عندما تكون أكبر من كيانك الخاص
قصة ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺣﺴﻴﻦ ومستشفى ابن سينا بالسودان
- التصنيفات: الزهد والرقائق - تربية النفس - الطريق إلى الله - قصص مؤثرة -
في ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎﺕ الميلادية، اﻣﺮﺃﺓ يابانية في اﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﺗﻤﺴﻚ ﻣﻌﺪﺗﻬﺎ ﻭﺗﻘﻮﻝ: آه؛ ممسكةً ببطنها، ولكن هذه (الآه) ليست ككل الآهات، هذه ﺍﻵﻫﺔ ﺗُﻨﺠﺐ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ؛ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ تم تشييده ﻓﻲ ﺍﻟسودان خلال القرن الماضي.
هذه ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺯﻭﺟﺔ ﺳﻔﻴﺮ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ في حقبة السبيعينيات، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﺑﻨﺔ إﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ.
ﻭﺣﻴﻦ فاجأها ﺍﻷﻟﻢ أخذ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﺴﺘﻨﺠﺪ ﺑﺎﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ، ﻭتقوم ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ بتوجيهه إﻟﻰ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺑﺤﺮﻱ كان على متن إحدى السفن اليابانية إذ ذاك، لكن الرﺟﻞ انطلق ﺑﺰﻭﺟﺘﻪ ﺇﻟﻰ أقرب مستشفى لإسعافها.
ﻫﻨﺎﻙ وجد المفاجأة بانتظاره؛ الجدران ﺍﻟﻤﻐﻄﺎﺓ ﺑﺎﻟﻘﺎﺫﻭﺭﺍﺕ، ﻭالأﺭﺽ ﺍﻟﻤﺒﻘﻮﺭﺓ، ﻭﺍﻟﺮﺍﺋﺤﺔ النتنة.
وكان ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﻔﺰﻭﻉ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﺃﻥ ﻳﺘﻜﺮﻡ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﺘﺴﻜﻴﻦ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ؛ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ إﻟﻰ (ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ) ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، وكان ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ وهو ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺣﺴﻴﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺑﻬﺪﻭﺀ شديد:
ﻣﻌﺬﺭﺓ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟسيدة ﻫﺬﻩ ﺑﻘﻲ ﻟﻬﺎ ﺳﺎﻋﺘﺎﻥ فقط؛ ﻟﻠﺠﺮﺍﺣﺔ، أﻭ ﺍﻟﻤﻮﺕ، وليس ثمة خيار آخر؛ ﻟﻌﻠﻪ ﺍﻟﻔﺰﻉ ﻭﺍﻟﻴﺄﺱ ﻫﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﺴﺄﻝ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻋﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻔﻌﻞ، ﻭﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺗﻘﻮﻝ:
ﻧﻌﻢ، أﺧﻀﻊ ﻟﻠﺠﺮﺍﺣﺔ ﻫﻨﺎ!
وكان ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻳُﺠﺮﻱ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺠﺮﺍﺣﻴﺔ، وسعادة ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻟﻴﺴﻤﻊ ﻧﺒﺄ ﺍﻟﻮﻓﺎﺓ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ.. ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻡ.. ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣﻴﻦ.
ﻟﻜﻦ كانت المفاجأة أن ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺧﺮﺟَﺖ ﺗﻤﺸﻲ، ليس بها بأس، طار بها سعادة ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ مباشرة ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ مباشرة ﺇﻟﻰ ﺃﺿﺨﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ في اليابان؛ ﻓﻬﻲ ﺍﺑﻨﺔ الإﻣﺒﺮﺍﻃﻮر!
ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻳُﺨﻀﻌﻬﺎ ﺍﻟﺠﺮﺍﺣون والمستشارون ﻟﻠﻔﺤﻮﺻﺎﺕ الدقيقة؛ للتأكد من سلامة ما قام به الطبيب.
ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺘﻴﻦ من الفحص ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ ﺗﻘﻮﻝ ﻟﻠﺴﻔﻴﺮ:
ﺃﻳﻦ ﺃﺟﺮﻳﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ؟ ﻭﻣﻦ ﻗﺎﻡ ﺑﻬﺎ؟
ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﺍﺳﻤﻪ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، ﻭﻃﺒﻴﺐ يقال له: ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ.. ﻣﺎﺫﺍ ﻫﻨﺎﻙ؟
ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻫﺬﺍ ﻃﺒﻴﺐ ﻣﻌﺠﺰﺓ، لقد قام بعمل استثنائي، ﻭﻟﻦ ﻧﺘﺮﻙ ﺷﻴﺌًﺎ ﺩﻭﻥ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ لزيارة اليابان.
ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻟﻠﺒﺮﻭﻓﻴﺴﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺗﺄﺗﻲ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ الإﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻭﺍﻟﺪ ﺯﻭﺟﺔ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ!
ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻳﺴﺄﻟﻮﻧﻪ: ﻣﺎﺫﺍ ﺗﺘﻤﻨﻰ؟
اﻃﻠﺐ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ مكافأة لصنيعك.
فماذا تتوقعون أن يطلب؟
ﻗﺎﻝ: لا أريد شيئًا لنفسي، وإذا كنتم لا بد فاعلين فأﻃﻠﺐ بناء ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ في اﻟﺴﻮﺩﺍﻥ.
بالفعل أقامته اﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﻓﻲ ﺗﺴﻊ ﺳﻨﻮﺍﺕ؛ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎﺕ وبداية ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻴﻨﻴﺎﺕ، ويدعى (ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ)، وتم تجهيزه ﺑﻤﻌﺪﺍﺕ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﺟﺪًّﺍ، ﺗﺠﺪﺩ ﻛﻞ ﻋﺎﻡ من الحكومة اليابانية.
عندما قرأتُ هذه الرسالة تعجبت كثيرًا من قدرة بعض الأشخاص في مواقف حاسمة أن يكون أكبر من همومه وذاته وكيانه الخاص؛ ليكون منارةً لغيره في العطاء والإلهام، وأن يصعد بهمته لتناطح السحاب.
لقد توفي البروفيسور والجراح القدير زاكي الدين أحمد المصطفى حسين زاكي الدين؛ مخلفًا وراءه أمَّة من النساء والأطفال، والشيوخ والشباب، كبارًا وصغارًا، يتجاوز تعدادهم ثلاثين مليونًا من البشر هم تعداد الأمة السودانية، يَدعون له بالرحمة والمغفرة وحسنِ المآل، في مشهدٍ قلَّ أن تجتمع أمَّة على مثله.
وإني وأنا أتناول هذا الموضوع أذكر بيتًا من الشعر قالته شاعرةُ العرب تماضرُ بنت عمرو بن الشريد الملقَّبة بالخنساء في قصيدتها الشهيرة عندما بلغَها نبأ وفاة أخيها صخرًا:
وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ بهِ *** كأنَّه علَمٌ في رأسِه نارُ
لقد كان كبيرًا بقدر مساحة وطنه، وأمانته الطبية، وكان له من اسمه أوفرَ الحظ والنصيب.
كم نحن بحاجة شديدة لمثل هذه النجوم المضيئة، التي تَزيدنا إلهامًا وعشقًا لأن نكون أكبر من ذواتنا وكياناتنا الخاصة.
خاطرة:
"لقد أمسكتُ بأشياء كثيرة في يديَّ وفقدتها كلَّها، أما ما وضعته في يدي الله فلا يَزال ملكي". مارتن لوثر
محمد بن عبدالله الفريح