حوار حر أم مراء مر؟!

محمد فتحي عبد السميع رزق

وليكن حوارك حرًا لا مراء مرًا، ولا تقاطع ضيفك، فالمقاطعة توغر الصدر وتشتت الفكر وتشوه الفكرة وتجعلها للإفادة مفتقرة.

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة - الآداب والأخلاق - الأدب مع الآخرين -

دعيت يوم! إلي حوار، فاستبشرت وجهزت دفتر الأفكار، وأعددت عدتي لأدون فكرتي، وذهبت في الموعد المحدد وكلي فكر يتوقد، فقابلني مدير اللقاء بابتسامة لطيفة وطلة خفيفة، ونظر إلي بوجه طليق وحدثني بلفظ عذب رقيق، وسألني عن الحال فأجبت أن الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه وبدأ الحوار:

فسألني: اعتمادًا علي حسك الديني الرائع، ما رأيك في الجدل الفقهي الشائع؟

فقلت: أري أنه جدل... وقبل أن أكمل كلامي، قال: غريب عجيب فحدثت نفسي وأنا أهمهم: كيف يحجر علي رأيي قبل أن أتكلم؟ وقبل أن أوضح مقالتي عاجلني بسؤال آخر أن المذهب الفلاني قد خطى خطى جديدة، فهل تراها مفيدة؟

فقلت: والله أراها... فقاطعني، وقال: رأيي أنها خطوة عصماء اجتمعت عليها الآراء. فتساءلت: أيسألني ويجيب علي نفسه؟ أم تراه قد نسي نفسه؟ هل هو محاور أم مناور؟

واستأذنته أن أكمل كلامي فقال: هناك اتصال علي الهاتف، فسمعت المتصل ينطق بكلام باطل زائف، فهو لم يرحب بي كضيف بل بدا منه نحوي الظلم والحيف. انحاز للمحاور ومدحه بالنعوت والصفات، فقال: أنت محاور رائد وفي رأيك دومًا محايد!

فتعجبت وحل بي الألم وبدا علي القلق والسأم، وانتهي الإتصال وعاد المحاور للمقال، فقال: نعاود النقاش حول النقاط السالفة.

فقلت: نقاش! أي نقاش؟! فأنا لم أنبس ببنت شفة، أنت من تسأل وتجيب في شغف، وأنا في الحوار ضيف شرف.

فارتفع صوته علي بأني أتهم مهنيته وأني أتعمد إهانته، وإذا باتصال أخر من إنسان بدا متملقًا هاجمني بلا هواده واظهر من قوله فساده وتساءلت: هل جئت لأناقش وأحاور أم لأقاتل وأناور؟

وتحول الميدان إلي ساحة عراك لا أجد منها فكاك فالكلمات محسوبة علي والسوء مردود إلي فرأيت أن الكلام الحق، وقته قد جاء والرد لا يتحمل الارجاء، فسميت الله ثم قلت: أتيت إلي ناديكم وجلست بين أياديكم فرأيتكم أصحاب هوى لا تسمعون إلا صوت أنفسكم، جدال بلا علم وجهل بلا حلم ترموننى بالتهم وعندكم الحق ضائع ملتهم، ثم لا تتركون لى حق الدفاع وتجبرونى على الصمت والاستماع، وليس هذا من أدب الحوار.

كلامكم منى مسموع وكلامى على ممنوع، فلماذا دعوتمونى وللحوار؟ ندبتمونى، رأيكم مشتهر ورأيى منتهر، كلماتى مسقطة واضواؤكم عليكم مسلطة، تتشدقون بكلمات لامعة، فلما لا تتحيدون؟ لا ضد ولا مع.

اسمعوا رأى المضاف وحاوروه بإنصاف، وادحضوا الفكر بالفكر ولا تسعوا خلف شهرة أو ذكر، واضيئوا للحق مشاعله وحاوروا المرء راجين أن يكون الحق له، واسمع وعى لقول الشافعى: "ما جادلت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق معه لا معى".

واجعل ابتسامتك لأمتك، فالإبتسامة تمنع الحتوف، وهى كلمة طيبة بغير حروف، تغني مستقبلها ولا تفقر باذلها، فاعلها مأجور ومتلقيها مسرور، تخفف أثر المآسي وهي خير مواساة لمن يقاسي، تفتح مغاليق القلوب وتختصر المسافات والدروب، لا يوجد فقير منها ولا مستغن عنها.

وليكن حوارك حرًا لا مراء مرًا، ولا تقاطع ضيفك، فالمقاطعة توغر الصدر وتشتت الفكر وتشوه الفكرة وتجعلها للإفادة مفتقرة.

وإياك والتفيهق، واعلم أن ليس كل الناس خواص، فمنهم العوام ومنهم الهوام، فاعط كل من حديثك نصيبه، فكم من مريد للحق لا يصيبه.

ولا تهاجم محاورك ولا تسلبه بصرك لتنظر إلى من يجاورك، أوله اهتمامك واجعله أمامك، ولا ترد مقالته حتى ينهى فكرته ويفرغ جعبته، فإن كنت معارضًا فاذكر عيبه من طرف خفى وأظهر خيره واضحًا جلي، وإياك أن تفشي زلته أو تظهر سوأته، ولا تصرح لتجرح الأنام فرسولنا قد لَمَّحَ.. بما بال أقوام.

وتحلى بالأدب فالأدب لأهل الحق دأب، والفهم لأهل العلم شغل وهم،.

حاور إبراهيم ربه فأراه ما طمأن قلبه، وحاور النمرود بالحجة فبهت، ولان لأبيه على كفره فناداه... يا أبتِ.

ومن قصص الانبياء لديك قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف من الاية:143] فحاوره الجبار على مهل وقال {لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف من الاية:143]، وبعثه إلى فرعون وأوصاه بلين الكلام، فقال موسى لفرعون على أهل الهدى السلام.

فلا تحرمني إمهالك فلست فرعون وكموسى لا أخالك.

وفي الختام لا يفسد التباين ودًا، ولا يقيم بين من أرادوا الحق حدًا، مصيبنا مأجور ومخطئنا غير موزور.. والسلام.

 

د/ محمد فتحي عبد السميع رزق - كلية أصول الدين - جامعة الأزهر

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام