العلماء وحصار غزة
راغب السرجاني
قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لقد كشفت مأساة غزة، وما صاحبها من أحداث، وما تلاها من ردِّ فعلٍ عن
أهمية قيام كل عناصر الأمة بدورها المنوط بها، ولعل من أهم الأدوار
التي ينبغي التأكيد عليها، وإثارة أصحابها ليقوموا بها - دورَ
العلماء.
منزلة العلماء
إن العلماء للأمة كطوق النجاة للغريق ينقذه من الغرق، ويهبه -بإذن الله- حياة جديدة، والعلماء هم من يبصرون الحق إذا عميت البصائر في ظلمات الفتن.
وقد رفع الله سبحانه وتعالى العلماء في مكانة سامقة ترنو إليها أبصار المسلمين وأفئدتهم، فقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم علو منزلة العلماء حتى على
العُبَّاد من الأمة، وبيَّن أيضًا كيف يرحم الله سبحانه وتعالى وتدعو
الملائكة والناس جميعًا حتى الحيوانات والحشرات للعالِم الذي يعلِّم
الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: « ».
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «
الترمذي: كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة (2685)، وقال
الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (4213) في صحيح الجامع.
ولهذه المكانة السامقة التي وضع الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى
الله عليه وسلم فيها العلماء، يلوذ المسلمون دائمًا بهم في
المُلمَّات، ويسترشدون بأقوالهم علَّها تنقذهم؛ لذا علينا أن نتساءل:
ما دور العلماء إذن في مثل محنة غزة؟ وهل قاموا بها فعلاً أم
لا؟
إرشاد الحكام ومواقف تاريخية
إننا نرى أن أول واجب على العلماء القيام به هو تعريف الحكام بما
يجب أن يقوموا به، وما يجب أن يكونوا عليه، وإرشادهم إلى ما فيه صلاح
الأمة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإن
الحاكم مسئول أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن رعيته كلها،
« » كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البخاري (853، 2278)، ومسلم (1829).
وينبغي أن لا يهتم العالم بما قد يصيبه من أذى نتيجة صَدْعِهِ بالحق،
فكل الناس مُبتلًى، وهذا هو ابتلاء العلماء، وإن لم يثبت العلماء
ويقولوا الحق، فمن يصدع به إذن؟!!
ولا يفوتنا التذكير بما حدث للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عندما جأر بالحق في فتنة خلق القرآن، وظلَّ يتحمل التعذيب نتيجة ذلك ما يقرب من سبعة عشر عامًا، حتى نصر الله الحق على يديه بإذنه تعالى.
لقد حفظت الأمة له هذا الجميل، فلقبته بإمام أهل السُّنَّة والجماعة،
ولكن فضل ربك خير وأبقى. وكذلك نتذكر بكل الفخر والإعزاز مواقف سلطان
العلماء العز بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل في دمشق، والصالح
نجم الدين أيوب في مصر.
إرشاد المسلمين وكشف الحقائق
ومن أدوار العلماء المهمة في مثل هذه المحن، إرشاد المسلمين إلى ما يجب عليهم نحو إخوانهم؛ فالأخوة الإسلامية هي من شعائر هذا الدين، ولا يجوز لمسلم أن يترك نصرة أخيه المسلم حين يحتاجه، وكيفية تفعيل هذه الأخوة في هذه المواقف لا بُدَّ أن يدلي فيها العلماء بدلوهم.
كما ينبغي أن يوضح العلماء الحقائق لعموم المسلمين؛ فقد بدأت نبرة أعداء الأمة الإسلامية في الداخل -أي المنافقين- تعلو مُدَّعِيةً أن ما حدث من دخول إخواننا المحاصَرين في غزة إلى مصر مؤامرة مرتَّبة، وأنه انتهاك للسيادة المصرية، إلى آخر هذا الكلام الذي ألقاه أولياؤهم من أعداء الأمة على ألسنتهم.
تحامل إعلامي واضح أن على العلماء دورًا كبيرًا في كشف زيف هذه الأقوال، وغرض أصحابها من وراء إطلاقها. كما أن عليهم دعوة الأمة الإسلامية إلى التضامن الحقيقي بالأفعال لا الأقوال.
وعلى العلماء كذلك أن يشرحوا للناس أبعاد القضية، وجذور المشكلة، ولماذا احتُلَّت فلسطين أصلاً، وكيف تم ذلك، ومَن العدو في قصتها، ومن الصديق، وما المتوقَّع في هذه الأحداث، وما رد الفعل المطلوب.
العلماء قدوة واختلافهم فتنة
ومن الأحرى بالعلماء إذا دعوا المسلمين إلى أمر مناصرة إخوانهم أن يكونوا أول المشاركين فيه، فيجاهدون بأموالهم وألسنتهم، وإلاّ فقد الناس القدوة والنموذج، وألقى شياطين الجن والإنس في قلوبهم أن هؤلاء العلماء يقولون ما لا يفعلون، فثبطوهم عن طاعة الله بالوقوف مع إخوانهم.
اجتماع كلمة علماء الأمةوإذا أراد العلماء أن يكون لصوتهم أثر فعليهم أن يتجمعوا في كيان واحدٍ؛ ليكون صوتهم مؤثرًا، ولن يحدث ذلك إلا إذا تناسوا خلافاتهم، وأقبل بعضهم على بعضٍ بحب.
وعليهم ألا يكرروا ما حدث خلال فترات الضعف في التاريخ الإسلامي من
خلافات أضاعت الأمة، فالتاريخ لا ينسى أنه في عام 317هـ، حينما وقع
خلاف في بغداد بين بعض شيوخ الحنابلة وبين عموم الناس حول تفسير آية
من القرآن الكريم، فتحزَّب كل فريق، واقتتلوا بسبب ذلك، ووقع بينهم
قتلى، بينما كان ذلك يحدث كان القرامطة -وهم فرقة خارجة عن الإسلام-
يقتحمون المسجد الحرام، ويقتلون الحجيج، ويسرقون الحجر الأسود،
ويأخذونه إلى عاصمتهم "هَجَر" في البحرين لمدة عشرين عامًا.
كان الخلاف بين المسلمين سببَ ضعف الأمَّة وتفرُّقها، وقد كان علماء هذا الزمان مشاركين في هذا التفرُّق، فعلى العلماء الآن أن يدركوا خطورة الفُرقة، وأن يسعوا إلى الوحدة والتوافق.
وقد أجرينا على الموقع استبيانًا حول تقييم دور العلماء في أزمة غزة، وهل هو ممتاز، أم جيد أم ضعيف؛ فجاءت نسبة الأصوات لمن يرونه ممتازًا 12.3%، ونسبة من يرونه جيدًا 23.9%، ونسبة من يرونه ضعيفًا 63.9%؛ مما يكشف عن عدم رضا الأمة عن جهود علمائها في هذه المحنة، وعن أدائهم بصفة عامَّة، فعلى علمائنا أن ينشطوا للقيام بأدوارهم التي أوكلها الله سبحانه وتعالى إليهم، وتنتظرها الأمة منهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّق علماءنا إلى ما فيه الخير، وأن
يبارك في جهودهم؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.