أشواق المرأة المسلمة
حميد بن خيبش
إن غاية ما تطمح إليه المرأة المسلمة هو تلبية أشواقها للحرية التي ترفع عنها قيود الحجر الذكوري دون أن تجنح بها بعيدا عن النسق القيمي والأخلاقي.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
هل قُدر للمرأة المسلمة أن تقضي حياتها متأرجحة بين سجان باسم الدين؛ ونخاس باسم الحرية؟ أم آن الأوان لفض هذا الاشتباك؛ وتحريرها من سوء الفهم وخبث التوظيف لكلا التصورين؟
إن ما نتابعه اليوم من سجال إعلامي ومعارك حقوقية وسياسية لإنصاف المرأة؛ والحد من صولة الخطاب "الذكوري" وهيمنته على كل مناحي الحياة؛ يوشك أن يُقنعنا بأن المرأة باتت قاب قوسين أو أدنى من النصر؛ وردم آخر معاقل التخلف والجمود الفكري.
بيد أن ما ينضح به الواقع اليومي من مشاهد الاحتفاء الزائد بالجسد؛ ومخلفات الغارة الجنسية التي يدعمها خطاب العولمة بشكل غير مسبوق؛ يدفعنا للارتياب في صدق الانحياز لمطالبها؛ وتضميد جراح التاريخ.
اتسم الموقف من المرأة عبر التاريخ بطغيان العادات والتقاليد على المباديء الدينية السمحة التي سعت لتحريرها وإنصافها. بل إن النزعة الذكورية المفرطة في اعتدادها بنفسها بالغت في إكساب هذه العادات صفة القداسة؛ وتلمس أسانيد واهية لطمس معالم التكريم الإلهي للمرأة ووضعها على قدم المساواة مع الرجل في تحقيق معاني العبودية.
ففي التراثين اليهودي والمسيحي؛ حرص الأحبار وآباء الكنيسة على الانحياز لمقولات أرسطو وأفلاطون المغالية في عدائها للمرأة؛ لحجب وصايا موسى وتعاليم المسيح عليهما السلام!
فالقديس بولس الذي يعتبره النصارى "رسول الأمم" يؤمن بأن الوضع المتدني للمرأة ينسجم تماما مع النظام العام للكون على اعتبار أنها أًصل الخطيئة؛ ومصدر الغواية التي انحرفت بآدم وأخرجته من الجنة (1).
أما القديس توما الأكويني الذي يُعد أكثر الفلاسفة تأثيرا في الفكر المسيحي حتى أنه لٌقب ب "المعلم الملائكي" فلا يُخفي قناعته بدونية المرأة؛ وضرورة وضعها خارج النشاط العقلي للإنسان مادام التبرير الوحيد لخلقها هو الحاجة لاستمرار النوع البشري "إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها الجسمية والعقلية معا. والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها؛ كما أن الله مبدأ كل شيء ومنتهاه. وقد فُرض الخضوع على المرأة عملا بقانون الطبيعة؛ أما العبد فليس كذلك. ويجب على الأبناء أن يُحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم" (2).
ومع سطوع شمس الإسلام؛ تهيأ للمرأة مجددا عصر ذهبي استعادت خلاله زمام أمورها؛ واحتفت بإنسانيتها التي صانها الوحي الإلهي والتوجيه النبوي؛ من خلال إطار تشريعي يؤكد على المساواة في القيمة الإنسانية والحقوق الاجتماعية وتحمل المسؤولية.
لكن ما لبثت النزعة الأبوية أن استعادت سطوتها لتحل التقاليد مرة أخرى محل الموقف الديني السمح. وقد لاحت أولى البوادر في مجالس الصحابة والتابعين؛ حيث روى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « »؛ فقال له بلال ابنه: والله لنمنعهن؛ فأقبل عليه عبد الله بن عمر فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه بمثله قط! قال: أخبرك عن رسول الله وتقول: والله لنمنعهن!!
غير أن الصورة لم تبلغ حد القتامة إلا في عصور الاضمحلال السياسي والاجتماعي التي تلت سقوط بغداد عام 1258م. وكان على المرأة أن تخضع قرونا طويلة للاستعباد بفعل التدين الفاسد المخالف للفطرة؛ وبقايا الجاهلية الكريهة.
ولم تتمكن من استعادة كيانها وحضورها الفاعل في المشهدين الاجتماعي والثقافي إلا مع عصر النهضة؛ حين انبرى ثلة من العلماء والمفكرين لردم التصورات الدونية تجاهها؛ وعرض البراهين الدينية والعقلية التي تدعم مشروعية حقوقها.
إن ما صبونا إليه من خلال هذه العجالة التاريخية هو التأكيد على أن المواجهة في الحقيقة انتصبت بين الدين كإطار مرجعي يُلبي أشواق المرأة للحرية والكرامة والنهوض؛ إلى جانب الرجل؛ بمهمة الإعمار والاستخلاف؛ وبين الاستعلاء الذكوري الذي حرص على إبقائها حبيسة إطار بيولوجي يبدأ بالبلوغ وينتهي بسن اليأس!
وبالتالي فإن رفع سقف المطالب بما يُتيح لها استرداد كافة حقوقها هو أمر مشروع؛ ولا غبار عليه؛ لكن ما يطرح أكثر من علامة استفهام هو هذا السعي المحموم لتدمير المرجعيات ومنظومة القيم؛ وشنق الفضيلة بحبال الأنانية والصلف والمادية الموغلة في تطرفها. فحركة الحقوق الجديدة التي اصطُلح على تسميتها ب: النسوية أو "الأنثوية" تبدو اليوم كفرس حرون في إصرارها على تجاوز المفاهيم الإنسانية المشتركة لتحقيق التمركز التام حول الأنثى.
تصف الدكتورة هبة رؤوف عزت خطورة هذا المسلك التحرري بالتأكيد على أنه "بدأت عملية تفكيك لمقولة المرأة كما تم تعريفها عبر التاريخ الإنساني وفي إطار المرجعية الإنسانية؛ لتحل محلها مقولة جديدة تماما تسمى (المرأة) أيضا؛ ولكنها مختلفة في جوهرها عن سابقتها. ومن ثم تتحول حركة التمركز حول الأنثى من حركة تدور حول فكرة الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة إلى حركة تدور حول فكرة الهوية والذات والجسد .. فلا حب ولا تراحم ولا إنسانية مشتركة؛ بل صراع شرس لا يختلف إلا من ناحية التفاصيل عن صراع الطبقات عند ماركس؛ أو الصراع بين الأجناس عند دراوين ..وتصل هذه الرؤية قمتها؛ أو هُوتها؛ حين تقرر الأنثى أن تدير ظهرها للآخر "الذكر" تماما؛ فهي مرجعية ذاتها وموضع الحلول ولا تشير إلا إلى ذاتها؛ فهي سوبرمان؛ ولهذا تعلن استقلالها الكامل عنه؛ وحينئذ يصبح السحاق هو التعبير النهائي للتمركز اللاإنساني حول الذات الأنثوية؛ وإلى نهاية التاريخ المتمركزة حول الأنثى"(3).
لا يُمكن لهذه النزعة التحررية الجامحة أن تعين المرأة المسلمة اليوم على استعادة كيانها الإنساني بقدر ما تزج بها في دورة استرقاق جديدة. وفي المقابل تتميز الرؤية الإسلامية بإنصافها للمرأة دون الحاجة إلى افتعال مشاكل في المجتمع. ذلك أن اعتماد التوحد والتكامل أساسا للعلاقة بين الجنسين يحسم منذ البداية أي صراع قد ينشب حول الأدوار والمهام؛ سواء على الصعيد الأسري أو الاجتماعي.
إن غاية ما تطمح إليه المرأة المسلمة هو تلبية أشواقها للحرية التي ترفع عنها قيود الحجر الذكوري دون أن تجنح بها بعيدا عن النسق القيمي والأخلاقي.
وثانيا للكرامة التي تُشعرها بآدميتها؛ وتحملها؛ كما الرجل؛ لمسؤولياتها العقيدية والاجتماعية والحضارية.
وثالثا للعدل الذي يصون حقوقها؛ ويحفظ مكانتها الاجتماعية.
وأخيرا للتقدير الإنساني الذي لا يمكن أن يتحقق بسن القوانين وإحداث المراكز والمؤسسات؛ بل بتربية الفرد مجددا على طرح استعلائه جانبا؛ وتمثل الرابطة الإيمانية التي تقوم على المساواة في القيمة والحقوق والواجبات؛ وعلى الأخوة التي أعلنها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام منذ خمسة عشر قرنا: «
» (رواه أحمد).ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. إمام عبد الفتاح إمام: الفيلسوف المسيحي و المرأة . مكتبة مدبولي 1996. ص 52
(2) المرجع السابق. ص 144
(3) د. هبة رؤوف عزت: المرأة و الدين والأخلاق . سلسلة حوارات لقرن جديد . دار الفكر .دمشق 2000. ص 157