(2) ضرورة حماية تاريخنا

لم يقتصر الأمر على انتهاب ابن رشد وتزويره، فقد امتد التزوير إلى التاريخ الأندلسي كله، حيث يحاول اليهود أن يثبتوا أنهم كانوا وراء التألق الحضاري والثقافي، بما قدموه للحكام من علماء ومستشارين وخبراء، كابن ميمون، وابن جيبرول وسواهما. وأنهم شركاء في الحكم، والسياسة، والثقافة، فالتاريخ إذن هـو تاريخ يهودي عربي في الوقت نفسه، وقد يكون ذلك مرحلة، ليصير تاريخًا يهوديًّا بالكامل!

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي -

إن عزوفنا عن قراءة تاريخنا بشكل عام، وتاريخ الأندلس بشكل خاص، يعني فيما يعني: الإصرار على الضياع والضلال، وإلغاء ذاكرة الأمة، وإضاعة الاعتبار بالتاريخ لحاضر الأمة ومستقبلها، فنحن لم نُضع الأندلس فقط، وإنما نصر على إضاعة غيرها، لتستمر حالة الضياع لعالمنا، وتستمر الهيمنة الخفية على مقدراتنا ومؤسساتنا.

لذلك نرى أن من أخطر مظاهر السقوط الحضاري، والانكسار العسكري والتخاذل الثقافي، ليس متمثلًا فقط في عجز الأمة عن تمثل تاريخها لبناء حاضرها، واستشراف مستقبلها، وإنما في عجزها أيضًا عن حماية تاريخها من النهب الفكري، والاستلاب الحضاري، وهو ما نعيشه اليوم من عناية الآخرين بتاريخنا وتحليله ودراسته وفق أغراضهم وأهدافهم؛ لأنه يشكل المدخل الصحيح للتعامل معنا والهيمنة علينا، واكتشاف مواطن الضعف والثغرات، التي أوتينا من قبلها ولا نزال.

وقد لا نستغرب أن تفرز إسرائيل الكثير من علمائها ودارسيها، للتخصص بدراسة الحروب الصليبية، في مقدماتها ونتائجها في العالم الإسلامي، لتفيد من تجربتها، وتتجنب عثارها، وتقيم الندوات والمؤتمرات التخصصية، وتستدعي الكثير من المتخصصين في الجامعات ومراكز البحوث لدراسة موقعة حطين، والاحتفال بذكراها، وترسل كثيرًا من مبتعثيها لدراسة التاريخ الإسلامي والتخصص به.. فعلى سبيل المثال: تخصص موشى ليفي -الرئيس الأسبق لأركان جيشها- في التاريخ الإسلامي، وحصوله على دبلوم فيه: حصلت على دبلوم في التاريخ الإسلامي لأعرف كيف أحارب المسلمين، وأقضي عليهم.

وإحياء ذكرى موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي، حيث أطلق يهود على عام 1985م عام (ابن ميمون)، وذلك بمناسبة مرور 850 عامًا على ميلاده، ووظفوا للمناسبة عددًا من المؤتمرات والندوات كاللقاء الفلسفي السادس الذي عقد بمدينة القدس، والمؤتمر السنوي السادس والعشرين للمثقفين اليهود بفرنسا (30/11/1985م). كما وظفوا لها كبريات الصحف العالمية مثل صحيفة "لوموند" الفرنسية، التي أفردت صفحة كاملة بعددها الصادر بتاريخ 27/12/1985م لمقالين أحدهما بعنوان (عام ابن ميمون)، والآخر بعنوان (تأملات حول الدولة اليهودية وتراثها)، وكانت الصفحة نفسها تحت عنوان (تسعة قرون من اليهودية)!

وقد لا نستغرب أيضًا أن تاريخنا الإسلامي في الأندلس، الذي طويناه بقصيدة بكائية: (لكل شيء إذا ما تم نقصان)، استسلمنا فيها للواقع وفلسفناه، ما تزال شاهدة معلقة على قبر الحضارة الإسلامية هـناك، على الرغم من عبره وعطائه الثقافي، الذي كان وراء انبعاث حضارة أوروبا .. وقد لا نستغرب أنه يُهوَّد اليوم، أو تعاد قراءته بأبجدية يهودية، حيث يثب اليهود على التاريخ الأندلسي كاملًا، ويجعلون من أنفسهم شركاء في بناء الحضارة.. وليس هذا فقط، وإنما يحاولون سرقة الحضارة الإسلامية كلها، واعتبارها جزءًا مهمًا من تاريخ اليهود في الشتات، ويخطفون علماءها وأحداثها، ويضيفونها إلى تاريخ الحضارة العبرية.

فابن رشد عندهم من أصول يهودية، ودليلهم في ذلك: أنه بعد غضب الخليفة عليه، لاشتغاله بالفلسفة نفاه إلى قريته الأصلية، والقرية كان فيها أقلية من يهود، فهو إذن يهودي! وانطلاقًا من هـذا، أنشؤوا في الجامعة العبرية بالقدس، مركزًا للدراسات الرشدية، طبعوا فيه كتب ابن رشد بالعربية، وترجموها إلى العبرية والإنجليزية.

ولم يقتصر الأمر على انتهاب ابن رشد وتزويره، فقد امتد التزوير إلى التاريخ الأندلسي كله، حيث يحاول اليهود أن يثبتوا أنهم كانوا وراء التألق الحضاري والثقافي، بما قدموه للحكام من علماء ومستشارين وخبراء، كابن ميمون، وابن جيبرول وسواهما. وأنهم شركاء في الحكم، والسياسة، والثقافة، فالتاريخ إذن هـو تاريخ يهودي عربي في الوقت نفسه، وقد يكون ذلك مرحلة، ليصير تاريخًا يهوديًّا بالكامل! 

المصدر: كتاب الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم جذورها ومسارها، للدكتور على المنتصر الكتاني