[90] الذكر
إن للذكر فوائدَ عظيمة، يضيق المقام عن إحصائها، بل يعجز العقل عن إدراكها
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
إن القلب ملك الجوارح، ولذلك فهو أهم ما يجب الاعتناء به، وإن للقلوب صدأ لا يجلوه إلا ذكر الله، ولها أقفال مفتاحها لهج اللسان بحمده، وإدامة العبد لشكره، فالذكر جنة الله في أرضه، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "والذكر من أعطيه اتصل، ومن مُنعه عُزل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به نار الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب، هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
عباد الله، الذكر يوصل الذاكر إلى المذكور، حتى يصبح الذاكر مذكورًا، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار المبصرين، وهو باب عظيم مفتوح بين العبد وربه ما لم يغلقه العبد بغفلته، ولقد امتدح الله عباده المؤمنين الذاكرين فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
أخرج مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ». وأخرج الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال: « » [صحيح ابن حبان: 814].
إخوة الإيمان، إن للذكر فوائدَ عظيمة، يضيق المقام عن إحصائها، بل يعجز العقل عن إدراكها، وقد عدّ ابن القيم أكثر من سبعين فائدة للذكر في كتابه "الوابلُ الصيِّب من الكلم الطيب"، نذكر منها شيئا يسيرًا:
منها: أنه يورث الذاكرَ القربَ من الله، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» [صحيح مسلم: 2675].
ومنها: أنه يورثه حياة القلب وهو قوته، فإذا فقده العبد صار بمنـزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صحيح البخاري: 6407]
» [ومن فوائده أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
» وذكر منهم: « » [صحيح ابن حبان:7338].ومنها: أن دوام ذكر الله يوجب الأمان من نسيانه ، فلا يشقى العبد في معاشه ومعاده، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه: 124:126]، ومنها : أنه لما كان الذكر متيسرًا للعبد في جميع الأوقات والأحوال، فإن الذاكر حتى وهو مستلقٍ على فراشه يسبق في الفضل والخير القائم الغافل. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح الترمذي: 3414].
ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته. أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «
» [صحيح مسلم: 2701]. نواصل ذكر هذه الفوائد للذكر في الخطبة التالية.الخطبة الثانية:
ومنها: أنه سبب تنـزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بحلقات الذكر، فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة والإثم مجالس الشياطين روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
» [صحيح مسلم: 2700]، ومنها: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه .ومنها: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل، فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه. والواقع يشهد من خلال تجرأ العباد على معصية الله، بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد. فكلما كان قليل الذكر سهلت عليه المعصية.
ومنها: أن الذاكرون هم السابقون يوم القيامة. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح مسلم: 2676].
ومنها: أنه يحط الخطايا ويذهبها. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
» [صحيح مسلم: 2691].ومن فوائد الذكر أنه سدٌ بين العبد وبين جهنم ـ والعياذ بالله ـ، فإذا كان ذِكرًا دائمًا محكمًا، كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه، روى الحاكم في المستدرك وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [المعجم الأوسط: 4/219].
ومنها: أن الذكر يزيل الهم والغم عن القلب ويجلب له الطمأنينة ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
ومنها: أن الذكر غراس الجنة. أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [تخريج مشكاة المصابيح: 2/439].