صنف من البشر بألف وجه
أبو الهيثم محمد درويش
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير -
صنف من البشر بألف وجه؛ متلون؛ عليم اللسان؛ ماهر في الترويج لنفسه؛ يحسن المراوغة والزوغان وقت الشدة ووقت البذل والعطاء. لا يزيد الصف المؤمن إلا ثقلاً وتأخراً.
قال فيهم سبحانه محذراً:
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ؛ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ}[التوبة: 47-48].
قال صاحب تفسير المنار:
هاتان الآيتان في بيان حال هؤلاء المنافقين ما كانت تكون عليه لو خرجوا، والتذكير بما كان من أحوالهم السابقة الدالة على ذلك، قال عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا} هذا التفات عن خطاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمرهم إلى خطاب جماعة المؤمنين الذين معه.
يقول : لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود في جماعتكم أيها المؤمنون ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا ، أي : اضطرابا في الرأي ، وفسادا في العمل ، وضعفا في القتال، وخللا في النظام؛ فإن الخبال كما قال الراغب: هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالجنون، والمرض المؤثر في العقل والفكر.
والمراد: ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما ، كما هو شأن القوة العددية المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل ضعفا وفشلا ومفسدة، كما حصل في غزوة حنين؛ فإن المنافقين ولوا الأدبار في أول المعركة، وتبعهم ضعفاء الإيمان من المؤلفة قلوبهم من طلقاء فتح مكة، فاضطرب لذلك الجيش كله، وفسد نظامه، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا روية ولا تدبر، كما هو شأن جماعات البشر في مثل هذه الأحوال.
{وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ}، الوضع والإيضاع كما في التاج: أهون سير الدواب، وقيل: ضرب من سير الإبل دون الشد، وقيل: هو فوق الخبب. قال الأزهري: ويقال: وضع الرجل إذا عدى أي: أسرع وهو مجاز، ويقال: أوضع راحلته اهـ .
وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والمعنى: ولأوضعوا ركائبهم - أو - ولأسرعوا في الدخول في خلالكم وما بينكم سعيا بالنميمة، وتفريق الكلمة {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: حال كونهم يبغون بذلك أن يفتنوكم بالتشكيك في الدين، والتثبيط عن القتال، والتخويف من قوة الأعداء؛ {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم؛ لاستعدادهم لقبول وسوستهم، وقيل : أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم من أقوالكم فيلقونها إليهم، وهو بعيد وإن رجحه الطبري وقدمه الزمخشري، وسماع التشديد صيغة مبالغة لا يختص بما قاله الطبري فيها؛ فإن أولئك المنافقين الذين استأذنوا لم يكونوا معروفين متميزين بحيث تكون لهم هيئة مجتمعة في الجيش تتخذ الجواسيس لتنظيم عملها.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} من هؤلاء وغيرهم، أي: محيط علما بذواتهم وسرائرهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع؛ ومما لم يقع ولا يقع، ككون هؤلاء المنافقين لا يزيدون المؤمنين لو خرجوا فيهم إلا خبالا إلخ.
فهو كقوله في حلفاء اليهود منهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويغرونهم بما يعدونهم به من نصرهم عليه الذي حكاه عنهم في سورة الحشر وكذبهم فيه بقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [ الحشر:12] فأحكامه تعالى فيهم على علم تام، ليس فيها ظن، ولا اجتهاد كاجتهاد الرسول في الإذن لهم، الذي تثبت هذه الآية نفسها أنه مبني على أصل صحيح، وهو أن خروجهم شر لا خير، وضعف لا قوة، ولكنه لم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم؛ لأن هذا من الغيب لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه الله، ولم يعلمه تعالى بذلك قبل نزول هذه الآيات.