[65] التراحم
إنَّ من أخلاق المسلمين التي أمر بها سيدُ المرسلين عليه الصلاة والتسليم: التراحم، وهو من أبرز ما يميِّز مجتمعات المسلمين.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
عباد الله، إنَّ من أخلاق المسلمين التي أمر بها سيدُ المرسلين عليه الصلاة والتسليم: التراحم، وهو من أبرز ما يميِّز مجتمعات المسلمين. فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» [صحيح مسلم: 2586]. وقد وصف الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بهذا الخُلُقِ فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
أخي المسلم، إنَّ من أجلِّ نِعَمِ الله عليك أن يجعلك من المرحومين عنده سبحانه، قال تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157]. وإن اتصافك بالرحمة سبيل لنيلك رحمة الله، ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «» [مسند أحمد: 10/52]. انظروا الجزاء من جنس العمل. قال صلى الله عليه وسلم: «» [صحيح الترمذي: 1924]. وبالمقابل؛ من لا يَرحم لا يُرحم، لأنَّ الذي خلا قلبه من الرحمة والشفقة شقيٌّ بعيد عن الله تعالى، اسمع إلى نبيك صلى الله عليه وسلم وهو يقول فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: «» [صحيح ابن حبان: 466]، وكيف لا يكون شقيًا وقد حُرم رحمة الله؟ فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» [صحيح البخاري: 7376]. ولهما أيضًا: «» [السلسلة الصحيحة: 483].
إن من يتولى شيئًا من أمر المسلمين ويكون غليظًا قاسيًا؛ لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلًا ، قد دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «» [صحيح مسلم: 1828]. نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة: يقول الله تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وهو صلى الله عليه وسلم رحمة ليس فقط للمسلمين؛ بل للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
نقف أيها الإخوة مع نماذج وصور من رحمته صلى الله عليه وسلم لنتأسى بها:
رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته: في صحيح مسلم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما « » [صحيح مسلم: 202]
رحمته صلى الله عليه وسلم بزوجاته: مواقفه صلى الله عليه وسلم مع زوجاته كثيرة، ويكفي شهادته لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «» [سنن الترمذي: 3895]. وشهادة عائشة رضي الله عنها، حينما سئلت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله (تعني خدمة أهله)، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" رواه البخاري.
رحمته بالأطفال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: « » [صحيح البخاري: 1303].
وعن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ وَيَقُولُ: «» [صحيح البخاري: 1284]، وقال أسامة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذُني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: «» [صحيح البخاري: 6003]
رحمته بالجاهل: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: « » [صحيح البخاري: 221]. وفي رواية أن الأعرابي قال: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا ولا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «» [سنن الترمذي: 147].
رحمته بالنساء: عن أنس رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «» [صحيح مسلم: 470]. ومن صور هذه الرحمة بهنَّ أيضًا:« » [صحيح مسلم: 956].
رحمتُه بالمساكين والمنكسرة قلوبهم: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رضي الله عنه: « » [صحيح مسلم: 1659]
رحمته بالكافر: في مسند أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «» [مسند أحمد: 4/26]. موقف آخر: لما قال ملَك الجبال هل يُطبقُ على الكفار الجبلين الأخشبين – وهو قد عانى منهم كثيرًا - قال صلى الله عليه وسلم: «» [صحيح مسلم: 1795]
اللهم ارزقنا التأسي بنبينا، أقول ما سمعتم وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
فمن نرحم ؟: أولى الناس برحمتنا: الوالدان، قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
يرحم المسلم زوجته، قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
نرحم أولادنا، ففي صحيح مسلم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «»؟! [صحيح مسلم: 2317].
إنَّ بيوتنا لابد أن تسودَها الرحمةُ، ويملؤها الرفقُ، لنهنأَ بها؛ ونسعدَ فيها، والبيت الذي يعلو فيها الصراخ، ويُسمعُ فيه السب والشتم واللعن، وتكثر فيه الخلافات بين الزوجين، ويضرب فيه الأبناء والبنات لأتفه الأسباب، هذا بيتٌ لا يطاق فيه عيشٌ، ولا يطيب به مكث، وقد ارتحلت البركة منه، وما أجملَ حديثَ نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «» [السلسلة الصحيحة: 1219]
نرحم الطفل الصغير، فقد قال صلى اله عليه وسلم: «» [سنن الترمذي: 1921]
نرحم اليتيم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو قسوة قلبه، فقال: «» [صحيح الجامع: 80]
نرحم الفقراء ونمد لهم يد العون، وفي صحيح مسلم لما رحم الصحابة قوم مُضَر وتصدقوا عليهم بعدما رأوا ما بهم من أثر الفاقة تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مُذْهَبة وفرح بذلك.
وإنَّ للبهائم من الرحمة لنصيبًا، فرحمتها جالبة لرحمة الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «» [الصحيح المسند: 1081]
وبالجملة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «» [السلسلة الصحيحة: 925]
اللهم ارحمنا بواسع رحمتك في الدنيا والآخرة، واجعلنا من عبادك الرحماء.