(1) مصطلحات تربوية
فريد الأنصاري
التربية عملية معقدة، يجب أن يراعى فيها كل ما يساعد على تمثل الإسلام في الحياة البشرية، روحياً، وعلمياً، ونفسياً، واجتماعياً، ورياضياً إلخ. ومن الخطأ، قصر التربية على جانب التزكية الروحية دون سواها، أو العكس.
- التصنيفات: تربية النفس - الدعوة إلى الله -
في مصطلح التربية
ترجع مادة (ربب) في اللغة، إلى معاني النمو، والإنماء، والعلو، والكثرة، والجمع، والسيادة، وهذه كلها أصل واحد، يدل على الإنماء. يقول الراغب الأصفهاني: "الرب في الأصلُُ: التربية: وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حدّ التمام يقال: ربَّه وربَّاه وربَّبَه". وقال ابن منظور: "السحاب يُربُّ المطرَ: يجمعه وينميه،والمطر يَرُبُّ النبات والثرى: ينميهوربَّ المعروفَ والصنيعةَ، يَرُبُّها رَبًّاوربَّبها: نمَّاها، وزادها، وأتمها، وأصلحها".
وأما (التربية) في التداول الاصطلاحي الدعوي، فهي: تعهد الفرد المسلم، بالتكوين المنتظم، بما يرقيه، في مراتب التدين، تصوراً وممارسة.
فالتربية بهذا المعنى، عملية شمولية، نظراً لشمولية أهدافها المرتبطة، بالتدين الإسلامي الشامل،ذلك أن التعبد في الإسلام، غير مختزل فيما يسمى عند الفقهاء بالعبادات المحضة، بل هو متعدد إلى جانب العادات، والمعاملات، أيضاً.ومن هنا كانت التربية الإسلامية متعلقة بتصحيح التصورات، ثم تصحيح التعبدات، ثم تصحيح السلوك الاجتماعي، وكل هذا يتطلب توظيف معلومات شتى، لها علاقة بمختلف جوانب الحياة بصورة أو بأخرى، باعتبارها أدوات إجرائية، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وحسن تنزيلها تربوياً، في حياة الفرد والجماعة.
ولبيان المعالجة الشمولية، التي تتم في إطار التربية الإسلامية للإنسان ننقل كلاماً نفيساً للأستاذ محمد قطب، يبين ما نهدف إليه، وما نرومه بمصطلح التربية، من حيث هو عملية تنزيلية، يقول حفظه الله: "طريقة الإسلام في التربية، هي معالجة الكائن البشري كله، معالجة شاملة، لا تترك منه شيئاً، ولا تغفل عن شيء؛ جسمه، وعقله، وروحه، حياته المادية والمعنوية، وكل نشاطه على الأرض، إنه يأخذ الكائن البشري كله، ويأخذه على ما هو عليه، بفطرته، التي خلقه الله عليها، لا يغفل شيئاً من هذه الفطرة، ولا يفرض عليها شيئاً ليس في تركيبها الأصيل! ويتناول هذه الفطرة في دقة بالغة، فيعالج كل وتر منها، وكل نغمة تصدر عن هذا الوتر، فيضبطها بضبطها الصحيح، وفي الوقت ذاته يعالج الأوتار مجتمعة،لا يعالج كلاً منها على حدة، فتصبح النغمات نشازاً، لا تناسق فيها. ولا يعالج بعضها، ويهمل بعضها الآخر، فتصبح النغمة ناقصة، غير معبرة عن اللحن الجميل المتكامل،الذي يصل في جماله الأخاذ إلى درجة الإبداع".
فالتربية إذن، عملية معقدة، يجب أن يراعى فيها كل ما يساعد على تمثل الإسلام في الحياة البشرية، روحياً، وعلمياً، ونفسياً، واجتماعياً، ورياضياً إلخ. ومن الخطأ، قصر التربية على جانب التزكية الروحية دون سواها، أو العكس.
مصطلح (التوحيد) في سياق الاصطلاح التربوي
يدور معنى مادة (وحد) في اللغة على محور واحد، هو الانفراد والإنفراد،جاء في مختار الصحاح: "الوحدة: الانفراد، تقول: رأيته (وحده) كأنك قلت: (أَوْحَدْتُه) برؤيتي (إيحاداً)، أي لم أرَ غيره.
ويقال: (وَحَّدَهُ) و (أَحَّدَهُ) بتشديد الحاء فيهما، كما يقال ثَنَّاه وثَلَّثه. ورجلُُ (وَحَدُُ) و (وَحِدُُ) بفتح الحاء وكسرها، و (وَحِيدُُ) أي منفرد. و (تَوَحَّدَ) برأيه، تَفَرَّدَ به".
فالتوحيد إذن هو الإنفراد والتفريد.
وأما في سياق الاصطلاح العقدي، فالتوحيد: هو إفراد الله تعالى في ربوبيته، وألوهيته، وإثبات صفاته.
وأما التوحيد في سياق الاصطلاح التربوي، فنقصد به: تربية الفرد ـ بالمعنى السابق للتربية ـ على أساس استلهام المضمون العقدي للمصطلح لكن ليس على المستوى التصوري (الكلامي) فحسب، ولكن باستشعاره أيضاً في كل مجالات التدين، حتى يكون الارتباط بالله وحده، حاصلاً لدى المتربي، عند ممارسته التدينية، والحركية على حد سواء. وإنما يحصل ذلك بجعل النصوص الشرعية (الكتاب والسنة)، المادة المصدرية لكل تصور، أو برنامج تربوي، إذ هي وحدها دون سواها، القناة الطبيعية، التي تربط الفرد بالله، ربطاً مباشراً، لا أثر فيه لوساطة وسيط، يتدخل بذاته، لتكييف ذلك الاتصال على حسب فهمه العقلي، أو ذوقه الروحي!
فالتربية التوحيدية، عملية تقوم على جعل التوحيد العقدي، شعوراً حاضراً عند التدين، فهماً، وتنزيلاً، فالفهم لا يكون إلا عن الله، وكما أراد الله، والعمل لا يكون إلا كما أمر الله، ولا يقصد به غير وجه الله.
إن التربية المبنية على أساس التوحيد بهذا المعنى، هي ترقية الفرد المسلم في مراتب التدين، من خلال تعميق التزامه بمبادئ الإسلام، ومقتضياته العملية، حيث تكون النصوص الشرعية هي بذاتها مادة التربية الأساس، فيكون المتربي حينئذ متعلقاً قلبه وعقله بالله وحده دون سواه. وذلك عين التوحيد، لا أن تكون الترقية التدينية مبنية على أساس عَظَمةِ فِكْر مفكر، أو بُطولية مواقفه السياسية، أو كثرة تضحياته الابتلائية، أو خصوصية أحواله الروحية، وهلم جراً، فأي عمل تربوي ينحو بالفرد هذا المنجى الأخير، يعد خروجاً عن مبدأ التوحيد، بالمعنى المذكور.
تفصيل ذلك، هو ما سنشرح به المصطلح الثالث بحول الله.
في مصطلح الوساطة
مادة (وسط) في اللغة، تدل على الشيء الواقع بين طَرَفين. قال الراغب الأصفهاني: "وسَطُ الشيء: ما له طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكمية المتصلة، كالجسم الواحد، إذا قلت: وسَطه صَلْبُُ، وضربتُ وسَطَ رأسه، بفتح السين. ووسْط بالسكون: يقال في الكمية المنفصلة، كشيء يفصل بين جسميْن، نحو: وسْط القوم كذا".
وفي اللسان: "اعلم أن الوسط، قد يأتي صفة، وإن كان أصله أن يكون اسماً، من قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: عدلاً. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه،وأنه اسم لما بين طرفي الشيء،وهو منه. وأما الوسْط، بسكون السين، فهو ظرف لا اسم،على وزن نظيره في المعنى وهو (بين)".
والوساطة مصدر لفعل (وَسَطَ)، تقول: (وَسَطَ في حسَبِه وسَاطَة، وسِطَة). وفي القاموس: "الوسيط: المتوسط بين المتخاصمين، وتوسط بينهم عمل الوساطة.
وقد عرفت (الوساطة) كمصطلح فلسفي وأدبي في الفكر الغربي، خاصة مع الناقد والمفكر (روني جيرار)، وهي مستمدة من الأصول المسيحية التثليثية. ومعناها كما يقول الدكتور إدريس نقوري: "إنها تقليد، أو محاكاة لنموذج ما، يسعى إلى تحقيق غرض معين، أي رغبة ملحة، يطمح المقلد إلى إشباعها، فهي مَدَامِيكَ ثلاثة أساسية: الذات، والوسيط، والموضوع".
وبذلك أضيفت إلى الثنائية: إنسان وحيوان، وإلى أنواع الازدواجيات: خير وشر، وحلال وحرام، جميل وقبيح، مَلَك وشيطان ...إلخ رؤية مثلثة يحتل فيها الوسيط، مركز الصدارة، ويتمتع بسلطة قوية ذات تأثير، ونفود كبيرين على الذات، وعلى الموضوع في آن واحد".
ويقول أيضاً: "إن الإشكال الكبير، الذي يواجه نظرية الوساطة هو علاقاتها بالوسطيَّة. فمن المؤكد أن اشتراك النظرية والمذاهب في الجذر اللغوي، لا يعني البتة الاتفاق في الدلالة، أو حتى الحقل المفهومي والمعرفي".
والوساطة بهذا المعنى، قد تظهر في المجال التربوي الإسلامي، إذا انحرفت التربية عن مدار (التوحيد)، فتكون التربية الوساطية، إذن، هي: ترقية الفرد في مراتب التدين، لا من خلال ذات النصوص الشرعية، ولكن من خلال ذات (الوسيط) فيكون المتربي بهذا النهج متديناً بالإسلام، كما فهمه الوسيط، أو كما التزمه، وليس بالضرورة كما هو في ذاته.
والوساطة في المجال التربوي الإسلامي، نوعان:
(أ) الوساطة الروحية: وهي التربية القائمة على أساس الوسيط الروحي، أي الشيخ الصوفي، أو شيخ الطريقة، واضع الأوراد، وصاحب الأحوال والمقامات، الذي يتدين مريدوه بواسطة أوراده،وأحواله، ويسعون لاكتساب مقاماته، باعتباره (الشيخ الكامل) و(القطب الرباني). فالأفراد السالكون على طريقته، المتربون على يده، كلهم نمط واحد، ورغبة واحدة يتوسطون إلى رضى الله تعالى،بمحاكاة صورة الشيخ، المطبوعة في أذهانهم وأعمالهم.
(ب) الوساطة الفكرية: وهي التربية القائمة على أساس الوسيط الفكري، أي الأستاذ المفكر، أو الكتاب المعتمد، ذلك أنه من السهولة بمكان، ملاحظة ظاهرة الارتباط في مجال التدين،وسط الحركات الإسلامية، بشخصيةٍ فكريةٍ معينةٍ، ارتباطاً تربوياً بحيث ينحو المتربي في تدينه منحى أستاذه، فهماً للإسلام، وتنزيلاً له، فيقلده في كل ذلك، تقليداً يقوم على التقديس الشعوري، أو اللاشعوري، لأفكاره ومؤلفاته، بحيث لا يكاد يرى الحق إلا فيما قاله أستاذه،ولا يجد الصواب إلا فيما ذهب إليه، فيتشكل في مجموع التلامذة من هذا النوع، نمط تربوي فكري واحد، لا ينظرون إلى الإسلام، ولا يتدينون به، إلا من خلال منظار الوسيط الفكري، المسيطر على عقولهم، ووجدانهم، سيطرة قد تصل إلى نوع من الوثنية، أو الشرك الخفي.