوانين التي صدع بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وجهر في نشرها، وبيانها، وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عامًا، هل كان ذلك لمدة محدودة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلًا؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ".
ثم يقول: "إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية، فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف".
فخميني يرى لهذه المسوغات التي ذكرها ضرورة خروج الفقيه الشيعي وأتباعه للاستيلاء على الحكم في بلاد الإسلام نيابة عن المهدي، خارجًا بذلك عن مقررات دينه، مخالفًا نصوص أئمته الكثيرة في ضرورة انتظار الغائب، وعدم التعجل في أمره، ثم دأب خميني في سلوك السبل المفضية لإقناع الناس بما يراه، وظل الخميني زمنًا طويلًا يُلقي على طلابه في النجف دروسًا في مبدأ ولاية الفقيه، وضرورة قيام حكومة إسلامية من منطلق طائفي مذهبي، وحشد أدلة كثيرة من واقع كتب المذهب الشيعي على صحة ما يذهب إليه، وينادي به رغم أن تلك الروايات التي يستشهد بها لا ترقى وفق ميزان النقد الحديثي عند الشيعة إلى درجة الصحة، وفي منفاه في العراق، ثم في فرنسا أخذ يؤلب أتباعه على الشاه، ويحضهم على القيام بثورة لقلب نظام الحكم في إيران، وتسليم السلطة إلى الفقيه العادل.
وفي عام 1979م بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الإيراني الحديث، فقد غادر الشاه إيران إلى منفاه، وعاد الخميني من منفاه، وتسلم السلطة في إيران، وبدأ الخميني في تطبيق ما نادى به منذ عشرات السنين، ومن هنا بدأت المرحلة الفعلية لتطبيق نظرية ولاية الفقيه التي تعني -بزعمه-: حكومة إسلامية يقوم بتشكيلها ويجلس على عرشها فقيه عالم؛ فهي نظرية ترتكز على أصلين:
الأول: القول بالولاية العامة للفقيه.
والثاني: أنه لا يلي رئاسة الدولة إلا الفقيه الشيعي.
هذا وقد أُفرغت هذه النظرية في كتاب (ولاية الفقيه) أو (الحكومة الإسلامية) الذي نشرته حركة الخميني، وجعلته دستورًا لحركتها، ومنهاجًا لثورتها ضد نظام الشاه، والكتاب مجموع محاضرات الخميني على طلابه في النجف حول هذا الموضوع، والناظر في عقيدة -أو نظرية- ولاية الفقيه يلاحظ ما يلي:
أولًا: أن الخميني ساق مسوغات كثيرة لبيان ضرورة إقامة الدولة الشيعية، ونيابة الفقيه عن المهدي في رئاستها، وكان ينبغي لهذه المسوغات أن توجه وجهة أخرى لو كان للخميني ومن أيده قدم صدق في القول، وحرص على نصح الأتباع، وهذه الوجهة هي نقد المذهب من أصله، الذي قام على خرافة الغيبة، وانتظار الغائب والذي انتهى بهم إلى هذه النهاية.
ثانيًا: ولاية الفقيه شهادة مهمة وخطيرة على فساد مذهب الشيعة من أصله، وأن اجتماع طائفته في القرون الماضية كان على ضلالة، وأن رأيهم في النص على إمام معين، والذي نازعوا من أجله أهل السنة طويلًا وكفروهم – أمر فاسد أثبت التاريخ والواقع فساده بوضوح تام؛ فهاهم يضطرون للخروج على رأيهم بقولهم بـ: (عموم ولاية الفقيه) بعد أن تطاول عليهم الدهر، ويئسوا من خروج مَنْ يسمونه صاحب الزمان، فاستولوا حينئذٍ على صلاحياته كلها.
ثالثًا: أن ولاية الفقيه خروج عن دعوى تعيين الأئمة، وحصرهم بإثني عشر؛ لأن الفقهاء لا يحصرون بعدد معين، وهم غير منصوص على أعيانهم، وهذا يعني أنهم عادوا لمفهوم الإمامة عند أهل السنة -إلى حد ما- لأنهم خرجوا من حصر الإمامة بالشخص وهو الإمام المنصوص عليه -بزعمهم- إلى حصرها بالنوع، وهو الفقيه الشيعي، وهم بذلك يُقرون بضلال أسلافهم، وفساد مذهبهم بمقتضى هذا القول، لكنهم يعدون هذا المبدأ (ولاية الفقيه) نيابة عن المهدي حتى يرجع، فهم لم يتخلوا عن أصل مذهبهم، ولهذا أصبح هذا الاتجاه لا يختلف عن مذهب البابية؛ لأنه يزعم أن الفقيه الشيعي هو الذي يمثل المهدي، كما أن الباب يزعم ذلك، ولعل الفارق أن الخميني يعد كل فقهائهم أبوابًا.
رابعًا: أن الذين قالوا بولاية الفقيه يرون أن حكومتهم الحاضرة أول دولة إسلامية (يعني شيعية) مع أنه قد قامت حكومات شيعية، ولكنها ليست محكومة من قبل الآيات -الفقهاء- ولذا عدوا حكومتهم هذه أول دولة إسلامية.
خامسًا: أن هذه النظرية تدل على إفلاس الفكر الشيعي وتناقضه فيه؛ إذ كيف يتلقون تعاليمهم من طفل غاب في السرداب -كما يزعمون-، ثم ما هذا التناقض العجيب؟ فإذا صدقنا وتنزلنا معهم أن الأئمة لم يجلسوا إلى معلمين، وإنما أخذوا علمهم عن طريق الإلهام، فهل الفقهاء -أيضًا- لم يجلسوا إلى معلمين!، ثم كيف خلعوا عليهم رداء العصمة كما خلعوها على الأئمة؟
سادسًا: أن في هذه النظرية حطاً من شأن النبوة: ذلك أنهم عدوا المجتهد حاكمًا، وعدوا الرد عليه ردًا على الإمام، والردُّ على الإمام -عندهم- رد على الله، والرد على الله يقع في حد الشرك، فلماذا تجاوز الشيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أن الإمامة والاجتهاد الشيعي في منزلة دونها النبوة والرسالة؟
سابعًا: أن ولاية الفقيه لم تلق التأييد المطلق من الشيعة: فلقد أثار ذلك ثائرة جملة من شيوخ الشيعة، ونشب صراع حاد بين الخميني وأحد مراجعهم الكبار، وهو (شريعتمداري) كما أعلن طائفة منهم معارضتهم لهذا المذهب، منهم آية الله الخوئي زعيم الحوزة العلمية بالنجف، والشيخ اللبناني محمد جواد مغنية، والدكتور موسى الموسوي، وغيرهم.
ثامنًا: الإخفاق في التطبيق: وهذا مما يدل على بطلان هذه النظرية وفسادها؛ فلقد كتب الخميني كثيرًا عن عدالة مطالبه، وهو حق الفقيه العالم في تشكيل الحكومة، وكتب عن النتائج الباهرة المنتظر تحققها في عهد ولاية الفقيه من حيث العدالة والأمن والأمان، والسعادة في الدارين، وحكومة عالمية منقطعة النظير.
ولكن الخُبْر يكذب الخَبَر فما أسهل الدعوى، وما أعزَّ المعنى، والواقع الإيراني يدل على ذلك؛ فلقد عانى من ديكتاتورية الفرد – وهو الخميني – الذي استطاع أن يستبد بشعب عانى الأمرين من الحاكم السابق (الشاه) ولا فرق بين الاثنين؛ فالأول بتاج، والآخر بعمامة، بل إن الشاه كان أقل بطشًا بمن يخالفه في مذهبه العقدي من الخميني نفسه؛ فإن الأخير بطش بأناس لا ذنب لهم إلا أنهم يدينون بعقائد تخالف عقيدته، مثل ما فعل بأهل السنة من تقتيل وتشريد.
ومن هنا يتبين لنا بطلان هذه النظرية وفسادها، بل وبطلان مذهب الشيعة وفساده.