[66] التفكر في خلق الله وأثره
التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرًا وتأملًا في خلق الله وأكثر علمًا بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
أما بعد: فقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلًا يدرك به الأمور، فيميز به بين النافع والضار، والخير والشر، وقد أثنى الله على من يفكر بعقله في عظمة المخلوقات، ليكون هذا التفكير يزيدهم تعظيمًا لله خالق الخلق أجمعين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] .
فالتفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرًا وتأملًا في خلق الله وأكثر علمًا بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وإذا نظر العبد إلى ما خلق الله تعالى في هذا الكون من المخلوقات العظيمة، والآيات الكبيرة، فإن سيرى أن في كل شيء له آية تدل على أنه سبحانه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة.
عباد الله، من آيات الله العظيمة خلق السموات والأرض؛ ومن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام قدرته سبحانه: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق:6]
ومن آياته تعالى: خلق الأرض وما جعل فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا هو سبحانه. فانظر كيف مهَّدها الله وسلك لنا فيها سبلًا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولًا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه فيها، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارًا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذنه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20]، ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما بينهما في ستة أيام، وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82] .
ومن آياته جلّ وعلا: ما بث في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى؛ عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 2449]، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » [صحيح الجتمع: 854]وخلق الله في الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا نستطيع إحصاء يحصى أجناسه فضلًا عن أنواعه وأفراده؛ فانظروا أولًا؛ كم على هذه ظهر هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل مليارات البشر، وكم الذين دفنوا في باطن هذه الأرض، وانظروا كيف أن ألسنة هؤلاء البشر وألوانهم مختلفة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]
ثم انظروا يا عباد الله إلى ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات والنباتات التي لا يحصيها إلا الله ؟! على اليابسة وفي المياه والبحار والمحيطات، وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم؛ ومنها الضار الذي يعرف به الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وإذا نظرنا إلى عالم النبات، وجدنا العجب العجاب في ذلك، وقد أشار الله تعالى إلى شيء من ذلك في محكم كتابه، فقال: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ . وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ . وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 7:10].
وهذه النباتات والحيوانات المنتشرة تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وكلّ هذه الحيوانات والنباتات خُلِق لحكمة بالغة، لأن الله لم يخلق شيئًا من هذا الكون عبثا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وقد تكفل الله برزق هذه المخلوقات ويعلم مستقرها ومستودعها: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6]، فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، فهذا الرب العظيم حقه أن يشكر ولا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى. أقول ما سمعتم.
الخطبة الثانية:
ومن آياته سبحانه: هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحبَ الثقيلةَ المحملةَ بالمياه الكثيرة : {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ . فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48:50]
عباد الله: ثم ليتأمل الإنسان في خلق نفسه، كما قال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. فإذا نظر الإنسان إلى نفسه؛ ومبدئه ومنتهاه؛ وأنه قد خُلِقَ من نطفة من ماء مهين كُوّن منها اللحم والعظام والعروق والأعصاب؛ وأحيطت هذه الأشياء بجلد متين، وجُعِلَ في هذا الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلًا، ما بين كبير وصغير، وثخين ورقيق، وجعل في جسمه أبواب متعددة: بابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للطعام والشراب والنفس، وبابان لخروج الفضلات المؤذية، وقد عجز الطب الحديث بآلاته الدقيقة وأجهزته المتطورة من الإحاطة بدقائق خلق هذا الإنسان، فسبحان الخلاق العظيم، وتبارك الله أحسن الخالقين.
فوا عجبًا كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة *** وتسكينـة أبدا شاهد
وفي كـل شيء لـه آية *** تدل على أنـه واحـد
اللهم اجعلنا من المتفكرين في بديع خلقك، المعظمين لك؛ العابدين الطائعين الخاشعين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.