المؤمن الحق والحرب النفسية

إن الهدف الحَيويّ من الحرب، هو تَحْطيم الطاقات المادِّية والمعنويَّة للعدُوِّ، فإذا انتصر عليه في مَيْدان الحرب، واستطاع أن يُحَطِّم طاقاته المادِّية، فلا بُد من جهود أخرى لتحطيم طَاقاته المَعْنويَّة ليكون النصر كاملاً يؤدِّي إلى الاستسلام.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

إن الهدف الحَيويّ من الحرب، هو تَحْطيم الطاقات المادِّية والمعنويَّة للعدُوِّ، فإذا انتصر عليه في مَيْدان الحرب، واستطاع أن يُحَطِّم طاقاته المادِّية، فلا بُد من جهود أخرى لتحطيم طَاقاته المَعْنويَّة ليكون النصر كاملاً يؤدِّي إلى الاستسلام.

وهنا يبدأ دور الحَرْب النَّفسيَّة، التي تستهدف الطاقات المَعْنويَّة بالدرجة الأولى. وفي تاريخ الحُروب أمثلة لا تُعَد ولا تُحْصى عن انتصارات استطاعت القضاء على الطاقات المادِّية، ولكنَّها لم تستطع القضاء على الطاقات المَعْنويَّة، فكانت انتصارات ناقصة استمرَّت مُدَّة من الزمن - ثم أصبح المهزوم مُنتصِرًا وأصبح المُنتصِر مهزومًا.

فكيف يُصاول القرآن الكريم الحرب النفسيَّة، ليصون مَعنويَّات المسلمين من الانهيار؟ كيف يُحافظ القرآن الكريم على المَعْنويات العالية للمُسلمين في أيّام الحرب والسلام على حدٍّ سواء.

ولعلَّ من أهم أهداف الحرب النَّفسيّة هي: التخويف من الموت والفقر ومن القُوّة الضاربة للمُنْتصِر ومحاولة جَعْل النصر حاسماً، والدعوة إلى الاستسلام وبثّ الإشاعات والأراجيف، وإشاعة الاستعمار الفِكْري بالغَزْو الحَضارِيّ، وإشاعة اليأس والقُنوط.

المؤمن حَقّا لا يَخْشى الموت، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس من الآية:49] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران من الآية:145]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء من الآية:78] وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران:154].

إن المُؤْمن حقًّا، يعتقد اعتقادًا راسخًا؛ بأن الآجال بيَدِ الله سُبْحانه وتعالى، وما أصْدَق قَوْلة خالد بن الوليد رضي الله عنه: "ما في جِسْمي شِبْر إلا وفيه طَعْنة رُمْح أو سَيْف، وها أنا أموت على فِراشي كما يموت البَعير، فلا نامت أعْيُن الجُبناء".

والمُؤْمن حقّا لا يخاف الفقر لأنه يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الأرزاق بيد الله سُبْحانه وتعالى، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران من الآية:37]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]، وقال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].

والمُؤمِن حقّاً لا يخشى قُوّات العدُو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيَّام الفتح الإسلامي العظيم بعُدّة أو عدد، بل كان انتصارهم انتصار عَقِيدة لا مِراء.. قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].

والمُؤمِن حقًّا لا يُقِر بانتصار أحد عليه ما دام في حِماية عقيدته، لذلك فهو مُوقِن بأن الانتصار في مَعْركة قد يَدوم ساعة، ولكنَّه لا يدوم إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

والمُؤمِن حقًّا لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يَعْلم بأن بعد العُسر يُسراً، وأن العزَّة لله ولرسوله والمؤمنين، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال تعالى: {وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65].

والمُؤمِن حقّا لا يُصدِّق الإشاعات والأراجيف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب:60]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].

والمُؤمِن حقًا يُقاوم الاستعمار الفِكْري ويُصاول الغَزْو الحَضارِي، لأن له من مُقوِّمات دينه وتُراث حضارته ما يصونه من تيَّارات المبادئ الوافدة التي تُذيب شخصيَّته وتمحو آثاره من الوجود.

والمُؤمن حقًّا لا يَقْنط ولا ييأس من نصر الله ورحمته، قال تعالى: {لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} [الحجر:67]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36] وقال تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49].

تلك هي تعاليم القُرآن الكريم التي تجعل من المُؤمِن الحقّ، مُطِيعًا لا يَعْصي، صابرًا لا يتخاذَل شُجاعًا لا يَجبُن، مِقْدامًا لا يتردَّد، مُقبلاً لا يَفِرّ، ثابتًا لا يتزعزع، مُجاهِدًا لا يتخلَّف، مؤمنًا بمُثل عُلْيا، مُضحِّيًا من أجلها بالمال والرُّوح، يخوض حربًا عادلة لإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل.

لا يَخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يهاب قُوّة في الأرض، يُسالِم ولا يستسلم، ولا تَضعِّف عزيمته الأراجيف والإشاعات، لا يَستكين للاستعمار الفِكْري، ويُقاوم الغَزْو الحضاري، ولا يَقْنط أبدًا ولا ييأس من رَحْمة الله.

هذا المُسلم الحقّ، يَقِظ أشدَّ ما تكون اليقظة، حَذِر أعظم ما يكون الحَذَر، يتأهَّب لعدُوه ويعد العُدة للقائه، ولا يستهين به في السِّلم أو الحرب.

وهذا ما يفسِّر لنا سِر الفتح الإسلامي العظيم الذي امتدّ خِلال ثمانين عامًا من الصِّين شرقاً إلى فَرَنسا غربًا ومن سَيْبيريا شمالاً إلى المحيط الهِنْدي جنوبًا. ذلك لأن شِعار المسلمين كان: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] النصر أو الشهادة.

وذلك لأن المُسلمين كانوا يَحرِصون على الموت حِرْص غيرهم على الحياة.

ذلك غيْض من فيض ما جاء في القرآن الكريم عن: العَسْكرية الإسلاميَّة وهناك بُحوث فذَّة في القرآن الكريم في: التولِّي يوم الزَّحْف، السلام في الإسلام، عِقاب المُتخلِّفين في الإسلام، الشهيد في الإسلام، وغيرها من البحوث، لعلّ الله يُعينني على استيفائها بكتاب خاصّ.

تلكَ هي عِظة القرآن الكريم حتى في المَجالات العسكريَّة، ولكنْ يا لَيْت قومي يعلمون.
 

محمود شيت خطاب

المصدر: مقتبس دون تصرف من مقال أقْباس من العَسْكرية الإسلاميَّة في القُرآن الكريم- مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس 1400هـ