2- هل ضيعت رزقي بنفسي أم أنه لم يكن مقسوما لي؟

هدى عبد الرحمن النمر

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

في كثير من الأحيان يتراءى لنا أن الله تعالى فتح باب رزق معيّن – وظيفة أو زواج أو كسب مال– ثم يقع منا سوء تصرف أو تعامل معه، وإذا بالرزق “يضيع”، فتبدأ وقتها هواجس الندم وتساؤلات تتراوح بين ذنب التقصير (كيف ضيّعت على نفسي رزقا حسنا؟) وتهدئة الضمير (أليس لو كان رزقي كان جاءني مهما أحسنت أو أسأت؟).

لنترك هذه التساؤلات جانبا، ولنشرح القصة من بدايتها:

  • فيما يتعلق بحسم تقدير الله تعالى وحرية سعي الإنسان

عِلمُ الله تعالى بأفعال كل خلق من خلقه، وما ستكون عاقبته وجزاؤه ومصيره، هو علم سابق لا سائق. بمعنى أن الله يعلم مسبقا علما شاملا محيطا بكل ما سيصدر عن كل مخلوق. ولأن الله اختص نفسه بهذا العلم ولم يطلع عليه العباد، ولأنه علم سابق كاشف وليس سائقا ولا جابرا، فكل واحد يسعى باختياره الحقيقي، لكن سعيه يصدّق ما علم الله من قبل، فالله لا يندهش ولا يفاجأ من “تحول” أحد من حال إلى حال، وإنما هو مطلع بداية على حقيقة الحال.

تماما كما يتوقع أستاذ لطلبته ترتيبتهم ودرجاتهم ثم توافق نتيجتهم توقعاته، فهو لم “يجبرهم” عليها لكنه من علمه بهم توقع ذلك. ولله تعالى المثل الأعلى فهو لا يتوقع لكنه يعلم ما خلق: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

ولعل أوضح مثال على ذلك بين أيدينا هي سورة المسد: هذه السورة نزلت في حياة أبي لهب، تقرر خاتمته ومصيره، وهو بعد على قيد الحياة! كان بإمكان أبي لهب أن ينطق الشهادتين – ولو كاذبا – ليطعن في صدق القرآن وصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يفعل! مع أنه كان حرا ولم يجبره أحد على الاستمرار في الكفر، وظلت الدعوة تدندن حوله، لكنه استمر حتى ختم له بالخاتمة التي قررها الله في القرآن وأبو لهب على قيد الحياة! لاريب إذن أنه تنزيل ممن علمه محيط وشامل وأكيد بأن هذا الشخص لن يؤمن مهما حصل، وستكون هذه خاتمته قطعا، وقد كان. هل يزعم أحد منطقيا بعد ذلك أن أبا لهب كان مجبورا على الخلود في النار؟

وفي ظل هذا العرض يستقيم فهم الأحاديث والآيات التي تتعلق بالشقاء والسعادة، وبحسن الخاتمة أو سوئها، فالله تعالى لا يخفى عليه حال أحد، ولا يظلم مثقال ذرة؟

  • فيما يتعلق بتقسيم الأرزاق

بناء على علم الله تعالى السابق وليس منفصما عنه؛ كان ترتيبه تعالى للأقدار – ابتلاء ونعمة – وتقسيمه للأرزاق – منعا ومنحا، لكل شخص. لذلك تقديره تعالى أحكم تقدير وأعدله، لأنه مبني على علم يقيني بحال كل أحد، ومراعٍ لسياقه الذي أوجده فيه ووسعه الذي يمكنه، ومحقق لطبيعة هذه الدار الدنيا من كونها دار اختبار مستمر لا جزاء خالد.

لابد لتمام الفهم أن ننتبه إلى أن تقسيم الأرزاق يقوم على تلك العوامل معا، وليس على أحدها فقط. بمعنى أنه ليس كل صالح مستحق للخير على الدوام ولا كل طالح محروم منه على الدوام، وإلا لم يعد الامر اختبارا وصارت الدنيا دار الجزاء النهائي والله لم يردها كذلك. وقد بين الله تعالى في كتابه الحكيم سنن تقسيم الأرزاق بما لا يخفى لمن شاء أن يفهم.

  • فيما يتعلق بـ: من هو الرزاق؟

ولابد من التنبه كذلك في هذا السياق إلى حقيقة قدرنا في مقابل قدر من نتعامل معه وقد نعارضه في تقسيمه! إن التصورات التي تشبه علاقتنا بالله تعالى كعلاقة المدير بموظيفه أو الوالد بأولاده غير صحيحة وفاسدة القياس.

بداية لأنه لا وجه للمقارنة أصلا: فوالدينا ومديرونا لا يملكوننا حقيقة، ولم يخلقونا حقيقة، ولسنا لهم تبعا حقيقة، ولا مدينين لهم بحق الخالقيّة وكينونة الوجود (فلولا أمر الله فيهم ما كان لهم علينا حق! فتأمل!). أما الله فيملكنا حقيقة، وأوجدنا حقيقة، ونحن له خلق وتبع حقيقية. فمن حيث النتيجة المنطقية المترتبة على هذه الحقيقة الواقعة: الله تعالى حر التصرف في ملكه وأرضه وعبيده ومخلوقاته، بلا أدنى معارضة أو سؤال له عن تبرير ما يفعل! ولا مجال حتى للتشبيه أو المقارنة بأي مخترع واختراعه أو أي صنعة وصانع، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.

وثانيا لأن مفهوم العبودية الذي له خلقنا الله بأمره على أرضه، مختلف تماما عن التعامل التجاري بين المدير والموظف أو التعامل الوقفي بين الوالد وولده. عملك الصالح ليس استثمارا في بنك الأمنيات عند الله، بحيث كلما أحسنت توقعت أن يرد إليك كعوائد مستحقة. ورحمة الله تعالى لا تعني تدليل العاملين بقدر عملهم، ولا تناقض ما قضى به من ضرورة الابتلاء بالمحنة كما المنحة، والثواب كما العقاب، فالله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولن يبقى أحد محسنا ام مسيئا إلا يوفّى جزاء ما عمل غير منقوص، لكن ليس محل هذا في هذه الدار.

  • فيما يتعلق بعواقب أفعال المرء من تقصير أو إحسان

من سنن الله تعالى فيما قسم من أرزاق وقضى من أقدار، أن يكون عمل العامل وما في قلبه تجاه الله تعالى من عوامل التوزيع – أحد العوامل وليس الوحيد. بالتالي من الوارد تماما أن يكون الرزق والابتلاء جزاء، فيضيّع المرء على نفسه رزقا بذنب، أو يفوز بفضل من الله لطاعة.

ومن الوارد كذلك أن يكون المنح أو المنع اختبارا من عند الله، فيمنح الطالح ويمنع الصالح في الظاهر، لكن في الحقيقة المنحة محنة في حق من لا يشكر ويظن أنه أوتيها لفضل عنده، والمنع منح في حق الصالح الذي يصبر ويشكر ويقف بأدب عند عتبة العبودية كما سبق شرحها: إنما أنا عبدك تفعل بي ما شئت، والفضل فضلك تقسمه كيف شئت، ولك الحمد على كل حال.
كيف تعرف من، ومتى يكون أيهما.. هذه بالضبط التساؤلات التي ليس يفيد عليها جواب لأن الله اختص بالجواب.

  • فيما يتعلق بنوع التساؤلات الصائبة في هذا السياق

أن تنشغل بالكيف وليس اللماذا: كيف أتعامل مع رزق الله؟ وليس: لماذا منحني أو منعني الله؟ وهذا ليس له إلا جوابان:

1 - إن كان عطاء: فاشكر ولا تغترّ

اشكر الله تعالى واحمده بالذكر والعمل؛ ولا تغتر بالمنحة عن حقيقة حالك إن كنت تعلم من نفسك تقصيرا، وتخلط بين معاملة الله لك بما هو أهله وبما أنت أهله، فالله يحلم على المسيء، ولا يمنع عطاياه عن المخطئ عساه يرجع. وتنبه إلى أننا نَقصُر المنح والمنع على صور الرزق المادي المؤقت، فتظن بما حولك من نعم المادة أنك لست في نقصان، ولا تشعر أنك قد تكون محروما أكبر الحرمان في الرزق الباقي: كالجفوة بينك وبين القرآن أو كسلك في عمل الصالحات مع قدرتك عليها.

2 - وإن كان منعا: فاصبر وتفكّر

اصبر صبر جميلا بأدب العبودية، ليس فيه تذمر من الله ولا شكوى ولا سخط، وأيقن يقينا راسخا في الله بما هو أهله، فالله لا يعجزه شيء ولا تعظم عليه أمنية، ولا يمنع بخلا ولا ظلما ولا تعذيبا؛ فإذن حكمته سبحانه في التقسيم لازمة وأكيدة وإن خفيت عنك، لأن الأصل أنك تؤمن بالغيب، والأصل أنك في امتحان لم يوفى الجزاء بعد.

ثم تفكر بجدية في الرسائل الربانية الكامنة وراء فوات الرزق، فلعل في فواته خير لك أكثر من إتيانه، بما يزيل الغشاوة عن عينك وينبهك لتقصير وتدارك وتوبة، أو يزيدك فهما وبصيرة وتحررا من هواجس ما فاتك وما يأتيك.

ختاما، اشتغل بما خلقك الله له من عبادته عما ضمنه لك من رزقك، ما أنت آتيه أو فائته فأنت حامل مسؤوليته، أما الرزق فما هو آتيك فهو آتيك وما هو فائتك  فهو فائتك. وإذا كان ضمان العلم باستحقاقك لمنح أو منع غيبا عنك، فأنت على حالك مع الله شهيد.