[57] التذكير بخطورة التكفير
إنّ المقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق الأكبر المخرج من الملة، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
أمّا بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فبها نسعَد في حياتُنا ونفوز في أُخرانا. عباد الله، إنّ دينَ الإسلام دين يُوازِن القضايَا بميزانِه العادل، دونَ غلوٍّ أو إفراط. وهناك مسائلُ في هذا الدّين خطيرٌ أمرُها؛ عظيمٌ شأنها؛ دقيقٌ فهمُها، زلّت فيها فئام من الناس، ومِن أخطر هذه القضايا قضيّةٌ يتعثّر في ساحتِها مَن ليس بمحقِّقٍ فقيهٍ دقيق، قضيّة غلا فيها أقوامٌ وفرّط في فهمِها آخرون. قضيةٌ لا يهتدِي إلى ما هو الصّواب فيها إلاّ من استنار بهديِ الوحيَين ونهَج منهجَ السلف من الصّحابة والتّابعين. ولعظمة هذه القضية وأهميتها أحكمَ علماءُ الإسلام المحقِّقون قواعدَها، وأرسَوا أقسامَها وشُعبَها، وأصّلوا أصولَها وضوابطَها، وبيّنوا شروطَها وموانعَها؛ تلكم هي قضيّة التّكفير والحكمِ به على آحادِ المسلمين أو مجتمعاتِهم.
نَعَم، إنّها قضيّة مهمّة ومسألةٌ عظيمة، لا يجوز لكلّ أحدٍ اقتحامُها ولا التنصُّب لها. ذلكم أنّ التّسارع في التكفِير والوقوعَ فيه أو الخلطَ في أحكامِه والكلامِ عنه بلا ضابطٍ قرآنيّ ولا فهمٍ محمديّ ولا إجماع من أهلِ الحلّ والعقد كلُّ ذلك ينجُم عنه شرور عُظمى وفتنٌ كبرى، فكم مِن فتنٍ وقعَت فيها الأمّة الإسلاميّة بسبَب اعتقادٍ خاطئ في تكفير المسلمين، وعدم الرجوع إلى العلماء المحقّقين؛ وسؤالهم والأخذ عنهم.
إنّ التّسارعَ في التّكفير والوقوعَ فيه بدون القواعد التي قعّدها العلماء المحقِّقون، وبدون النّظر إلى الشّروط وانتفاءِ الموانع المرعيّة في النّصوص، كلّ ذلك خطرٌ عظيم وشرّ مستبين، عانت الأمّة منه منذ عصرِ الصحابة رضوان الله عليهم، عانَت منه محنًا كُبرى. ظهر ذلك جليًّا في تتابع المواقف السيئة في فكر الخوارج الذين يتبنون التكفير بالكبيرة والتسارع في التكفير. ويبنون على ذلك سفك دماء مسلمين، يقول الإمام القرطبيّ رحمه الله: "وبابُ التّكفير بابٌ خطير أقدَم عليه كثير من النّاس فسقَطوا، وتوقّف فيه الفحولُ فسلِموا، ولا نعدِل بالسّلامة شيئًا".
إخوة الإسلام، إنّ من أساليب النّصوص الشرعيّة في منع تكفيرِ المسلم بلا حجّةٍ من القرآن ولا فهمٍ من السنّة ما هو معلوم من دين الإسلامِ بالضرورة مِن وجوب صيانةِ عِرض المسلم واحترامه وتجنُّب القدحِ في دينهِ بأيّ قادحٍ إلاّ بدليل جليٍّ وبرهان نبويٍّ، فكيف إذا كان القدحُ بالتكفير لشبهةٍ عارضةٍ أو فهم غير سويٍّ؟! فذلك حينئذ جنايةٌ عظيمة وجراءةٌ واضحة، والله جلّ وعلا يقول: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَـابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11]، قال جماعة من المفسرين: "هو قول الرّجل لأخيه المسلم: يا فاسق، يا كافر"، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصّحيح: « » [صحيح البخاري: 6044]
معاشرَ المؤمنين، إن شريعة الإسلام تعتمِد على إقامةِ الحجّة وقطعِ المعذِرة لم تكتفِ نصوصُها بتلك التّوجيهات العامّة، بل جاءت الأدلّة الخاصّةُ الصّريحةُ في توجيهاتها تُحَذِّر من التعجُّل في التكفير والتسارع في ذلك بلا تأصيل شرعيٍّ ولا منهج نبويّ، يقول صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري: 6105]. قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة" انتهى.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «صحيح مسلم: 60]. قال ابن حجر رحمه الله: "إنّ المقول له إن كان كافرًا كُفرًا شرعيًّا فقد صدَق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن كذلك رجعَت للقائل معرّةُ ذلك القولِ وإثمُه".
» [ومِن هنا - عبادَ الله - مضى العلماءُ من السّلف والخلف يحذّرون من التعجّل في التكفير والمسارعةِ في الوقوع في حكمٍ بذلك على أحدٍ من المسلمين، فكلامهم في خطرِ ذلك مِن الكثرة بمكان بحيثُ يتعذّر استقصاؤه أو الوقوفُ عند نهايته، بل مِن الخطأ العظيم والإثم المُبين أن يتجاسَر على المسارعة إلى مثل هذه القضايَا الخطيرةِ من لا يبلغ عُشرَ مِعشار عِلمِ هؤلاء الأئمّةِ المتقدّمين.
قال أبو حامدٍ الغزاليّ رحمه الله: "والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وُجد إليه سبيلًا، فإنّ استباحةَ الدماء والأموالِ من المصلّين إلى القبلة المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، كلّ ذلك خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافر في الحياةِ أهونُ من الخطأ في دمٍ لمسلم" انتهى .
وقال ابن ناصر الدّين الدِّمَشقيّ رحمه الله: "فلَعنُ المسلم المعيَّن حرام، وأشدّ منه رميُه بالكفرِ وخروجِه عن الإسلام". ويقول ابن الوزير رحمه الله: "وقد عُوقِبَتِ الخوارجُ أشدَّ العقوبةِ وذُمَّت أقبحَ الذمّ على تكفيرهم لعصاةِ المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصِي الله وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصيه، فلا يأمَن المكفِّرُ أن يقعَ في مثلِ ذنبِهم، وهذا خطرٌ في الدين جليل" انتهى .
عباد الله، إنَّ التّكفير حكمٌ شرعيّ وحقٌّ محضٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تواتَر كلام أهل العلم وتناقله الخلفُ عن السّلف، وإذا ثبَت في الشّرع أمرٌ ما وأنّه مكفِّر، ففرق بين الحكم على الفعل وبين الحكم على الفاعل، ولذا فلا بدّ عند الحكم على الفاعِل المعيَّن بالكفر أن تتمّ شروطُ التّكفير في حقِّه وتنتفي موانعُه، وفقَ نظرٍ دقيق من عالمٍ محقِّق. فالتكفير له شروطٌ وموانع بيّنها أهل العلم، فقد يكون الرّجل لم تبلُغه النصوصُ الموجبةُ لمعرفة الحقّ، وقد تكون عنده ولكنّها لم تثبُت صحتها عنده؛ أو صحت عنده لكنه لم يتمكّن من فهمها، وقد تعرضُ له شبهاتٌ يعذُره الله بها؛ وقد يكون مجتهدًا في طلبِ الحقّ وأخطأ، لذا فأهلُ العلم قد يحكمون على الأمر بأنّه كفر، ولا يحكمون بأنّ كلَّ من وقع منه كافر خارجٌ من الملّة؛ لأنّه قد يكونَ له عذرٌ مقبول.
وفي مثلِ هذا تتكاثر أقوالُ أهل العلم وتتضافر، وكلُّها تنصّ على أنّه ليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغَلِط حتى تُقام عليه الحجّة وتُبيَّن له المحجَّة، فمَن ثبت إسلامُه بيقين لم يُزَل عنه بشكٍّ، بل لا يزول إلاّ بعد إقامةِ الحجّة وإزالة الشّبهة. يقول الإمام الشّوكانيّ رحمه الله: "اعلَم أنّ الحكمَ على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدِم عليه إلاّ ببرهانٍ أوضحَ من الشّمس". وقال الإمام ابنُ أبي العزّ رحمه الله: "واعلَم أنّ بابَ التكفير وعدمَ التكفير بابٌ عَظُمَت الفتنة والمِحنة فيه، وكثُر فيه الافتراق، وتشتّتت فيه الآراء والأهواء" انتهى.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "ومسألة تكفير المعيّن مسألة معروفة إذا قال قولًا يكون القول به كفرًا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعيّن إذا قال ذلك لا يُحكم بكفره؛ حتى تقوم عليه الحجة".
عبادَ الله، إنّ المقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق الأكبر المخرج من الملة، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة.
الخطبة الثانية:
عبادَ الله، آنَ للأمّة الإسلاميّة أن تفقهَ حاضرَها وماضيَها، وآن أن تتبصَّر بيقينِ الواقعِ والتّجربةِ والبرهانِ أنَّ تبنّي الأحزابِ المتعدِّدة والقوميّات المختلِفة والعنصريّات المتفرّقة وأنّ السعيَ وراءَ الشعارات الزائفةِ والرّايات المهلهلَة كلُّ ذلك ما قاد الأمّة إلاّ إلى هاويةٍ سحيقة وهزائمَ منكرة، وما جرّ لها إلاّ خزيًا وعارًا وذلاًّ وهوانًا، فلا هي - والله - بنَت مجدًا ولا حقَّقت عِزًّا ولا أسعَدت أحدًا.
نعَم، آن للأمّة أن تتذكّر بجدٍّ وحزم وصِدقٍ أنّ عدولَها عن كتاب ربِّها وسنّة نبيّها صلى الله عليه وسلم وأنّ الاستعاضةَ عن ذلك بقوانينَ وضعية ودساتير بشريّةٍ كلّ ذلك ما حقَّق لها إلا الشقاءَ ولا أوقعها إلاّ في البلاء.
فلنحرص يا عباد الله على أن ننطلق في فهمنا وعمَلنا مِن منطلقاتِ قرآننا وسنّة نبيّنا وفق منهج سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولنحرِص جميعًا على اتّفاق الكلمة ووَحدة الصفّ على شرع الله جلّ وعلا والاقتداءِ بسيّد البشريّة عليه أفضل الصلاة والسلام، فلن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة ويُسعدَها وينجيَها إلاّ ما أصلح وأسعدَ أوَّلها.