شؤون وشجون (7)
خالد سعد النجار
أحداث تموج بالعالم، نظريات تسقط وأخرى تولد، وهذا يقيم التاريخ وذاك يفلسف الأحداث، تجد الحكمة أحيانا والتهور أحايين أخرى..
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية -
ومن بين هذا الحراك الضخم تبرز تحليلات راقية وأفكار جوهرية آثرت أن أجمعها في عقد فريد، حباته أشبه بمحطات نحتاج أن نقف عندها كثيرا لنستقي منها العبرة ويتولد عندها الهدف .. إنه العالم الغريب الذي أتعب البشر وأتعبوه معهم، فهل من معتبر، وهل من مستفيد.
- ساعة عدل:
سرعان ما خالف المسلمون وصية نبيهم، وأصبح القتل من أهون الأشياء عندهم، فما أسرع أن يقول الظالم الطاغية: (يا غلام اضرب عنفه) أو (ائت بالنطع) ظلما وعدوانا دون قضاء ولا شريعة.
وسرعان ما صودرت الأموال، واعتدي على بيت مال المسلمين، واتخذ الحكام عباد الله خولا ومال الله دولا، ولم يعد بيت المال للأمة كلها كما كان زمن الراشدين، ولم يعد هذا التلاحم بين الرعية والراعي وبين الأمة والدولة، وهذا ما جعل الإمام الطرطوشي يتأسف ويقول: (ومعظم ما أهلك بلاد الأندلس وسلط عليها الروم، أن الروم التي كانت تجاورهم لم يكن لها بيوت أموال، وكانوا يدخلون الكنيسة فيقسمها سلطانهم على رجاله بالطاس، ويأخذ مثل ما يأخذون وقد لا يأخذ منها شيئا، وإنما يصطنعون بها الرجال وكانت سلاطيننا تحتجز الأموال وتضيع الرجال، وكان للروم رجال، وللمسلمين بيوت أموال، فبهذه الخلة قهرونا وظهروا علينا) [سراج الملوك:373]
ألم يقل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: "لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل".
وعندما حاول أقاربه الحديث معه عن الأموال قال لهم: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذابا، واختار له ما عنده، فترك لهم نهرا شربهم سواء، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم عمر فعمل عمل صاحبه، ثم لم يزل النهر يشتق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان، وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان عليه.
إن ساعة عدل تساوي عشرات بل مئات السنين من الظلم، وما تردت الأمة إلا بفشو هذه المظالم بينهم، فأصبحت أمة منكسرة ذليلة. [وقفات تربوية في فقه السيرة؛د. محمد العبدة، دار الصفوة، القاهرة ص231-132].
- مراعاة السنن الإلهية:
يقول ابن القيم – في زاد الميعاد- تعليقا على أن صلح الحديبية كان توطئة للفتح الأكبر: "وهذا شأنه سبحانه أن يُقدِّم بين يدي الأُمور العظيمة مقدِّماتٍ تكونُ كالمدخل إليها، المنبهة عليها، كما قدَّم بين يدي قصة المسيح وخلقه مِن غير أب، قِصة زكريا، وخلقِ الولد له مع كونه كبيراً لا يُولد لمثله، وكما قدَّم بين يدي نسخ القِبْلة قصةَ البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه بِه، وذِكْر بانيه، وتعظِيمهِ، ومدحه، ووطأ قبل ذلك كُلِّه بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقُدرته الشاملة له، وهكذا ما قدَّم بين يدي مبعث رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قصة الفيل، وبِشارات الكُهَّان به، وغير ذلك، وكذلك الرُّؤيا الصالحة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مقدِّمةً بين يدي الوحي في اليقظة، وكذلك الهِجرة كانت مقدِّمةً بين يدي الأمر بالجهاد، ومَن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تَبْهَرُ حِكمتُه الألبابَ".
إن على الدعاة والقائمين بأمر الإسلام في كل عصر مراعاة هذه السنن الإلهية، والتمهيد للأمور العظيمة حتى تأتي على قدر، وإن الذين يظنون أن أمرا كبيرا مثل استئناف حياة إسلامية، ودولة إسلامية تطبق شرع الله، يأتي فجأة دون ممهدات وأعمال كبيرة تتناسب مع ما سيأتي، من يظن هذا فإنه مخطئ قد فاته الصواب، وعندما أراد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الحقوق إلى أهلها، لم يستطع تطبيق ذلك دفعة، بل كان يمهد للأمر، فيقدم للناس شيئا ويأخذ منهم أشياء حتى استقاموا، يقول رحمه الله: "ألا وإني أعالج أمرا لا يعنينني عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره".[وقفات تربوية في فقه السيرة؛ د. محمد العبدة، دار الصفوة، القاهرة ص181-182].
- إجلاء أهل الذمة:
كان من شروط رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر أن للمسلمين الحق في إخراجهم من أرضهم متى شاؤوا، قال ابن القيم تعليقا: ومنها جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغني عنهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « » (رواه البخاري)، وأجلاهم عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب محمد بن جرير الطبري، وهو قول قوي يسوغ العمل به إذا رأى الإمام فيه مصلحة.
وهذا استنباط جيد من ابن القيم رحمه الله، وأظن أن قوله (إذا استغنى عنهم) يقصد به: إذا استغنى عن إقامتهم بين ظهراني المسلمين لما يخشى من قيامهم بالتجسس على المسلمين، أو تشويش الصف الإسلامي، أو خفر للعهد، وتوقع الأذى منهم، وإن أحداث التاريخ الإسلامي لتؤكد صحة كلام ابن جرير رحمه الله، وصحة تأييد ابن القيم له.
فقد عاش اليهود والنصارى تحت حكم المسلمين منذ أن تم الفتح الإسلامي لأكثر العالم المتمدن يومها، ولم ينغص أحد معاشهم، ولم يتعرضوا لأذى لا من قبل الشعب ولا من قبل الحكومات، والدليل على هذا استمرارهم في بلاد الشام والعراق ومصر، وغيرها من الأقطار، ولو ضيق عليهم في هذه البلاد لهاجروا إلى بلاد أخرى، ومع ذلك عندما لاحت لهم الفرصة للشماتة بالمسلمين وإهانتهم لم يتركوها.
كما قال المؤرخ ابن كثير واصفا أحداث عام 658هـ، بعد استيلاء التتار على البلاد الإسلامية: ( أرسل هولاكو وهو في حلب جيشا لأخذ دمشق، فأخذوها سريعا واستلم البلد أمير التتار، وكان لعنه الله معظما لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقساوستهم، فعظمهم جدا وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما، ومعهم صليب منصوب وينادون بشعارهم ويذمون دين الإسلام ومعهم أوان فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرا، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد).
وفي بداية الدولة العثمانية وفي أوج قوتها كان في نية السلطان سليم –كم يقال- بأن يجلي النصارى عن بلاد المسلمين بسبب تخوفه من اتصالهم بالدول الأخرى وتشويشهم على الدولة، ولكن مفتي الدولة العثمانية (زنبيلي على أفندي) منعه بكل قوة، وقال له: (إن هؤلاء ذمة، ولا يحق لك إخراجهم) هذا مع سطوة السلطان سليم وجبروته.
يقول الأمير شكيب أرسلان معقبا: (فأما قضية حمل النصارى الذين في المملكة على قبول الإسلام أو الرحيل منها، فهو مروي بالتواتر وفي الكتب أيضا، فيكون قد ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يقدر أن ينفذ جميع ما يريده بهم، ومن العجيب أننا نرى نصارى الدولة العثمانية يفضلون أن تكون الحكومات الإسلامية ملحدة ولو كانت تخرج جميع النصارى من بلادها، وهذا أقصى ما يتصوره العقل من التحامل والتعصب على الإسلام، يكرهونه ولو حفظهم، ويحبون زواله ولو كان في ذلك زوالهم).
وقد حصل للنصارى امتيازات في أواخر عهد الدولة بسبب ضغوط الدول الأوروبية، ومع ذلك لم يشكروا هذه النعمة ولم يراعوا خلق الوفاء، وعندما لاحت لهم فرصة الانتقام منها وإيذائها، لم يقصروا ولم يتوانوا، وكان نصارى لبنان وسورية من أوائل من أثار فكرة القومية العربية لمحاربة العثمانيين، والتحق كثير منهم بمصر وأسسوا صحفا ومجلات لمعارضة الدولة، بل لمعارضة الإسلام، وتركت لهم الحرية في ذلك، فهذا مؤسس الأهرام بشارة تقلا يقسم لأحمد عرابي الذي ثار على الإنجليز –يقسم له- أنه واحد من الوطنيين المخلصين، وأنه يعمل لحرية البلاد، فلما قبض على عرابي، دخل عليه وتوقح عليه أشد التوقح، ثم بصق في وجهه شامتا، قال عرابي: (فرأيت أن الرجل خائن ولا شرف له)
إن أمثال هؤلاء الذين عاشوا هانئين بعقد الذمة قد نقضوا العهد مرات ومرات ويستحقون أن يفتي فيهم أمثال ابن جرير الطبري وابن قيم الجوزية. [وقفات تربوية في فقه السيرة؛د. محمد العبدة، دار الصفوة، القاهرة ص173-176].
_________________
جمع وترتيب: د/ خالد سعد النجار