(2) التربية بين المصدرية والمرجعية
فريد الأنصاري
من أهم ما يلاحظ ابتداءً، في الفرق بين التربية التوحيدية، والتربية الوساطية، أن التوحيد يقوم في مادته التربوية، على النصوص الشرعية، فنصوص القرآن والسنة النبوية، هي المصادر الوحيدة للعمل التربوي، وهو ما أكده سيد قطب، رحمه الله، في وصفه للجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة، حينما قال: "كان النبع الأول، الذي استقى منه ذلك الجيل، هو نبع القرآن، القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه، إلا أثراً من آثار ذلك النبع".
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
من أهم ما يلاحظ ابتداءً، في الفرق بين التربية التوحيدية، والتربية الوساطية، أن التوحيد يقوم في مادته التربوية، على النصوص الشرعية، فنصوص القرآن والسنة النبوية، هي المصادر الوحيدة للعمل التربوي، وهو ما أكده سيد قطب، رحمه الله، في وصفه للجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة، حينما قال: "كان النبع الأول، الذي استقى منه ذلك الجيل، هو نبع القرآن، القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه، إلا أثراً من آثار ذلك النبع".
فالمصدرية الوحيدة، حينما تكون للقرآن والسنة، في المجال التربوي، تضمن السلامة من كثير من الأمراض التربوية، مما سوف نذكره بحول الله.
فكتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، هما صمام الأمان، الواقي من الضلال، إذا أحسن توظيفهما بضوابطهما الشرعية، وقواعد تفسيرهما وفهمهما. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «
» [روه الحاكم في مستدركه].نعم لابد من اعتماد منابع أخرى للتربية، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وفهم النفس الإنسانية، والمجتمع الإنساني، والواقع المتطور المتجدد إلخ، ولكن ليس باعتبارها مصادر، ولكن فقط باعتبارها مراجع، تساعد على تنزيل الحقائق الإسلامية، المستفادة من النصوص الشرعية، في النفس والمجتمع. أما التربية الوساطية، فهي على عكس ذلك تماماً، تعتمد الفكر البشري في تربية الأفراد، باعتباره المنبع الأول للمفاهيم التربوية، سواء كان هذا الفكر ذوقاً صوفياً أو فهماً عقلياً. وإن كان ثمة من نصوص شرعية في هذه الوساطات، فلا تبلغ المتلقي في نسقها القرآني، أو الحديثي، ولكن في نسقها الصوفي أو العقلاني فالمصدرية ههنا إذن لا تكون للنصوص الشرعية، وإنما لأفهام المصلحين، والمربين، لهذه النصوص، وهذا هو عين الوساطة.
إن الحركة الإسلامية، حين تقرر برنامجاً تربوياً، تكون مادته هي كتب فلان، أو أذواق فلان، أو أوراده، باعتبارها المنبع الأساس، والمعتمد الأول في بناء الصف الإسلامي، تكون قد أضفت عليها أنواعاً من القداسة الشعورية لدى المتربين، من حيث تدري أو لا تدري وينتج عن ذلك، مرض تربوي خطير، يتمثل في نشأة جيل من الملتزمين بالإسلام، ليس كما هو في مصادره بالضرورة، ولكن كما فهمه المفكر الفلاني، أو كما تذوقه الشيخ العلاني! ومن هنا لايكون الإنتاج التربوي مضموناً، من حيث الاستمرارية، وعمق التأثير والتأثر، من ناحية، ومن حيث سلامة السير في طريق الالتزام بالإسلام. فهماً، وتنزيلاً، من ناحية أخرى.
فأما الأول، فذلك الفرد المرتبط بالمفاهيم الإسلامية، كما هي في نسقها الشرعي، هو فرد مرتبط بالله مباشرة، ولذلك فإن نزول هذه المفاهيم على قلبه، باعتبارها لَبِنَات في تكوين شخصيته الإسلامية، يكون عميقاً، بحيث يصعب انمحاؤه، واندثاره مع الزمن، ذلك أن للقرآن من حيث هو معان، ومن حيث هو عبارات معاً، قوة تأثيرية لا يمكن أن توجد في كتب الناس، وأفكارهم، وتذوقاتهم،ومواعظهم، فهو وحده المتعبد بتلاوته، حرفاً، حرفاً: «
».وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا عصمة لأي حديث سواء، مبنى ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى كونه أفصح العرب،فهو وحده الذي لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4]
فلنفرض أن الرسالة التربوية، التي نريد تبليغها في جلسة تربوية معينة، هي مفهوم (الخشوع)، فاعتمادنا لغرسه في قلب المؤمن على مادة مرجعية، كأن يكون ذلك من خلال كتاب الرعاية لحقوق الله للحارث المحاسبي، أو إحياء علوم الدين للغزالي، أو مدارج السالكين لابن القيم، أو حتى من خلال موعظة الشيخ الشفهية، أو ورده الذي وضعه للمريدين، فإن كل ذلك سيؤثر لا محالة، لكن التأثير يكون سطحياً، بحيث يغير من الحال لا من المقام، كما يعبر القوم، أي أنه تأثير ظرفي وشكلي، فهو لا يلامس البنية الداخلية في شخصية الفرد، ولا يساهم في تشكيلها البنيوي، ولكن يغير أحوالها الخارجية، فتحدث حالة (الخشوع)، التي لن تستمر طويلاً، ولن يكتسب بها صاحبها (مقام) الخشوع، ولكن (حاله) فقط.
أما إخضاع المتربي، لتكوين تربوي ينتظم النصوص، الواردة في هذا المفهوم، من القرآن والسنة، وحثه على مساهمته الشخصية في مدارستها، وتنبيهه إلى معانيها العميقة، وربطه مباشرة بذات الآيات المتضمنة لهذا المعنى، من مثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قلتُ: أما هذا المنهج، فهو كفيل بتشكيل معنى الخشوع، كجزء من شخصية الفرد الإيمانية، وذلك لما ذكرتُ من خصوصيات النص الشرعي عامة، والنص القرآني بصفة خاصة،ذي الطابع التعبدي المحض، وهذا أضمن لاستمرارية المفهوم التربوي في شعور الفرد، وممارسته فهو هنا مرتبط بنص قرآني، وهو نص ثابت لا يتغير، بمعنى أن الفرد كلما تذكر النص، بمناسبة أو غير مناسبة،إلا وفاض عليه من بركاته الجديدة، ما لم يجده فيه أول مرة ولا ثاني مرة.. وهكذا.
وأما كل ما عداه من مراجع، فهي مساعدة، تفيد في التأسي والاتعاظ الدافع إلى التزام النصوص الشرعية، المصادر الحقيقية للتربية، أما الاقتصار على المراجع فقط، للوصول إلى الهدف المذكور -ولو تضمنت بعض النصوص الشرعية- فإنه سيربط الفرد بالمرجعية، لا بالمصدرية، في نسقها الخالص، والمرجعية ههنا بشرية، نسبية، غير ثابتة، فهي -فضلاً عن احتمالها للخطأ والصواب- تحتمل التغير السلبي، بتغير أصحابها إلى وراء، نحو التحلل من الالتزام الإسلامي، جزئياً، أو كلياً،وهذا ما يكون له بالغ الأثر السيء على نفسية الفرد المرتبط بهذه الوساطات.
وأما الثاني -أي عدم ضمان سلامة السير في طريق الالتزام فهماً وتنزيلاً- فيتجلى في كون التربية المصدرية تربية شمولية، لأن الارتباط بالنصوص الشرعية لا يكون إلا كلياً، إذ بعضها يحيل على بعض، وبعضها يفسر بعضها الآخر.
فهي نسق كلي، يكون -باعتباره مادة تربية- منتجاً لتدين شمولي، لايقصر معنى العبادة على هذا الجانب أو ذاك، ولا على هذا المجال دون ذاك. فالتزام الإسلام تديناً، يكون كلياً، إذ يستشعر الفرد قصد التعبد، في كل فعل حركي، سواء كان في المجال النقابي،أو السياسي، أو الرياضي، أو الإداري، فضلاً عن المجال التعبدي المحض، بتعبير الفقهاء. وإنما يكون هذا ناتجاً عن فهم سابق للإسلام، من خلال مصادره ذات الطبيعة الشمولية.
بيد أن التربية المرجعية قلما تسلم من الفهم والتنزيل التجزيئييْن للدين، لأنها لاتخلو من أحد أمرين: إما أن الوسيط، مفكراً كان، أو شيخاً، هو نفسه يعاني من قصور في الفهم، وإما أنه لا يعاني من هذا القصور، ولكن يكون في كتاباته، وتوجيهاته، متأثراً، فيما يتعلق بالتنزيل العملي للدين، بالزمان والمكان، من حيث الأولويات الظرفية، لا المبدئية، ثم من حيث نقل المفاهيم من مصادرها، باعتبارها وسيطاً، يقوم بتلقينها للأفراد فإلى أي حد يكون دقيقاً، وجامعاً مانعاً، في نقله وأدائه؟ ثم إلى أي حد تبقى تلك المادة -وقد حَلَّتْ محل المصدر- صالحة للأجيال، بتمامها، وكمالها، رغم تغير الزمان والمكان؟
فالنتيجة إذن، هي أن التربية التوحيدية، باعتبارها ذات طبيعة مصدرية أساساً، أضمن لعمق التأثير التربوي، ودوامه، ثم لسلامة ما ينتج عنها من تدين تصوراً وممارسة.
وقبل ختام هذه القضية، لابد من التذكر بأن المصدرية لا تعني إلغاء المراجع، التي هي مفهوم الناس للتدين، تصوراً وممارسة، ولكنها تعني الإبقاء عليها، في سياقها المرجعي؛ حتى لا تكون لها أبداً السلطة المصدرية، ذات الطبيعة المطلقة، والتعبدية بمعناها المحض، بل تبقى باعتبارها مراجع، تتضمن تجارب دعوية، تفيد كأدوات إجرائية، لحسن الاستفادة من القرآن والسنة باعتبارهما مصدرين تربويين خاصة. وذلك هو السياق الحقيقي الذي يمكن للمرجع أن يفيد فيه، وأما رفعه إلى مقام المصدرية، فهو عين الخطأ، الذي يؤدي إلى الانصراف عن مصادر الإسلام، إلى أقوال الرجال، وأحوالهم.
شبهة حول التربية المصدرية: لقد أثار بعض العاملين في الحقل الإسلامي، شبهة حول إمكانية اعتماد النصوص الشرعية في العملية التربوية، حيث ووُجِهْتُ أكثر من مرة، بعد إلقاء محاضرة أو المشاركة في مناقشة متعلقة بالموضوع، بما يفيد أن الناس ليسوا جميعاً مؤهلين، لفهم نصوص القرآن، والسنة حتى تعتمد أساساً للتربية الدعوية،ومن هنا تأتي ضرورة الوساطة الفكرية والروحية على السواء كمنهج أساس في العملية التربوية.
ولذلك كان لزاماً علينا أن نبين طبيعة المنهج، في التربية المصدرية،من خلال الأمور التالية:
(أ) إن البرامج التربوية في المنهج المصدري، ليست بالضرورة من انتقاء المتربين، بل يجب أن تكون عملاً اجتهادياً، يقوم به أهل الاختصاص الشرعي، من الدعاة، حيث يقومون باستقراء النصوص ذات البعد التربوي، من القرآن والسنة، مما نزل أو ورد في سياق تشكيل الشخصية المسلمة، ضبطاً وعدالة، أو قوة وأمانة. ونحن نعلم أن عملية الاستقراء، والجمع، والتركيب، للبرامج عملية اجتهادية، لكنها لن تؤدي إلى وساطة بالمعنى الاصطلاحي المذكور، ومهما اختلفت اجتهادات المربين في تركيب البرامج التوحيدية، فإنها ستصب جميعاً في محيط القرآن والسنة، ومهما يكون بعد ذلك من قصور في تشكيل شخصية المتربي، ناتج عن قصور في تركيب النصوص الاجتهادية، فإن قابلية الفرد للاستدراك على نفسه، أو استدراك غيره عليه، تكون كبيرة نظراً لعدم وقوعه في ارتباط وساطي يعميه عن رؤية الحقائق، ويلبس عليه، إذ هو مرتبط أساساً بالله، من خلال كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو بصورة غير دقيقة ووافية، هذا على افتراض أن قصوراً قد شاب عملية تركيب البرنامج التوحيدي، فلم يكن شاملاً لمتطلبات تكوين الشخصية الإسلامية، بإغفاله لبعض النصوص الضرورية، أو نحو ذلك. وإلا فالأصل أن واضعي البرامج،من أهل الاختصاص الشرعي، يكونون قد بذلوا من الجهد غاية الوسع، في استقراء ما يتضح أنه يشكل لبنة في هندسة الشخصية المسلمة من الآيات الكلية، وجوامع الكلم النبوي. وهذا عمل ليس من اختصاص المتربين، ولكنه من اختصاص المربين والدعاة العلماء.
(ب) إن دخول المتربي في برنامج توحيدي، قوامه النصوص الشرعية، كمادة مصدرية، ثم قراءات في كتب مساعدة، كمادة مرجعية، لا يعني أبداً أن الفرد يجب أن يكون مفسراً أو أصولياً، أو فقيهاً، مدركاً للمكي، والمدني، وأسباب النزول،والعموم، والخصوص، والمطلق، والمقيد، وقواعد الاستدلال، ومناهجه، من أقيسة، ونحوها، لا!
البرنامج التوحيدي ليس هدفه هو تخريج العلماء، بل محل هذا هو الجامعات والمعاهد الشرعية، أما البرنامج، فقصده فقط تخريج الأقوياء الأمناء في مجال الدعوة، ليس إلا وعليه، فإن مدارسة نصوص البرنامج، إنما هي محاولة تَمَثُّل للمبادئ الإسلامية الأساسية، في بساطتها، مما يتعلق بتصحيح التدين، تصوراً وممارسة، وما يتعلق بأصول وقواعد الدعوة، ومنهج تنزيل كل ذلك في واقع الناس اليوم.
ثم إن وظيفة المتربي إزاء النصوص الشرعية، وهو يسهم في مدارستها، إنما هي الرجوع إلى كتب التفسير، وشروح الحديث، فيما يتعلق بالنص المدروس، للاطلاع على أقوال المفسرين والشراح، من أجل إضاءة الموضوع أولاً، ثم عليه بعد ذلك أن يقوم بعملية تركيب للمعنى، جامعاً، ومرجحاً من باب التعلم، والتدرب على اكتساب المفاهيم بصورة مستقلة؛ ولذلك وجب ألا يعتمد على تفسير واحد، أو شرح واحد، بل يعدد مراجع التفسير والشروح، مع العلم أنا لا نعد مثل هذه الكتب من أدوات الوساطة، لأنها بذاتها خاضعة للنسق القرآني، أو الحديثي على الإجمال، وقصدها إنما هو محاولة ربط أعمق للقارئ بالنص الشرعي، نعم لا ننكر حضور الذات المفسرة، أو الشارحة في المادة ولكنها لن تؤثر بالشكل السلبي على النتيجة التربوية،لأن نهاية هذه، إنما هي الدوران حول النص أولاً وأخيراً. ولذلك كان التوجيه المقترح، ألا يقتصر على التفسير الواحد، أو الشرح الواحد، بل لابد من تعدادها، حتى تُتاح الفرصة للمتربي لبذل جهده الشخصي في تمثل النص، فهماً، وتنزيلاً، بما يناسب حاله وزمانه، وهذا عمل قد يبدو لبعضهم صعباً على المتربي، ولكنا نقول كما يقول المثل: يبدأ المرء فرزدقياً، وينتهي جريرياً.
(ج) أضف إلى ذلك، أن النص الشرعي، قرآناً كان، أو سنة لا يعطي ثمرته، لمن لم يتهيأ لاستقبالها، ولا يبوح بأسراره إلا في ظل ظروف خاصة، وشروط سابقة، على المتربي والمربي معاً،أن يعملا على توفيرها وإعدادها. إنها ببساطة ظروف وشروط التعبد، ولذلك فإن مالك بن أنس رحمه الله، لم يكن يجلس لتدريس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متوضئاً، وفي أحسن ثوبه! فالجلسة التربوية يجب أن تكون جلسة عبادة يستشعر فيها الجميع معاني التعبد، ولا مجال بعد ذلك فيها للغو الحديث ولهوه، وإنما هي كالصلاة، أولها إحرام، وآخرها سلام.
وهكذا فقط، تكون للنفوس قوة خاصة، واستعداد خاص، لاستقبال مفاهيم النصوص الشرعية، استقبالاً جيداً ولا بد للمحافظة على هذا المعنى، من تنزيل المادة التربوية (تَخَوُّلاً)، لا إكثاراً، ولا إثقالاً! وذلك بمراعاة العدد المناسب من الجلسات في الأسبوع، الذي يكفي لترقية المتربين في مدارج البرنامج التربوي، دون الإكثار من النصوص في الجلسة الواحدة، لتتاح الفرصة للأفراد، كي يعدوا للمدارسة إعداداً، ويتهيأوا للتعبد تهيؤاً، فلا يملوا، ويسأموا، وينزلقوا إلى اعتياد الجلسات اعتياداً، فتنحرف النفوس من الشعور العبادي إلى الشعور العادي، وتفقد النصوص الشرعية ثمرتها التربوية بالنسبة إليهم خاصة، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مربي الأمة، يبلغ رسالته التربوية على أساس منهج التخول.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا"، وكذلك فعل المتخرجون من مدرسته صلى الله عليه وسلم فعن أبي وائل شقيق ابن سلمه، قال: "كان ابن مسعود رضي الله عنه، يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددتُ أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك، أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا" [البخاري].
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من النصوص في اللقاء الواحد، فالقرآن نفسه، إنما نزل منجماً، وفي ذلك ما فيه، من الفوائد التربوية، والتتبع، المرحلي لتطور المستوى التديني للصحابة، وللنسخ أثر كبير في إقرار هذا المعنى، كما حصل في تحريم الخمر مثلاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كان إذا حدث بحديث، أوجز، وأقل، ولم يسرد سرداً، فعن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ألا يعجبك أبو هريرة، جاء يجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني، وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسرد الحديث كسردكم".
وربما هيأ الناس بكلامه صلى الله عليه وسلم، ليستعدوا استعداداً خاصاً حتى يستقبلوا جيداً مفاهيم هامة، فيرقي المتربين إلى مقام تعبدي رفيع ثم بعد ذلك يبث وصيته. وذلك نحو ما رواه أبو نجيح العرباض بن سارية، رضي الله عنه، قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: "يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا" قال: « » [رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح].
هذا وقد كان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، للنصوص القرآنية، وكذا لحديثه الشريف صلى الله عليه وسلم، عرضاً يطبعه -إلى جانب الإقلال والتخول- التفصيل، والترسيل، حتى يتم الإفهام على أحسن صورة، فعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا تكلم بكلمة، أعادها ثلاثاً، حتى تُفْهم عنه"، و"كان يحدث حديثاً، لو عده العادّ لأحصاه"، وذلك أنه "كان في كلامه ترتيل أو ترسيل" وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه".
إذن فكل هذه العناصر، من تَخَوُّل وإجراءات تربوية تنزيلية، إنما هي لصناعة الحال التعبدي للجلسة، الذي يقرّب المتلقين إلى مستوى النص الشرعي، فيحصل التفاعل،إضافة إلى ما يبذلونه من جهد، مَهْمَا تواضع، لاستثماره، فتكون الفائدة التربوية المرجوة طيبة بإذن الله.
(د) ثم إن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، في المجال التربوي، ليست على غير أساس، ولا نظام، بل لابد من عمل جماعي منظم، يملك مجموعة من المربين، المؤطرين، المختصين في الصناعة التربوية الدعوية. هؤلاء لا يجوز أن ننسى دورهم في تنزيل العملية التربوية، وتذليل العقبات أمام المتربي، قصد تمثل أحسن للمفاهيم الإسلامية، من مصادرها الشرعية ولكن طبعاً ليس بالنهج الوساطي، إذ هناك فرق كبير بين دور المربي، ودور الوسيط.