خطاكم يا أهيل الجامعات!

عمر بن عبد الله المقبل

أليس من الغَبن أن يفوّت طالبُ الجامعة، والأستاذُ، والموظفُ؛ فرصةَ مضاعفة أجوره وحسناته وهي لا تُكلّف شيئاً سوى الالتفات إلى هذا القلب وتذكيره بأمر النيّة؟!

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -


في اليوم الذي أذهب فيه إلى الجامعة، وكلما اقتربتُ من موقعها؛ شعرتُ وكأنني في أمواج متلاطمة من السيارات، تُقدّر بالآلاف، وبعضها يُقلُّ أكثرَ من راكب. وفي غضون أقل من ساعة زمن، يدخل أسوارَ الجامعة عشراتُ الآلاف من الطلاب، بعضُهم يأتي من مسافةِ قصْر، وكثيرٌ منهم قريبٌ من مسافة القصْر، هذا في رحلة الذهاب فقط، ويتكرر هذا المشهد ذاته في بقية الجامعات، على تفاوتٍ في العَدد.

يبقى هؤلاء الطلاب قرابة ست ساعات على طاولات الدراسة، يَتلقوّن أنواعاً من العلوم، ومنهم مَن تخصَّص في علوم الشريعة بفروعها المختلفة، وأكثرُهم في علوم أخرى تحتاجها الأمّة.

كنتُ أفكّر في هذه الأعداد الكبيرة من الطلاب، وكم هي الأوقاتُ التي تذهب، والأموال التي تُنفق، والجهود التي تُبذل؟! شيء لا يمكن إحصاؤه ولا عدّه!

في هذا الزحام البشري تبرز نفوسٌ كبيرة، وهممٌ عالية، وقلوبٌ تعلّقت بأسمى المعاني، فهي في أيّ تخصص كان، حيث تربّت هذه النفوس على الاحتساب في خطاها، وممشاها من بيوتها حتى عودتها في الهاجرة، فهم يطلبون علوماً تحتاجها الأمة، ولسانُ حالِ أحدِهم يقول: ما دُمتُ سأذهب فلِم لا أحتسب ذهابي وإيابي، ليَثقل ميزاني، ويَعظم أجري؟ وقدوتهم في ذلك أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فهذا معاذ بن جبل يلتقي برفيقه في المهمة الدعوية التي وكّلهما بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فتحدثا في أمورٍ كثيرة، منها أنهما تذاكرا القيامَ من الليل، فقال معاذ: "أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قَومتي" [1].

وفي صحيح مسلم عن أُبي بن كعب، قال: كان رجلٌ لا أعلم رجلاً أبعدَ من المسجد منه، وكان لا تُخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء؟ قال: ما يَسرّني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جَمَع الله لك ذلك كله» [2].

أليس من الغَبن أن يفوّت طالبُ الجامعة، والأستاذُ، والموظفُ؛ فرصةَ مضاعفة أجوره وحسناته وهي لا تُكلّف شيئاً سوى الالتفات إلى هذا القلب وتذكيره بأمر النيّة؟!

وقد أعجبني صنيعُ ابن الجوزي في (صيد الخاطر)، حيث أبدى وأعاد في هذا المعنى في مواضع من كتابه، ومن ذلك قوله: "ينبغي للإنسان أن يَعرف شرف زمانه، وقدْر وقته، فلا يضيّع منه لحظة في غير قُربة، ويُقدّم الأفضلَ فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيتُه في الخير قائمة من غير فتور بما لا يَعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: "نية المؤمن خير من عمله" [3] [4] انتهى.

وبحسبة يَسيرة بين اثنين، أحدُهما لا يحتسب نيتَه، وآخر يحتسبها؛ فسيظهر الغبنُ في شهر، فضلاً عن سنة أو أربع سنوات!
ومثله في ذلك المدرّس ـجامعياً أو غيرهـ كم يُفوّت على نفسه من الأجور بغفلته عن هذه المعاني! مع أنه لو استحضر نيّة التعليم، ونَفْع الأمّة ورفعتها، وبناء الأجيال بالتعليم القوي؛ لحاز أجوراً مضاعفة، والبدنُ لم يتحمّل عبئاً جديدا، بل المعروف أن احتساب القلب يهوّن تعبَ البدن، والموفَّق من وفّقه الله، وجعل مِن عاداته عباداتٍ وقربات إلى الله، رزقنا الله ذلك بمنّه وكرمه.

---------------------------

[1] البخاري ح(6923) مسلم ح(1733).
[2] مسلم ح(663).
[3] قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص: 250): "قال ابن دحية: لا يصح، وقال البيهقي: إسناده ضعيف. وله شواهد"، وضعفه ابن حجر في الفتح (4/ 219).

[4] صيد الخاطر (ص: 33).