الجواهر الحِسان من كلام موسى مع رب الأنام
- التصنيفات: قصص الأنبياء -
الحمد لله الذى كلَّم موسى تكليمًا؛ وأهلك فرعون في البحر إهلاكَا أليمًا، وتبارك الذي سبحته الملائكة وعظمته تعظيمًا، وصل اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..
ثم أما بعد..
لا أدرى من أين أبدأ؟ فالحديث ذو شجون، كيف لا والمتكلم هو الله رب العالمين.. في ليلة ظلماء شاتية خرج موسى عليه السلام من مدين متجهًا إلى مصر، بعد أن قضى الأجل بينه وبين الرجل الصالح، وبينما هو يسير في الصحراء القاحلة ومعه زوجه والظلام والبرد يلفان الوادي، إذ أبصر موسى عليه السلام من جانب الطور نارًا، فقال لأهله امكثوا.
وهنا وقفة.. لم يصطحب موسى عليه السلام زوجه معه لأن النار من الوارد أن يكون هناك جمع من الناس مجتمعين عليها، لذلك هنا فائدة وهي عدم اختلاط الرجال بالنساء.
ثم قال إنى آنست نارًا، وهنا آنست من الأنس، وهنا فائدة جليلة وخفية وهي أنه كلما اقتربت من الله تشعر بالأنس وراحة الصدر، فموسى عليه السلام شعر بالأنس لأنه كان على مقربة من الكلام مع رب العالمين، وأن عند النار سيكلمه الله كفاحًا بدون حجاب.
{لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29]؛ وهنا فائدتان عرف بهما العلماء أن هذه الليلة مظلمة وباردة. "قبس" تعني شيء تستضيئون به، ولما قال {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} يعنى تستدفئون من البرد.
وهنا تتوقف الألسنة وتخشع القلوب وتشرئب النفوس وتنصت الأسماع، فالكلمة القادمة ليست لملك ولا نبي ولا رسول، إنما الكلمة لله الواحد القهار: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وجه الله جل جلاله وتقدس في عليائه النداء لموسى عليه السلام آمرًا إياه أن يوحده وحده لا شريك له، وأن يتوجه إليه بالعبادة، وهنا لابد من وقفه مع أصل الأصول ألا وهو توحيد الله، فالله واحد في ذاته وصفاته وأسمائه وصفاته، وما أُنزلت الكتب ولا أُرسلت الرسل ولا قامت الحروب وسُلت السيوف بين أهل الحق وأهل الباطل، إلا من أجل لا إله إلا الله.
إنها الكلمة التي لو وُضعت في كفة والسموات السبع والأرضين السبع في كفة لرجحت بهن، {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهي أساس الملة التي إن سقطتْ سقط بعدها كل شيء، والذي يكفر بها فهو خالد مخلد في النار، ولو أتى بحسنات أمثال الجبال.
وهي الكلمة التى منْ قالها ثم مات دخل الجنة، فاللهم ثبتنا عليها حتى نلقاك، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا.
المحطة الثانية بعد التوحيد: ثم أمر الله موسى عليه السلام بعد أن يوحده أن يتوجه إليه بالعبادة بجميع صورها من صلاة وصيام وذكر ودعاء وتوكل واستغاثة ورجاء وخوف، فالواجب على المسلم ألا يصرف شيئًا من العبادات إلا لله وحده، حتى يُسلم له دينه وتصح عقيدته.
بيان إلهى بحتمية قيام الساعة لمجازاة العباد على أعمالهم: ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام أن الساعة آتية لا محالة، وكائنة لابد منها، وهي من علم الغيب الذي تفرد الله بعلمه، فلا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، يعلم متى تقوم الساعة، ثقل علمها في السموات والارض {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وقوله {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يعني عن الخلائق، وهنا فائدة جليلة وجوهرة ثمينة في الترتيب الإلهي وهي أن المؤمن إذا وحَّد الله وعبده حق العبادة، فجزاؤه ليس في الدنيا، فالدنيا ليست دار جزاء، إنما دار عمل، فكأن الآيات تقول للمؤمنين إن مجازاتكم على التوحيد وعبادة الله ستكون في الآخرة بعد قيام الساعة، وهذه فائدة خفية وجليلة المعنى والمبنى.
" {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:17-21].. تطرق الحديث إلى سؤال الله لموسى وهو سبحانه وتعالى أعلم عن ماذا يحمل موسى في يده اليمنى، وهنا فوائد عدة منها أن الله أراد أن يؤنس موسى حتى لا يخاف، وهذا من رحمته جل وعلا، وفائدة أخرى أن موسى لم يرد فقط بقوله إنها عصاي لكنه أطال الكلام وجعل يذكر الأمور التي يستخدم فيها هذه العصا، وهذا يبين أنه استأنس بالكلام مع الله، فارأد أن يطيل الحوار.
وقوله {بِيَمِينِكَ} فيها إشارة إلى استحباب التيمن في كل شيء، كما كان يفعل رسولنا صلى الله عليه وسلم.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}، معجزتان أيد الله بهما موسى ليجابه بهما فرعون.
المعجزة الاولى هى تحول العصا إلى ثعبان كبير، والمعجزة الثانية هي أن يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء ولا أذى تتلألأ كأنها القمر، فأمره الله أن يذهب إلى فرعون بهاتين الآيتين ويدعوه إلى الله، فقد تجاوز الحد بإدعائه الألوهية.
وأوصاه ربه بأن يقول له {قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وهنا وقفة جليلة، وهي أن مقام الدعوة والبلاغ يحتاج إلى اللطف واللين في التعامل حتى تؤتي ثمارها، ولو كنت تدعو أكفر الكفار، وهل يوجد أكفر من فرعون الذى نازع رب العزة في ألوهيته، وخرج على الناس وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [طه:38].
أكثر أخ نفع أخاه: يقول العلماء إن أكثر أخ له منِّة على أخيه هو موسى عليه السلام لأنه كان سببًا في جعل أخيه هارون نبيًا، وهي أشرف وأجلّ مكانة، فطلب موسى من ربه أن يجعل أخاه وزيرًا له ومعينًا على حمل تبعات الرسالة، وهنا فائدة جليلة في قول الله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:22-35]، وهي أن موسى عليه السلام بيَّن الهدف الأسمى وهو أن يساعده أخوه على كثرة تسبيح الله وذكره، لذا أي عمل يجب أن تكون الغاية العظمى منه إقامة ذكر الله، فأجلّ الأعمال كالطواف ببيت الله الحرام ما شُرع إلا لإقامة ذكر الله.
فاستجاب الله لموسى وجعل أخاه وزيرًا ومعينًا له فى إبلاغ الرسالة ومجابهة فرعون بالبراهين والحجج، وهنا فائدة أن الأخ الصالح خير معين لأخيه، وسند له في الدنيا على تحمل التبعات والإبتلاءات، لذا الوحدة بين الإخوة تكسبهم قوة لمجابهة تقلبات الحياة.
وذهب موسى ودعا فرعون فلم يستجب له، وأخذ ينكل ببني إسرائيل ويسومهم سوء العذاب، فأمر الله موسى بمغادرة مصر ومعه بني إسرائيل، فاتبعهم فرعون بجنوده فأهلكه الله في البحر، وجعله آية للعالمين، ونجى الله بني إسرائيل، لكنهم لم يشكروا نعمة الله، وعبدوا العجل من دونه سبحانه وتعالى، فغضب عليهم موسى، وواعد الله نبيه بميقات محدد يكلمه فيه، فلما جاء موسى لميقات ربه وكلمه ربه اشتاق موسى لرؤية الله، فطلب من ربه أن يريه وجهه الكريم، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِيۚ} [الأعراف:143] وهذه تعنى على أصح الأقوال إنك لن تراني في الدنيا، فالله عز وجل لا يُرى في الدنيا إنما يراه المؤمنون في الجنة يوم القيامة، فرؤية وجه الله لا يتحملها أحد، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه الكريم ما انتهى إليه بصره من خلقه.
الجبل لم يتحمل رؤية الله: أراد الله أن يُبين لموسى أنه لن يتحمل رؤيته {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا}[الأعراف:143]. قال ابن عباس: لم يظهر منه إلا قدر الخنصر، ولما رأى الجبل التجلي لم يتحمل فأصبح ترابًا من عظمة الله جل جلاله، ولما رأى موسى الجبل وقد استحال ترابًا صُعق وخر مغشيًا عليه، فلما أفاق وكأنه كان في غيبوبة من هول المنظر، أول كلمة قالها نزَّه فيها الله عن كل نقص ووصفه بكل كمال {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] بك من بني إسرائيل، وفى تفسير آخر أول المؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا، وهنا فائدة جليلة بيَّنها الله لموسى، وهي أن الجبل الذي هو أقوى منك ملايين المرات لم يتحمل رؤيتي، فكيف بك أنت؟ لذا هذا من رحمة الله بموسى.
تطييب الله لخاطر موسى: وبعد ذلك طيَّب الله خاطره بقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] بالرسالة وبكلامي لك بدون حجاب ولم اعط هذه المنة لأحد قبلك، فخذ ما آتيتك واشكرني عليه، وفي هذا فائدة أن تطييب الخواطر ومراعاة المشاعر من الدين.
وفي النهاية هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده من الفوائد العظيمة من حديث موسى مع ربه، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي وحسناتكم، وأن يتقبله الله عز وجل.
بقلم/ د.عبدالعال عبدالرحمن