غزة المحررة .. انتصار المقاومة أم مخطط شارون؟!
ملفات متنوعة
كان لافتاً أن دعاة رفض العسكرة ومعارضي المقاومة المسلحة، وأصحاب
نظرية الانتفاضة السلمية، هم الذين تبنوا خطاب التقليل من شأن
الانتصار الذي تحقق بدحر الاحتلال عن قطاع غزة..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
كان لافتاً أن دعاة رفض العسكرة ومعارضي المقاومة المسلحة، وأصحاب نظرية الانتفاضة السلمية، هم الذين تبنوا خطاب التقليل من شأن الانتصار الذي تحقق بدحر الاحتلال عن قطاع غزة، وتفكيك المستوطنات من قبل رجل الاستيطان الأول في الدولة العبرية والرجل الذي كان يساوي بين مستوطنة نتساريم في القطاع وبين تل أبيب.
لكن ذلك لم يكن غريباً في واقع الحال، فأمثال هؤلاء لا يمكن أن
يعترفوا للمقاومة بفضل، وهم الذين طالما اعتبروها تهديداً لمصالح
الشعب الفلسطيني التي لا تتحقق بالقوة العسكرية مع عدو مدجج بتلك
القوة، فكيف حين جاء الإنجاز بعدما تولى هؤلاء قيادة الشعب الفلسطيني
، وراحوا يطبقون نظرياتهم على الأرض، من خلال التهدئة ومن ثم الدخول
في مسار تسوية كذلك الذي دخلوه من قبل في أوسلو؟
لعل الأسوأ من ذلك أن هؤلاء لم يكونوا بعيدين عن الانتصار الذي تحقق
بدماء الشهداء وعذابات الأسرى والأبطال والصمود المذهل للجماهير فحسب،
بل كانوا مشاركين أيضاً في محاصرة ذلك الانتصار وتحجيم آفاقه، وهنا
نشير إلى أن الانسحاب من غزة كان أحادي الجانب، ولو بقي كذلك لما كان
بوسع المحتلين أن يحتفظوا بالمعابر، ولما كان بوسعهم الحصول على
اشتراطات أمنية كتلك التي يحصلون عليها الآن، فضلاً عن أن طبيعة
الانتصار كانت ستكون مختلفة لو تم تحت نيران المقاومة وأمام سمع
العالم وبصره.
كل ذلك ليس من باب المبالغة، فقد كان شارون في حاجة ماسة إلى تنسيق الانسحاب مع مصر والسلطة الفلسطينية، وفيما جاء التنازل المصري تحت وطأة ضغوط الإصلاح وهواجس التمديد للرئيس المصري، فقد جاء موقف السلطة تحت وطأة التهديد من جهة، وفي ظل شهية الاستئثار بالسلطة كي لا تستولي عليها حماس من جهة أخرى، أقله كما يسوقون أمام جماعتهم.
في هذا السياق كشف صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين في محاضرة
له في عمان قبل أسبوعين أن شارون قد هدد محمود عباس أثناء لقائهما
الأخير بمصير عرفات إذا لم ينسق الانسحاب مع الإسرائيليين. أما
افتتاحية صحيفة هآرتس الإسرائيلية صبيحة اليوم التالي لبدء الانسحاب
من المستوطنات، فقالت "بدون مفاوضات حظيت بلقب "تنسيق"، مع قيادة
السلطة الفلسطينية. بدون قيادة محمود عباس وإصراره على أن يرى فك
الارتباط مناسبة تاريخية للفلسطينيين ونجاحه في أن يعادي حركة حماس
أيضاً، وبدون التدخل المكثف لمصر، سواء في تسوية الخلافات بين الفصائل
الفلسطينية، أم كحارسة على محور فيلادلفيا.. من دون ذلك كله كان وجه
فك الارتباط سيكون مغايراً تماماً هذا اليوم ..".
هكذا يكون دعاة رفض العسكرة، ومن انقلبوا على الرئيس الفلسطيني السابق
ياسرعرفات الذي سمّمه شارون بعد أن اغتال الشهيدين أحمد ياسين وعبد
العزيز الرنتيسي، هم أنفسهم من يديرون ملف الانسحاب الآن، وهم أنفسهم
الذين يقطفون ثماره على الأرض، وعلى رأسهم محمد دحلان الحاكم الحقيقي
لقطاع غزة.
أسئلة ما بعد الانسحاب
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح لما بعد الانسحاب، لعل أولها وأكثرها
أهمية ما يتعلق بعناصر السيادة التي يمكن أن يتمتع بها القطاع خلال
المرحلة المقبلة، أكان بالنسبة للمعابر الحدودية، للأفراد والبضائع،
أم بالنسبة للمطار والميناء، وإذا كان عبور الأشخاص هو الأقل أهمية
بالنسبة للإسرائيليين نظراً لوجود أسيجة حول القطاع تحول دون التسلل
إلى العمق الإسرائيلي، فإن قضية البضائع تبدو مختلفة بسبب المخاوف من
تهريب السلاح، الأمر الذي ينطبق على الميناء والمطار اللذان يمكن
للدولة العبرية أن تتحكم بهما بسطوة القوة، خلافاً للمعابر الحدودية
التي يمكن للفلسطينيين أن يحرروها بسهولة لو ملكوا القرار، أعني قيادة
السلطة.
ما من شك أن سؤال المعابر والسيادة سيكون ذا صلة بالتوافق الداخلي
الفلسطيني على الأسئلة التالية لما بعد الانسحاب، وهنا نشير إلى
مراهنة الإسرائيليين على اقتتال فلسطيني فلسطيني، الأمر الذي يبدو
مستبعداً في ظل إصرار حماس على تحريم الدم الفلسطيني، إلى جانب
إدراكها لحقيقة المعادلة التي تحكم الوضع عربياً وإسرائيلياً
ودولياً.
ما يجب أن يقال هنا أيضاً هو أن التوافق الفلسطيني الداخلي سيتيح
تعاملاً أفضل مع قضية المعابر وصولاً إلى تحريرها بشكل كامل، في ذات
الوقت الذي يمكن أن يؤدي إلى تعامل جدي مع التحديات المطروحة بعد
الانسحاب وفقاً لمخطط شارون، فقد أعلن هذا الأخير مراراً أن هدفه من
الانسحاب من غزة هو تكريس الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وتمرير
الحل الانتقالي بعيد المدى أو الدولة المؤقتة، الأمر الذي سيبدأ
مباشرة، ما يفرض على الفلسطينيين مواجهة هذا التحدي بكل قوة، وعدم
النظر إلى قطاع غزة كدولة مستقلة لا صلة لها بما سيجري في الضفة
والقدس.
إن إفشال مخطط شارون وتحويل الإنجاز الذي تحقق في قطاع غزة إلى محطة
باتجاه استكمال المهمة المقدسة هو التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين
وقواهم، لكن ذلك سيواجه ذات المشكلة المتعلقة بموقف السلطة الجديدة من
النضال المسلح، ما قد يفرض إحراجها بالحديث عن انتفاضة سلمية في
البداية يمكن أن تتحول لاحقاً إلى انتفاضة مسلحة. فيما يدخل في ذات
السياق كل ما يتعلق بإدارة القطاع من الناحية السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، وما إذا كان أولئك الذين جربهم الفلسطينيون أيام أوسلو
هم أنفسهم الذي سيتحكمون بالوضع الجديد، وهو الأمر المرجح في أي حال،
اللهم إلا في حال أجريت الانتخابات وصار بوسع حماس، ولو كطرف معارض،
أن تمارس قدراً من الرقابة على ما يجري، مع أن رقابة البرلمانات لم
تؤد يوماً إلى منع الفساد في الأوساط العربية، فكيف حين تكون تلك
الأوساط مدعومة من الخارج على نحو استثنائي؟!
هنا تحديداً يبرز الموقف الدولي والموقف العربي مما جرى وسيجري، ذلك
أن الانسحاب من غزة وما تخلله من غضب للمستوطنين وتفكك في صفوف اليمين
الإسرائيلي قد يمنح شارون سوقاً واسعة في الداخل الأمريكي وعلى
المستوى الأوروبي، ما قد يدفع إلى التسامح معه في خطواته أحادية
الجانب من جهة، فضلاً عن إصراره على تطبيق الشرط الأول في خريطة
الطريق ممثلاً فيما يسمى تفكيك البنية التحتية للإرهاب، وهي لعبة
ستشمل الكثير من نشاطات قوى المقاومة وعلى رأسها حماس.
يتبع ذلك الموقف العربي المتراجع أمام الولايات المتحدة، وبخاصة الموقف المصري، ما قد يفرض تطبيعاً مبكراً على الدول العربية، وإلى جانبه رفض لأية سياسة قوة من قبل الفلسطينيين في التعامل مع الاحتلال.
هكذا يبدو الموقف العام الراهن في صالح المضي قدماً في مخطط شارون
الرامي إلى تكريس الحل الانتقالي بعيد المدى، لكن ذلك يعتمد كما هو
معروف وكما تراهن الدوائر الإسرائيلية على استمرار السطوة الأمريكية
على الوضع العربي والدولي بسبب احتلال العراق، لكن تواصل المقاومة
هناك وملامح فشل المشروع الأمريكي ما زال يبشر بفشل المراهنة
الإسرائيلية، ومن ثم إمكانية تعزيز الانتصار الذي تحقق في غزة بآخر في
الضفة والقدس وصولاً إلى تفكيك المشروع الصهيوني برمته كما تفككت
مستوطنات غزة؟
ألم يؤكد شارون من قبل أن أهميتها مثل أهمية تل أبيب؟
هكذا تكون المقاومة في فلسطين والعراق هي صاحبة الإنجاز الحقيقي، حتى
لو بدا أن من وقفوا ضدها وشهروا برموزها هم من يقطفون الثمار في الوقت
الراهن.