(8) المسؤولية

محمد أمين المصري

كل حكم بغير ما أنزل الله، ثلمة تتصل بعقيدة الأمة ونظامها المحكم ورباطها المقدس والمعاني التي تحترمها والقيم التي ترفع من شأنها، وإن أيّة يد تمتد إلى أي فقرة من فقرات هذا النظام أو أيّة مادة من مواده إنما هي يد آثمة مجرمة قد أحدثت خرقاً في قعر السفينة سيؤدي بركابها إلى الهلاك.

  • التصنيفات: تربية النفس - قضايا إسلامية -

1- مفهوم المسؤولية: 
قال الله تباركت أسماؤه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25].

كل حكم بغير ما أنزل الله، ثلمة تتصل بعقيدة الأمة ونظامها المحكم ورباطها المقدس والمعاني التي تحترمها والقيم التي ترفع من شأنها، وإن أيّة يد تمتد إلى أي فقرة من فقرات هذا النظام أو أيّة مادة من مواده إنما هي يد آثمة مجرمة قد أحدثت خرقاً في قعر السفينة سيؤدي بركابها إلى الهلاك.

وإن السكوت على اليد الآثمة هو في نظر الإسلام إثم أكبر من إثمها وإجرام أبشع من إجرامها، إن هنالك نوعين من الجهاد: جهاد فردي غايته الشخص، وجهاد اجتماعي غايته الجماعة دعوتها إلى الحق وحملها على الاستمرار في السير عليه، وإن دعوة الإصلاح الفردية مع ترك المجتمع بشروره هي دعوة كاذبة خاطئة.

قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].

ذكرت الآية البينات وهي الحجج الواضحة والبراهين القاطعة وذكرت الكتاب المنزل من عند الله التام في الحكم والأحكام، وذكرت الميزان وهو العدل والحق، الذي تدركه الأذواق السليمة وتشهد به العقول المستقيمة، فإن تمرد متمرد أو بغي باغ ليطغى في الأرض أو يظهر فيها الفساد كان الحديد الذي يقومه.

عقيدة التوحيد تحمل كل فرد تبعة حماية العقيدة، والحاكم الحقيقي في الإسلام هو الله وحده جل شانه وموقف الذين يقومون بتنفيذ القانون الإلهي في الأرض، وهم أولو الأمر ليس إلا موقف النائب عن الحاكم وهؤلاء خلفاء الله في أرضه، وكل من قام بالحكم في الأرض تحت ظل الدستور الإسلامي فهو خليفة الله [1] جل شانه والله جل شانه هو الحاكم لا حاكم سواه.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور:55].

والآية الكريمة تجعل خلافة المؤمنين هذه في الأرض خلافة عامة تشمل المؤمنين جميعاً، فالوعد للذين آمنوا جميعاً لكل من صدق عليه وصف الإنسان، والاستخلاف في الأرض لهم جميعاً وفي هذا المعنى إشارة واضحة إلى أمرين اثنين:
أولهما: إن هذه الخلافة لا يستبد بها فرد من المؤمنين، بل هي مشتركة بينهم جميعاً، فكل مؤمن خليفة من عند الله وكل واحد مسؤول أمام ربه عن هذه الخلافة، كما جاء في الحديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» الحديث رواه البخاري، فليس أحد منهم في هذا الشأن وفي جميع الشؤون الاجتماعية بأحط منزلة من الآخرين.
وفي الحديث «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ).

ومعنى تتكافأ دماؤهم: أي تتساوى في القصاص والديات ولا يفضل شريف على وضيع.

وهم يد على من سواهم: يد واحدة في التعاون والتعاضد على الأعداء.

ويسعى بذمتهم أدناهم: أي أقلهم عدداً وهو الواحد، وأقلهم رتبة وهو العبد، إذا عقد الذمة للكافر فعقده نافذ على المسلمين جميعاً.

ويرد على أقصاهم: أي يرد الأقرب منهم الغنيمة على الأبعد.

الثاني: أن المسلمين في هذه الخلافة جماعة واحدة ويد واحدة وجسم واحد، وليس معنى انتقاء واحد من المسلمين ليقوم بشؤون المسلمين أن الآخرين أصبحوا في حل من الاهتمام بشؤون الأمة وضاعت مسؤوليتهم، بل الجميع مسئولون على سبيل التعاون والتآزر والتضامن والتكافل.

إن تربية الإسلام هي تربية روح المسؤولية، وللقيادة مكانتها وحبها واحترامها، ولكن الإسلام أوجد الانسجام الكامل بين طاعة القيادة واحترامها وامتثال أمرها ما دامت تمثل الفكرة الإسلامية تمثيلاً صحيحاً، وبين تنمية روح النقد وتحمل التبعات.

كانت تربية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية الطاعة التامة للقيادة ولكنها في الوقت نفسه تربية على القول بالحق والجهر به أينما كانوا لا يخشون في الحق لومة لائم.


[1] يقول ابن تيمية: "والله لا يجوز له خليفة؛ ولهذا لما قالوا لأبي بكر: "يا خليفة الله" قال: "لست بخليفة الله؛ ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك". بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا» وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه" مجموع الفتاوى

المصدر: كتاب سبيل الدعوة الإسلامية بتصرف محمد المصري