إلى وزير العدل :"وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا"!
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
.. وأذكره بأن الأمر ديِن، ودَين سيتم القضاء فيه بين يدي الخالق
وحده، والواجب فيه الوفاء بالحق بلا جمجمةٍ أو دِهان، أو السكوت فإن
السكوت "لا يُكتب"..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله الرحمن الرحيم
فقد قرأت ما نَشره وزير العدل "د. محمد العيسى" -وفقه الله- في "صحيفة الرياض" في حوار مطول، وعلمت أنه بُشّر بمقال الدكتور في "بعض المواقع العلمانية والليبرالية" قبل نّشره بنحو يومين، ولم أهتم بالرّحِم بين المقال واليد المبشرة به، قدر الإهتمام بالعدل الموضوع، والعهد المأخوذ على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس.
لم أجد جديدًا في مقالة الدكتور، بل هي من العمومات والنصوص المطلقة، وكنت أظنه قبل قراءة المقال على حال من سعة الإطلاع غير تلك الحال، فمسألة "الإختلاط" بالمفهوم الذي يُدعى إليه ليست مسألةً بالغة من الخفاء واللطف حدًا يدق عن فطنة العالم ويزيد عن تبصره، فالعالم المتشبع بالإطلاع على علل الشريعة ومقاصدها، يفرق بين مقامات النصوص والأخبار، ويُدرك أن منها مقام حكاية عينٍ ونقل إجمال، ومنها مقام تقرير وتعليم وتحقيق، فيَرد نصوص الشريعة إلى موردها اللائق، وأما غيره فتتجاذبه المتعارضات مجاذبةً تقوده حينها الشهوة الخفية إلى ما لا يريده الله، وتُعميه عما سواه.
ومن المُسلم عقلاً أن من المجازفة الإحتجاج بما ورد في أحد أوصاف الموصوف في سياق الجواز، على وصفٍ آخر له انفرد حُكمه بنص، وإذا وُصف الموصوف بجميعها، لم يكن إفراده بوصف واحدٍ منها دليلا على مساواة ذلك الوصف لبقيتها، وبمثل هذا الإحتجاج والفَهم ظهرت البدع في أصول الدين المقتضية البيان عند نزول الوحي أكثر من الفروع، وُحجج الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، والمرجئة في إخراج العمل من الإيمان، هي من هذا النوع من الإستدلال، ناشئة عن عدم إحاطة بموارد النصوص، والغفلة عن غرضها، وكيف لو ملك الخائض في الإختلاط نصًا صريحًا من الوحي، كما يملك الخوارج كقوله صلى الله عليه وسلم في [الصحيحين]: «قتال المسلم كفر»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» [صحيح البخاري] فكان بين يديه نحو "الإختلاط جائز بين الجنسين"، ماذا سَيُبقي من رأي سائغ لمن خالفه، كيف وهو متجرد من ذلك كله، فصفة العالم العدل الجمع والتحرير بأوضح حُجة وأسهل سبيل، فلا يكون ممن خفيت عليه أشياء، وحضره شيء، فيَضل ويُضل.
ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوّة بلا تجرّد إلى تقرير مسألة أو دفع حُجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكفار قريش يعترضون على محمدٍ كونه: "بشرًا مثلهم" فقالوا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34]، بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم "الحجر"، فرضي المشركون بالإله الحجر، وردوا نبوة النبي لأنه بشر! لأن النفس منشغلة في صد محمد، والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفةً عن طلب الحق، كَحال من يُفتّش في كُتب السنة ليَقفَ على نَصٍ مُشتبه، ويَضع أُصبعيه في أُذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرِّقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في "تاريخ مكة" وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان.
ومع العلم أن الناس يتفاوتون في الخطاب، فمنهم من لا يقتنع إلا بالدليل والحجة، وإذا ذُكّر تذكر، ومنهم مما ذاق لا يرعوي إلا بالجدل، ومنهم مكابر معاند لا يصرفه عن شغبه إلا الزواجر والقوارع، وإني لأحسب معالي الوزير د. محمد العيسى من الصنف الأول، وقد تناول في مقاله المذكور مسألة الإختلاط على سبيل الإجمال، والتعميم:
فقرر -وفقه الله- أن مصطلح الإختلاط من المحدثات في الشريعة، بعبارات مختلفة فقال: "الإختلاط"، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة" وقال: "بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم" إلى غير ذلك.
من المتقرر أن الشريعة تدور مع المعاني والحقائق، والمصطلحات تولد للتقريب والإفهام، ومع ذلك فمن المجازفة أن يطلق أن مصطلح "الإختلاط": "بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم" وهذا ليس من التحقيق والتحري في شيء، والنصوص في جميع القرون منذ الصدر الأول إلى يومنا لا يخلو قرنٌ من بيان "الإختلاط وتحريمه" بل وفي سائر المذاهب الفقهية، مع الإقرار أن الفقهاء في سائر القرون على هذا المصطلح، خاصة، وما في حكمه ومعناه.
ففي السنة ما رواه البخاري في [صحيحه] عن ابن جريج قال قلت: «لعطاء بن أبي رباح: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال، لا تخالطهم» .
وروى أبو داود في حديث حسن من [سننه] عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن ( أي ليس لكن أن تسرن وسطها ) الطريق عليكن بحافات الطريق. فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به» .
وزعم الدكتور أن مصطلح "الإختلاط" حادث، ولا تعرفه دواوين الشريعة، هو من القطع بغير تقدير، والخبط الذي ليس من العلم في قبيل ولا دبير، وما يدري الناقد من أي باب يلج إليه، ليُنير فيه مصباح الحق، فهو دارٌ مشرعة الأبواب والزوايا، وما يزال الرجل في فُسحة من أمره حتى يضع علمه في قِرطاس العلم، فالعقول محابر، والأقلام مغاريف، وكُل إناء بما فيه يَرشح.
فأما دعواه أن "الإختلاط" مصطلح حادث لفظًا ومعنىً لا تعرفه "قواميس الشريعة" ولا "مدونات أهل العلم"، فينيره العلم: ففي القرن الأول والثاني: قال فقيه البصرة التابعي الجليل الحسن البصري (22 هـ-110هـ): إن إجتماع الرجال والنساء لبدعة. رواه الخلال. وبمعنى قوله قال إمام التفسير من التابعين مجاهد بن جبر (21هـ-104هـ) كما رواه ابن سعد في (الطبقات:8/157): قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب:33]: كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية. وبنحوه قال عطاء بن أبي رباح كما تقدم، وقد ضرب عمر بن الخطاب من إختلط بالنساء من الرجال كما يأتي.
وفي القرن الثالث: إمام الحنفيه أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (229-421 هـ) في (شرح معاني الآثار:1/485) روى عن مغيرة عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون السير أمام الجنازة. قال: فهذا إبراهيم يقول هذا، وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله، فقد كانوا يكرهون هذا، ثم يفعلونه للعذر، لأن ذلك هو أفضل من مخالطة النساء إذا قربن من الجنازة" انتهى.
وفي القرن الرابع والخامس: قال أبو الحسن الماوردي الشافعي (364 - 450 هـ) في (الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني:2/51): "والمرأة منهية عن الإختلاط بالرجال مأمورة بلزوم المنزل".
وقال في (أدب الدين والدنيا: ص268) عند تعريفه للديوث: "هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم".
وقال الحافظ البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (ت: 458هـ) في (شعب الإيمان:13/260): "فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم". وبنحوهم قرر عصريهم السرخسي الحنفي (ت:490) في (المبسوط:4/197) .
وفي القرن الخامس والسادس: قال الفقيه المالكي أبو بكر محمد بن الوليد القرشى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى (451 - 520 هـ) كما في (المدخل لابن الحاج:2/297) عند كلامه على إجتماع الرجال بالنساء عند ختم القرآن: "يلزمه إنكاره لما يجري فيه من إختلاط الرجال والنساء".
وفي القرن السابع : قال ناصح الدين المعروف بابن الحنبلي فقيه الحنابلة في زمانه (ت: 634هـ) كما في (ذيل طبقات الحنابلة:4/195) : "وأما إجتماع الرجال بالنساء في مجلس محرم ".
وقال الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف عُمدة الشافعية (631-679هـ) في (المنهاج شرح صحيح مسلم:2/183) : "وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك". وبنحوه قرر عصريه الفقيه الأصولي ابن دقيق العيد (ت:702هـ) كما في (الفتح:2/620) .
وفي القرن الثامن: قال قاضي مصر وفقيهها عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم ابن جماعة (694 - 767 ) في (هداية السالك): "ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة".
وفي القرن التاسع: قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (773هـ-852) في (فتح الباري:2/336) : "فيه إجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت".
وفي القرن العاشر: قال شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي الشافعي (ت1004) في (نهاية المحتاج شرح منهاج النووي:8/272) في ذكر سياق ألفاظ القذف: "قوله: يا لإمرأة (قوله صريح كما أفتى به) أي ابن عبد السلام، فلو ادعى أنها تفعل فعل القِحاب من كشف الوجه ونحو الإختلاط بالرجال هل يُقبل أو لا؟ فيه نظر. والأقرب القبول لوقوع مثل ذلك كثيرًا". وهذا ما قرره عصريه الإمام الحطاب الرعيني المالكي (ت: 954) في (مواهب الجليل شرح مختصر خليل:4/154) وأبو السعود ت: 982هـ في (تفسيره:5/40) .
وفي القرن الحادي عشر: قال مفتي الحنفية في زمانه أحمد بن محمد، أبو العباس الحسيني الحموي (ت 1098 هـ) في كتابه (غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر لابن نجم:2/114) في حكم العرس المختلط: "وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها إختلاط النساء بالرجال".
وفي زمنه قال الفقيه شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (1044 - 1126 هـ) في كتابه (الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني:2/322) عند كلامه على وجوب حضور الوليمة عند الدعوة إليها إلا عند المنكر قال: "قوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كإختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه".
وفي القرن الثاني عشر: قال الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي (1150-1221) في (حاشيته على الشربيني:2/461) : "الإختلاط بهن -النساء- مَظِنَّةُ الفساد". وهذا ما قرره في ذات القرن الإمام الشافعي سليمان بن عمر الجمل (ت: 1204هـ) في (حاشيته على شرح منهج الطلاب:7/197).
وفي القرن الثالث عشر: قال فقيه الشافعية في زمانه عبدالحميد الشرواني (ت:1230-1302) في (حاشية تحفة المحتاج:8/205) في سياق ذكر ألفاظ القذف الصريح منها وغير الصريح قال: "أي -القذف بـ- يا صريح أي لامرأة ولو ادعى إرادة أنها تفعل فعل القحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال فالاقرب قبوله لوقوع مثل ذلك كثيرا عليه فهو صريح يقبل الصرف" انتهى بحروفه.
وقال ابن عابدين محمد أمين بن عمر الدمشقي فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره (1198 - 1252) في (رد المحتار على الدر المختار:6/355) مبينًا حرمة الإختلاط عند المناسبات: "لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء". وقال مفتي القطر الحضرمي في زمانه العلامة عبدالرحمن بن محمد باعلوي الشافعي (1250-1320) في كتابه (بغية المسترشدين:ص537): "ويقطع مادة ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي إلى إضرار، ويعزم على الرجال بترك الإختلاط بهنّ".
وقال العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت: 1250هـ) في (تفسيره فتح القدير:5/203) : "لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين".
وانظر (حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني:2/461) (ت:1221)، وحاشية الشرواني (ت: 1302) على تحفة المحتاج (3/173) والآلوسي (ت: 1270هـ) في (تفسيره:9/328).
وفي القرن الرابع عشر: قال محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ) في (تفسيره المنار) "إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال". وبنحوه قال عصريه محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332 هـ) في (تفسيره) عند ذات الآية.
وما تُرك من النقول أكثر مما ذكر، والنصوص التي فيها النهي صراحة بغير لفظ الإختلاط لا تُحصى عدًا كالأمر بمجانبة النساء ومباعدتهن، والضرب والتأديب على ذلك، كما روى عبدالرزاق في (مصنفه) عن أبي سلامة قال: "انتهيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يضرب رجالاً ونساءً في الحَرَم، على حوضٍ يتوضئون منه، حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان. قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضًا للرجال وحياضًا للنساء؟!".
وإن النفس لتعجب ممن يعلم إطباق السلف والخلف ثم يحيف في حق الحق، "مصطلح الإختلاط لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية" و "بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم" فعن أي مدونات علماء يتحدث الدكتور العيسى، أمدونات علماء الإسلام؟! أم علماء الغرب؟! ثم ألا يعلم الدكتور -وفقه الله- أنه يخوض في مسألة "متقررة" عند سائر المذاهب على اختلاف مشاربهم، وأصلها من قطعيات الشريعة، وإنما يختلف العُلماء في بعض لوازم ذلك المنكر، كإسقاط حد القذف على من قذف إمرأة تختلط بالرجال، وكقبول شهادة الرجل الذي يختلط بالنساء، فنص على عدم القبول أئمة وخلق كالقرافي في (الفروق:4/156) وابن فرحون في (منهج الأحكام:1/361) وغيرهما.
وكل ما بناه الدكتور العيسى من تقريرات في "مقاله" هي فرع عن ذلك القطع بغير تقدير، فمن ذلك ذكره لحديثٍ مُجملٍ قال: "وفي هذا السياق ما ثبت في [الصحيحين] عن أم الفضل بنت الحارث -رضي الله عنها- «إن أناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب»، وذكر شراح الحديث بأن هذا أصل في المناظرة في العلم بين الرجال والنساء".
المناظرة في العلم والتعليم، لا ينكر وجودها أحد، وهذا تعميم أورد فهمًا خاطئًا، ولو تحقق له صفته علم أنه أُتي من تلقينٍ، وإدامة نظر في مقالات صحفية، لا تُري القاريء إلا ما ترى، تُسوِّدها أقلام ذاهلة، أحبوا شيئًا فطوَّعوا له النصوص، المناظرة في العلم بين الرجال والنساء التي يستنبطها العلماء الحذاق من النصوص، هي على حالٍ وصفها مسروق بن الأجدع كما في الصحيحين قال: سمعت عائشة وهى من وراء الحجاب.
وكما ذكره البخاري في (تاريخه) ترجمة عبد الله أبي الصهباء الباهلي قال: "رأيت سِتْر عائشة رضي الله عنها في المسجد الجامع، تُكَلِّم الناس من وراء السِّتر، وتُسأل من ورائه".
وكما جاء في (المسند) عن عبد الله أبي عبد الرحمن قال: "سمعت أبي يقول: جاء قوم من أصحاب الحديث فاستأذنوا على أبي الأشهب، فأذن لهم فقالوا: حَدِّثنا. قال: سلوا. فقالو : ما معنا شيء نسألك عنه، فقالت ابنته -من وراء السِّـتْر-: سَلُوه عن حديث عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكُلاب".
وأما إحتجاجه في الأسواق والبيع والشراء، فهي طرقات لا مواضع جلوس وقرار وحديث، ومع هذا فهذه الإستثناءات لم يرتضها الصحابة تمام الرضا وإنما خففوا فيها بلا مبالغة، فقد روى أحمد عن على رضي الله عنه قال: "بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في السوق، أما تغارون، ألا إنه لا خير فيمن لا يغار".
وأما خروج النساء في الجهاد، فالمقطوع به الذي لا يشك به عاقل أن هذا من باب الضرورات الصرفة، وانشغال الرجال بضرب الأعناق ومتابعة العدو وترقبه، ثم هن مع ذلك متأخرات بعد الرجال معهن محارمهن ولا يتصور عاقل خروج نساء الصحابة إلا وأزواجهم معهم يبتن حيث يبيتون ويرتحلن حيث يرتحلون، وأي ضير في ذلك، ثم كيف يقاس هذا على إختلاط المرأة بالرجال في ميادين العمل والدراسة؟! كيف وقد أمر الله أهل العلم بالعدل والإنصاف: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] .
وإني أذكر الدكتور -وفقه الله- بتقوى الله، ويوم العرض عليه، وأذكره بأعظم ما يُفسد على العبد دينه كما في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» [صححه الألباني: صحيح الترمذي]، وأذكره بأن الأمر ديِن، ودَين سيتم القضاء فيه بين يدي الخالق وحده، والواجب فيه الوفاء بالحق بلا جمجمةٍ أو دِهان، أو السكوت فإن السكوت "لا يُكتب"، {وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62].
والله يتولانا وإياه، بمنه وكرمه.
المصدر: شبكة نور الإسلام