(3) أسبنة الحقبة الإسلامية
هناك محاولة اليوم تدعو إلى اعتبار الحقبة الإسلامية في الأندلس جزءًا من التاريخ القومي الأسباني (أسبنة الحقبة الإسلامية)؛ لأن ما عداها من تاريخ تلك البلاد هـو تاريخ فقير في الإنجاز الحضاري والثقافي، وغني بالممارسات الهمجية التعصبية التي يصعب محوها من ذاكرة البشرية والتاريخ العام، فضلًا عن تاريخ أسبانيا.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
إن قضم التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته وفق أبجديات من الخارج الإسلامي، مستمرة في وقت الذهول العربي والإسلامي، ومحاصرة العقل المسلم وتهجيره، واستنزاف طاقاته، بإشغاله بأمنه وطعامه، وتحويل المؤسسات العلمية والبحثية لتكون في خدمة مصالح أفراد.
وعلى أحسن الأحوال، فكثيرًا ما تتحكم بنا ردود أفعال، ونأتي في الزمن الأخير، بعد فوات الأوان، لنجعل من الذكريات التاريخية مواسم للابتزاز السياسي والاحتفال الرسمي، حيث لا نضيف جديدًا لواقعنا المتردي.. ففي الوقت الذي تمر فيه ذكرى خمسة قرون على سقوط غرناطة، وانتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس، وهي ذكرى يتوقف عندها الكثيرون في العالم اليوم، ومنهم بعض الأسبان من الرسميين والمتعصبين، حيث ما يزالون يقيمون الاحتفالات الشعبية، ويزيفون صورة العرب والمسلمين، ويحاولون إضفاء البطولات الأسطورية على عمليات (الإنقاذ) للاسترداد من قبل الكاثوليك.
في الوقت ذاته، نجد الكثير من المؤتمرات الثقافية والفكرية، على مستوى أسبانيا والعالم اليوم، تحاول استرداد الحقبة الإسلامية، التي تمثل التاريخ الحقيقي للأندلس، واعتمادها لتصبح جزءًا من تاريخ أسبانيا بثقافتها وحضارتها وعلمائها، في محاولة للعودة إلى الجذور على المستوى الفكري والثقافي، بما في ذلك محاولات يهود.
بينما نجد الاهتمام العربي والإسلامي يكاد يكون معدومًا على المستوى الجماهيري والأكاديمي على حدٍّ سواء، على الرغم مما تمثله الأندلس في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة العالمية.
ومما لا شك فيه، أنه بعد خمسة قرون من سقوط غرناطة، وانتهاء الوجود الإسلامي الظاهر في الأندلس، وإفراغ الكثير من الحقد الكاثوليكي، بدأت موجات التعصب تتراجع بأقدار متفاوتة، أو تتراجع بأشكالها القديمة، على الرغم من عمليات الشحن التي تمارسها بعض الفئات، وتجددها بمناسبة سقوط غرناطة؛ لأن طبيعة العصر، وما تكشف من حقائق، وما تحقق من انفتاح، واتصال وتواصل، أدى إلى إعادة النظر بالمعادلات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والإنجازات الحضارية، لذلك بدأت بعض الأصوات الخافتة تعلو شيئًا فشيئًا، سواء في ذلك من يحاولون البحث عن الجذور ومحاولة العودة للاتصال بها، أو من يحاولون استرداد الحقبة الإسلامية بعطائها الحضاري والثقافي على مستوى أسبانيا والعالم؛ لأنها تشكل المرحلة المضيئة من التاريخ الأسباني نفسه، وعدم اعتبار الوجود الإسلامي مرحلة طارئة وغريبة.
أو بمعنى آخر: هناك محاولة اليوم تدعو إلى اعتبار الحقبة الإسلامية في الأندلس جزءًا من التاريخ القومي الأسباني (أسبنة الحقبة الإسلامية)؛ لأن ما عداها من تاريخ تلك البلاد هـو تاريخ فقير في الإنجاز الحضاري والثقافي، وغني بالممارسات الهمجية التعصبية التي يصعب محوها من ذاكرة البشرية والتاريخ العام، فضلًا عن تاريخ أسبانيا.
لذلك بدأنا نلاحظ كيف يرد الاعتبار اليوم لأعلام الأندلس المسلمين، من أمثال ابن رشد ، والقرطبي ، وابن حزم ، والشاطبي ، وغيرهم، على أنهم جزء من أعلام التاريخ الأسباني، وذلك يعني فيما يعني: بدء مرحلة التصالح مع الذات، والتوجه صوب الموضوعية، وتصويب ذاكرة الأمة الأسبانية.. كما يعني من وجه آخر: أن الإسلام ليس أمرًا طارئًا على الأندلس، ولا أجنبيًّا، ولا احتلالًا من الخارج، أو موجة عسكرية أمكن حسمها بجند الغالب، وإنما هـو خيار أندلسي، ونبات من تربة الأرض نفسها.. لذلك فالعودة إليه عودة إلى الأصل، إضافة إلى أن تجديد الاعتبار للحقبة الإسلامية في الأندلس، واعتمادها كجزء من التاريخ القومي الأسباني، سوف يبدد عقدة الخوف عند الكثيرين، ويسمح بإماطة وجوده؛ لأن التاريخ الباقي في نهاية المطاف هـو التاريخ الثقافي، وليس التاريخ السياسي البائد، بصراعاته وأشخاصه، ويؤكد مرة أخرى أن قيم وحضارة المغلوب، كانت أقوى من عسكر الغالب على مدى القرون الطويلة التي لم تستطع أن تطويها.