صيدلية الحياة.. لمن أراد النجاة
أبو محمد بن عبد الله
نرى أناسا يعتذرون عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والصحابة الكرام، بأنهم أناسٌ غيرنا وفي غير زماننا وظروفنا، هذا وهم بشر من البشر؛ فكيف لو كانوا ملائكة من السماء؟!
- التصنيفات: السيرة النبوية - قضايا إسلامية -
قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ}[الأنبياء:8] ..
لا نقف على أقوال المفسرين في معنى الجسد؛ وهل هو خاص بالإنسان كما يقول ابن فارس، أم هو عام لما يتغذّي من الأجسام أو له لون، أم أنه الذي لا يتغذّى.. ليس الأهم فيما نريد، وإنما الأهم والحاصل أن هؤلاء الأنبياء لهم أجساد كأجساد باقي البشر، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويتزوَجون النساء، ويشعرون بالتعب والجوع والعطش والرغبة، بل يتألمون ويمرضون، ويفقدون المال والولد، ويموت لهم الأحباب ويحزنون؛ فتأتي عليهم أعوام الحُزن وأيام الشدة، ويخافون، ويُخرَجون من المال والولد والبَلد، ويقع عليهم ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة مِن وقعِ الحُسام المهنَّد!
ولنبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم أوفر حظِّ من ذلك كلِّه، ولا يكفي لإيراد ذلك إلاأن نكتب أيامه ولياليه في سيرته الثرَّة الغنية، من تطريد وتشريد وتهديد.. من موت حاضنه العم وسكينته وظهيره الزوجة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وفقْدِ العم حمزة رضي الله عنه وشهداء أحد، وقبله التهجير من الديار والمطاردة في الغيران والصحاري، ثم الجوع الذي يربط له حجرين على بطنه، ويخرج يتجول في شوارع المدينة من الجوع وهو رئيس الدولة، ويَلقَى الوزيرين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كذلك يفعلان..
كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إلى الله تعالى، وخليله الأول، فلم يكن ذلك تعذيبا له من ربه الوَدود، ولا تفريطًا فيه من ربِّه الحفيظ.. ما كان ذلك إلا لمحبته وتفضيله، وبالتبع محبة أمته التي تهتدي بِهُداه وتهدي الناس بهدايته: « »(أحمد، المسند، برقم:[27079])، و« »(الترمذي، السنن، برقم:[601]).
مُختصر الدرس كله يتمثل في صناعة الأسوة للبشر من أنبيائهم، وليؤدوا تكاليف الإيمان، وليقطع الحجة على المتعللين، فنحن نرى أناسا يتعذَّرون عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والصحابة الكرام، بأنهم أُناسٌ غيرنا وفي غير زماننا وظروفنا، هذا وهم بشر من البشر؛ فكيف لو كانوا ملائكة من السماء؟!
ينبغي أن نستفيد مِن هذا، ويجب أن نوظِّفه في حياتنا الصغيرة والكبيرة، في الأسرة والبلد والعالَم.. في السلم والحرب، في الشدة والرخاء.. مصطحبين في ذلك جانب التعبد بهذا التأسي.. مستحضرين صحة المشرب والمذهب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأانعام: 90]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الممتحنة:6].
إن في ذلك ترشيدًا لمسيرتنا، وإنارةً لطريقنا، وتقويمًا لسلوكنا، وتثبيتًا لقلوبنا، وأنسًا في وحشتنا، وتأسيةً لنا في مصائبنا وتعزية مفقوداتنا من أشياء وأشياخ أو أشخاص فرَّقتنا الإحن وأقارب باعدتنا عنهم الفِتَن..
بل إذا ما استجبنا لها ففيها حياتنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:23]، وقد دعانا الله تعالى ودعانا رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بالأنبياء وبالتأسي به صلى الله عليه وسلم كما سبق في الآيات..
يقول سيد رحمه الله في ظلال الآية الأولى: (لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم العملي نموذجا حيًّا لِما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة.
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء، ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون.
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول. لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور.
وأيما داعية لا يصدق فعلُه قولَه. فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب. مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل. هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل.
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول مُنَزَّهًا عن انفعالات البشر.. كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة. وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها.. لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص. وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس.
وهنالك اعتبار آخر، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته لأنه من جنس غير جنسهم، وطبيعة غير طبيعتهم، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية. وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس.
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله، باختيار الرسل منه، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه.
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت. ومن عواطف وانفعالات. ومن آلام وآمال. ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء.. وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم.. أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة)[الظلال:4/ 2368].
فمن رام غير ذلك تحت ضغط الرغبة أو الرهبة، أو بموجب ضغط التمَكُّن أو الاستضعاف، أو بحجة اختلاف الأمصار والأعصار، أو بالتفريق بين بلاءات الدنيا والدين.. أو عامة الأمة وخاصة الأفراد والأسر.. فلم يجد لذلك أسوة فقد أخطأ الطريق ورام التي هي أدنى!
إنه البشرٌ الرسول صلى الله عليه وسلم، أسوة لكل بشر، ولكل مسلمٍ، رئيسا كان أو مرؤوسا، زوجا أو والدا أو ولدا، منصرا قويا أو مستضعفا، مع العدو أو مع الحبيب، في أزمة أسرية أو سياسيو، محلية كانت أو دولية..
وإِنَّ الأُلَى بالطَّفِّ من آلِ هاشمٍ ... تآسَوا فَسنُّوا للكرامِ التآسيا
قال ابن بري: وهذا البيت تمثل به مصعب -بن الزبير بن العوام يوم قتل.
هذه صيدلية الحياة لمن أراد النجاة، صيدلية الاستشفاء بِحُسن الاتِّساء،... كلها كانت عناوين متنوعة لمضمون واحد.
7 جمادى الآخرة 1437 (16/3/2016)