[59] آداب المساجد والمشي إليها (2-2)

ولِعظيمِ فضل المساجد وشريفِ مكانتها شُرِع لقاصدها من الآداب والسُنَن والأحكام ما يحسُن التنبيهُ عليه؛ رعايةً لحرمتها وتذكيرًا بحقِّها، وتعظيمًا لشأن الصلاة.

  • التصنيفات: خطب الجمعة -

الخطبة الأولى:

10- عند القدوم والدخول للمسجد ينبغي التزام السكينة والوقار؛ ولو أقيمت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم:   «إذَا أقيمتِ الصَّلاةُ فلا تأتوها تسعَونَ. وأتوها تَمشونَ. وعليكمُ السَّكينةُ فماأدرَكتُم فصلُّوا. وما فاتَكم فأتِمُّوا» [صحيح مسلم: 602]، ومن الخطأ ما يحصل من سرعة البعض وإزعاجه للمصلين عند دخوله وخاصة عند ركوع الإمام، وربما البعض يرفع صوته ويشوش على المصلين.

11- لا تفتتح صفًا جديدًا والصف الذي أمامك لم يكتمل بعد، بل السنة أن تكمّل الصفَّ الذي أمامك أولا، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكةُعند ربِّها؟ فقلنا:يا رسولَ اللهِ وكيف تَصُفُّ الملائكةُ عند ربِّها؟ قال: يتمونالصفوفَ الأُولَ ويتراصون في الصفِّ» [صحيح مسلم: 430].

12- إذا دخلت المسجد فوجدت الصف ممتلئًا فلا تسحب أحدًا منه ليصف معك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث ابن عمر: «مَن وصلَ صفًّا وصلَهُ اللَّهُ، ومَن قطعَ صفًّا قطعَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ» [صحيح النسائي: 818]، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. بل الأولى أن تبحث عن فرجة في الصف؛ وخاصة في طرفي الصف؛ فتدخل فيها، ولا تصل لوحدك في صفٍّ جديد، قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» [مجموع فتاوى ابن باز: 12/226]، فإن لم تجد فرجةً في الصف  فقف وحدك في الصف وصلاتك صحيحة، لأن الله تعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]

13- كما يجب – عباد الله - الحرصُ على تسويةِ الصفوف في الصلاة ، فالسنة تسوية الصف بإلصاق الكتف بالكتف، والقدم بالقدم، مع الرفق في ذلك، قال أنس رضي الله عنه: "وكان أحدنا يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه" رواه البخاري، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال أقيموا صفوفكم ثلاثا والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه» [صحيح أبي داود: 662].

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ (أي خشب الأسهم حيث يعتنى في تنحيفها وبراياتها وإعدادها. إشارة إلى العناية بتسوية الصفوف)، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ (كأنها قضى صلى الله عليه وسلم معهم فترة تدريبية حتى فهموا طريقة تسوية الصفوف وطبقوها تطبيقًا صحيحًا)، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: عِبَادَ اللّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» [صحيح مسلم: 436]. قال الإمام النووي رحمه الله: "والأظهر أن معناه: يوقعُ بينكم العداوةَ والبغضاءَ واختلافَ القلوب؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن" اهـ .

ثم لنعلم أن المسافةَ التي بين المصلي المأموم وبين مَن بجانبه قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدّها، لئلا نفسح للشيطان بيننا،  فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصُّفوفَ وحاذُوا بينَ المناكبِ وسُدُّوا الخللَ ولينوا بأيدي إخوانِكم ولا تذَروا فرُجاتٍ للشَّيطانِ ومَن وصَلَ صفًّا وصَلَه اللَّهُ ومن قطعَ صفًّا قطعَه اللَّهُ» [صحيح أبي داود: 666]، ونتذكر قولَه صلى الله عليه وسلم: «مَن وصلَ صفًّا وصلَهُ اللَّهُ، ومَن قطعَ صفًّا قطعَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ» [صحيح النسائي: 818]، وفي الحديث أيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَن سدَّ فَرجةً رفعَهُ اللَّهُ بِها درجةً وبنَى لَهُ بيتًا في الجنَّةِ» [الترغيب والترهيب: 1/234]. فالواجب على الإمام والمأمومين التعاونُ في إقامة الصفوف.

14- من يصلي على كرسي له حالتان، الحالة الأولى أن يكون طوال صلاته جالسًا على الكرسيِّ فهذا يضع الكرسيَّ بحيث يكونُ محاذيًا برأسه وصدره المصلين حال وقوفهم وجلوسهم. أما الحالة الثانية فمن يقف مع المصلين ولكنه لا يستطيع النـزول إلى الأرض فيجلس على الكرسي حال سجود وجلساته في الصلاة؛ فهذا يضع الكرسيَّ بحيث يحاذي  المصلين حال وقوفه إن أمكن ذلك كأن يكون هناك مسافة بين الصف الذي يصلي فيه وبين الصف الذي يليه فلا يضايق المصلين خلفه، أما إذا كان رجوعُه بالكرسي يضايق المصلين خلفه فلا يفعل ذلك.

15- الأصل الشرعي في جلب الأطفال إلى المسجد إنما يكون إذا تعلم الوضوء والصلاة، وذلك إذا أتم السابعة من عمره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «مُروا أبناءَكُم بالصَّلاةِ لسَبعِ سنينَ ، واضرِبوهم عليهَا لعَشرِ سِنينَ» [مسند أحمد: 11/36]، ولهذا يُقال من لم يبلغ السابعة فلا يُؤتي به للمسجد إلا إذا توضأ وأحسن الصلاة ومن اضطر اضطرار في ظرف طارئ ليكون معه صغير لا يحسن الصلاة فليكن بين يديه، أو يكون معه في طرف الصف، لئلا يصاف المصلين، فيقطع الصف. ولا يتركه في مؤخرة المسجد فيلعب ويؤذي المصلين. وإنك لتعجب من تساهل بعض الناس ممن يأتي بصغير لم يتوضأ ولا يحسن الصلاة فيجعله في الصف؛ فيقطع الصف، ويزداد عجبُك ممن يأتي بهم في صلاة الجمعة وربما أشغله وأشغل المصلين وربما أفسد عليه جمعته لاشتغاله به.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

16- التشويش في المساجد منهي عنه، ومن التشويشِ والإيذاء الذي عمَّ وطمَّ في مساجدِ المسلمين وقطَعَ عليهم خشوعَهم وسكونَهم ما يصدُر من أجهزةِ الجوّال اليومَ من تشويش في المساجد حتى لو نغنة غير موسيقية وحتى لو كانت دعاء، ويزداد الأمر سوءً مع المقاطع الغنائيّة والنغمات الموسيقيّة التي آذت المسلمين أيّما إيذاء، وهذا فيه مع إيذاء المسلمين إيذاءٌ لهم وهم في عبادة فيكون الأمر أسوأ؛ وفيه أيضًا مما يزيد الأمرَ سوءًا عدم الأدب مع الله برفع صوت المعازف التي يبغضها في بيوته.  فعَلى كل مسلم يخشى ربَّه ويخافُ عقوبتَه ويعظم حدوده ومساجده أن يتخلصَ من هذه النغمات المحرمة، ويغلقَ صوت جواله في المسجد.

17- وممّا تُصان عنه المساجد وأماكن الصلاة إنشادُ الضالة والبيعُ والشراءُ والدعايةُ لها، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رَأَيتم من يبيعُ أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَك، وإذا رأيتم من ينشُد ضالّة فقولوا: لا ردَّها الله عَليك» [صحيح الترغيب: 291]. ويُلحق بعضُ أهل العلم بذلك من يسأل الناس الصدقة في داخل المسجد لأنه يسأل مالًا ودنيا؛ وليس محلّ ذلك داخل المساجد، ولأنه يشوش على المصلين الذين اشتغلوا بذكر الله.

18- إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام ساجدًا أو جالسًا فلا تبق واقفا تنتظره حتى يرفع ويقف لتدخل معه في الصلاة، بل ادخل معه على أيّةِ حالةٍ كان عليها، قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا. روى الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ» [سنن الترمذي: 591]، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجدتم الإمام ساجدًا فاسجدوا، أو راكعًا فاركعوا، أو قائمًا فقوموا، ولا تعتدّوا بالسجود إذا لم تدركوا الركعة» [السلسلة الصحيحة: 1188]

وبناء على هذا الحديث يُقال لمن دخل والإمام في نهاية الصلاة فالأولى به أن يلحق به؛ ولا يتأخر ليصليَ مع المتأخرين، فإن الفضيلة الكبرى هي للجماعة الأولى التي حصل الأذان لها.

19- ومن آداب المساجد الحرص على نظافتها وإبعاد الأذى عنها، وعلى هذا يُقال لمن كان لديه منديل متسخ أو قارورة ماء قد شربها ونحو ذلك؛ فليقم بإخراجها من المسجد ويضعها في الأماكن المخصصة، ولا يتركْها في المسجد، ولذلك ينبغي ألا توضع سلات الزبائل داخل المساجد.

20- ومن التنبيهات بشأن آداب المساجد: إسناد مهام القائمين على المسجد إليهم؛ وعدم التدخل فيما هو من مهامهم ومسؤولياتهم التي في أعناقهم، حتى لا يحصل التشويش والاختلاف في المسجد، ومن الأمثلة على ذلك وقت الإقامة؛ ووضعية المكيفات؛ وغيرها. وهذا لا يعني تركَ نصحهم بطريقة مناسبة؛ وإعطائهم المشورة والاقتراحات؛ بل ذلك من معونتهم ومساندتهم.

21- العمارة الحقيقية للمساجد يكون بالحرص على الصلوات والذكر والعبادة فيها، وليس في المبالغة في بنائها وزخرفتها، بل زخرفة المساجد والإسراف في بنائها من علامات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» [صحيح ابن حبان: 1614]. قال الإمام البخاري في صحيحه باب بنيان المسجد وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "كَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ"، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ؛ وَقَالَ: "أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ" وَقَالَ أَنَسٌ: "يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:  "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى". ولذلك -أيها الإخوة- من الخطأ أن يُقال هذه زخارف إسلامية إذ الإسلام لم يدعُ إليها، ويدخل في النهي أيضا كتابة الآيات في جدران المساجد فإنها من المحدثات.

اللهم وفقنا لتعظيم شعائر ديننا، اللهم علمنا ما ينفعنا.