[84] الخوف من سوء الخاتمة
سوء الخاتمة -أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد، وإنما تكون لمن فيه فساد في العقيدة أو إصرار على كبيرة، أو إقدام على عظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية والإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وأراد منه عبادته وطاعته حتى الممات، فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق وثبتهم عليه وأماتهم على ذلك، وأضل الله الذين ظلموا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
أيها المسلمون: إن الخوف من سوء الخاتمة وشر العاقبة كان سلوك السلف الصالح رضي الله عنهم، فقد كان أحدهم يعمل الأعمال الصالحة وهو يخاف الله تعالى من أن يختم له بسوء، وما ذاك منهم إلا تواضعٌ وتعظيمٌ للذنوب الصغيرة والزلات النادرة، فجمعوا بين العمل الصالح والخوف من الله تعالى، بعكس المنافقين ومرضى القلوب الذين يجمعون بين سوء العمل والأمن من مكر الله، عياذًا بالله من ذلك.
وإن القصص والحوادث في سوء الخاتمة كثيرة، والمواقف عصيبة شديدة، نسأل الله الفرج والثبات والرحمة من عنده.
قال ابن القيم رحمه الله: "إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة؛ عقوبة لهم على أعمالهم السيئة". قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: "واعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسبابًا ولها طرقٌ وأبوابٌ؛ أعظمها: الانكبابُ على الدنيا وطلبها، والحرصُ عليها، والإعراضُ عن الأخرى، والإقدامُ والجرأة على معاصي الله عز وجل، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حُجُبَه، فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد ؛ فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد".
ومما ذكره ابن القيم من قصص في سوء الخاتمة؛ قال: "يروي أن بعض رجال الخليفة الناصر نزل به الموت فجعل ابنُه يقول له: قل لا إله إلا الله، فقال: الناصر مولاي!! وكان هذا دأَبُه؛ كلما قيل له: لا إله إلا الله، قال: الناصر مولاي! ثم مات على ذلك".
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا!. ويُحكى أن رجلًا نزل به الموت فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول بالفارسية: ده يازده! ومعناها عشرٌ بإحدى عشر ربًا.
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح؛ فلما أصبح قيل له أَكُلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفًا من الخاتمة!. وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعَه ذنوبُه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
أخي المسلم: اعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد، وإنما تكون لمن فيه فساد في العقيدة أو إصرار على كبيرة، أو إقدام على عظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية والإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله.
هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله، وأما في زماننا فقد تعددت القصص والحوادث المخيفة في سوء الخاتمة، بسبب المعاصي والفجور والكفر بالله رب العالمين.
يذكر أحد المعاصرين يقول: قبل فترة قصيرة كان لي صاحب كنت أنا وهو لا نفارق بعضنا البعض. أحبه ويحبني؛ وكنا دائمًا نردد أغنية من الأغاني؛ دائمًا في كل مجلس؛ حتى بعض الأحيان نرددها في الهاتف. فسافر إلى إحدى البلاد وبعد أيام رجع أصحابه وما رجع! فسألهم عنه فقالوا: لقد مات! فسألهم: كيف مات؟ قالوا: مات في حادث سيارة، وسألهم: وكيف كان حال الوفاة؟ فقالوا: لقنَّاه الشهادة فأبى! فسألهم: ماذا قال حين الموت؟ قالوا: لقد ردد نفس الأغنية التي كان يرددها في حياته!.
قصة أخرى: رجل يعمل في أحد الأسواق حمالًا طويل القامة مفتول العضلات يحمل من الأثقال ما لا يستطيع أن يحمله الرجلان، قيل له: لماذا لا تصلي؟؟ فقال: أنا على هواي أفعل ما أشاء؛ ولا أحد يأمرني وينهاني!! اغتر بقوته وعضلاته، يذهب الناس حين الصلاة بعد إغلاق أماكنهم ومحلاتهم إلى المسجد؛ وهو يجلس في مكانة يأكل ويشرب ويلهو، سبحان الله! ألا يحمد الله على هذه النعم فيقوم يصلي! يمهل ولا يهمل! سار يومًا بين المحلات وهو يحمل حملً ثقيلًا فزلت قدمه على قشرة موز، والنتيجة أنه أصيب بشلل كامل ووضع على الفراش لا يتحرك منه إلا رأسُه، ويُسأل: ما هي الأمنية التي تتمناها الآن؟؟ قال: أتمنى أن أصليَ مع الجماعة.
نسأل الله حسن الختام، ونعوذ به من سوء الخاتمة، ونسأله مغفرة الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وجعل لهم آجالًا لا تزيد ولا تنقص عن موعدٍ وُعدوه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: إن لسوء الخاتمة أسبابًا كثيرة؛ يعود مُجملُها إلى التمادي في المعاصي، والإصرارِ على الذنوب. وأكثر ما يقع سوء الخاتمة لثلاث طوائفَ من الناس: أولها: أهل البدع والزيغ في الدين، لأن إيمانهم مرتبط بما تستحسنه عقولهم؛ ولو لم يثبت في الكتاب والسنة، فأول آية تظهر لهم من قدرة اللّه تعالى أن يطيح عقله الذي اغتر به واعتمد عليه فيذهب إيمانه كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح.
والطبقة الثانية: أهل الكبر والإنكار لآيات اللّه عزّ وجلّ؛ الآمنين من مكر الله؛ فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين.
والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون الطائفتين في سوء الخاتمة، لأن سوء الختم على مقامات أيضًا، منهم المغرور الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظرًا، والفاسق المعلِن، والمصرّ المدمن، تتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر، ويدوم تقلبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى اللّه تعالى بقلوبهم، وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأتى منهم، فلا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، وهم من أهل هذه الآية، {ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ للَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، فهم مقصودون بقوله عزّ وجلّ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]، وهم معنيون بمعنى قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنا قَالُوا آَمَنَّا باللّهِ وَحْدَهُ} [غافر:84]، تظهر لهم شهوات معاصيهم، ويعاد عليهم تذكُّرُها، لخلو قلوبهم من الذكر والخوف حتى يختم لهم بسوء الخاتمة.
عباد الله، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، قال صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري: 6607]. وكان من دعائه الكثير: « » [صحيح الترمذي: 3522].
اللهم إنا نسألك الثبات على ما يرضيك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات وبعد الممات، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.