تربية الأبناء بين عقد النبوة وعقدة الأجنبي
محمد بوقنطار
هل ثمة خير أفضل وأكمل مما راكمته السيرة النبوية فبلغ نصاب التبرير والتسويغ لضرورة الفزع إلى هذا الميراث النبوي النفيس وما أسسه الرحمة المهداة من قواعد وأسس هادفة مستقاة ومستشرفة من منقبة استيعاب حياته البشرية والدعوية لكل الحالات التي يمكن أن تكون فضاء رحبا تدور في مناخه المعتدل قواعد التربية السليمة وتجلياتها المتسامية.
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -
تفرض طبيعة العمل أحيانا كثيرة نوعا من التّماس المباشر في دائرة اللقاءات التواصلية مع الكثير من آباء وأمهات وأولياء التلاميذ والتي يمكن اعتبارها بطاقة تعريف مصغرة للغالب من أحوال عموم الناس كما همومهم، فكنت ولا أزال وأنا أتابع استدراكات وانطباعات واستفسارات واقتراحات العديد منهم مدفوعا إلى اجترار ما عقده في إقرار ابن خلدون في مقدمته في فصلها الثالث والعشرين في أن المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، وربما كان الناس في إطار هذا الشعور معذورين من جهة أن النفس البشرية بصفة عامة غالبا ما تعتقد الكمال في من غلبها، وهو ما يعبر عنه تجوزا بعقدة الغالب أو الأجنبي.
ولا شك أنها عقدة يزيد تغولها يوما بعد يوم ويغذي عربدتها إعلام بئيس على رأسه تلفزة مستأجرة يلتهم القيّمون عليها بسوء قصد وخبث طوية أخلاقنا ببرامج تكرس التبعية وتضفي على الوافد الصقيعي الموبوء عناوين التفوق المادي والفكري والتربوي، رغم أن الغرب اليوم يتألم في صمت ويكابد في جلد وصبر، ويعاني من مآلات نظرياته في التربية والحقوق، ويتصاغر في ذل ومسكنة جراء ما وصلت إليه مدنيته من تسفل وتنقص وتنكب أخلاقي مس قيم بشريته وانقلب على ملمح إنسانيته بأشكال من المروق الفطري نربأ بأنفسنا عن التسفل في تفاصيله المأساوية.
وقد يقول السفهاء من الناس أن هذا كائن موجود فينا، فيُرد على هذا التنطع بكون التسليم بوجوده هو من جنس النادر الذي لا حكم له، وأنه لم يظهر إلا في غربة وإغراب، وإلا في صفوف من انسلخت أفعالهم عن سوي الفطرة وخاصم ركزهم التدين في جفوة وعداء.
وليس يدري المرء كيف لمن جعله الله ينتمي إلى أمة موصولة بالله تملك في هذا المقام ما لا تملكه سائر الأمم، أن يحتمي ويرتمي في انبهار وتسليم مطلق في حضن النظريات الحقوقية والتربوية الغربية المتهالكة، مستبدلا الأدنى بالذي هو خير، وهل ثمة خير أفضل وأكمل مما راكمته السيرة النبوية فبلغ نصاب التبرير والتسويغ لضرورة الفزع إلى هذا الميراث النبوي النفيس وما أسسه الرحمة المهداة من قواعد وأسس هادفة مستقاة ومستشرفة من منقبة استيعاب حياته البشرية والدعوية لكل الحالات التي يمكن أن تكون فضاء رحبا تدور في مناخه المعتدل قواعد التربية السليمة وتجلياتها المتسامية.
فقد عاش عليه الصلاة والسلام الفقر والغنى، وتذوق الخوف والأمن، وشهد الهزيمة والنصر، وساكن الضعف وعفا عن قوة ومقدرة، بل تأسست بدايات إشراقات حياته المباركة على اليتم والحاجة والعزوبة، ثم بعدها إلى تاجر أمين وزوج قائد مشرف على إدارة شؤون تسع بيوت من بيوت أمهات المؤمنين.
وهو الذي ساس قومه فتحولوا من رعاء غنم إلى قادة أمم، وهم من هم كما وصفهم جعفر بن أبي طالب قائلا: «كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف...».
إن مبررات الفزع إلى المنهج النبوي في التربية والتعليم هي أكثر وأكبر من أن تعد أو تحصى، ولربما كان الحائل بين الناس وبين هذا الفزع إلى الدواء النبوي هو إغلاق الباب وإيصاد النوافذ استجابة لإحساس النفور والبغض المتجذر في نفوس المتربصين والمناوئين للمنهج الرباني، والمنيبين المتيمين في إخبات لمدنية الغرب وصلبان فكرها، رغم ما سجلته النظم البشرية المطروحة في الساحة هنا وهناك وهنالك من عجز ونقص وعدم قدرة على معالجة حالة الاضطراب ومواجهة الفوضى واليأس والفساد الذي يشهده بالصوت والصورة والرائحة كل النسيج الاجتماعي الغربي ومن يعيشون في كنف فكره الاستغرابي المقيت.
إن الطفل في المجتمع الأول ونقصد به مرحلة النبوة كان ينشأ وسط مجموعة تدين لله بالاستقامة حيث كان أمر التربية موكولا إلى التّماس والاحتكاك المباشر سواء داخل كيان الأسرة أو خارجها مع عنصر القدوة الذي كان بضاعة رائجة يومها، فكان الطفل في مرحلة التلقي والبناء والاكتساب والتزكية يأخذ دروسا لها عمقها ووزنها الفعلي والعملي، في غير اقتصار أو حصر على التوجيه بالخطاب والكلام الذي تنسفه قيم التضاد عند أول اختبار سلوكي للموصي والمربي على مرمى سمع وبصر الطفل المقصود بالتربية.
ولنقرب هذا المعنى بما حصل لعبد الله بن عباس وهو يحكي قائلا: «بت عند خالتي ميمونة فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام توضأ وقام يصلي الليل فتوضأت وقمت على شماله فأخذني عليه الصلاة والسلام ووضعني على يمينه وكنت إذا نمت أخذ بأذني».
ولا شك أنه تقريب يعطي الانطباع الإيجابي والنموذجي الذي تربى عليه الغلام عبد الله بن عباس في قضية مكابدة ناشئة الليل ووطئها الشديد وما لذلك من فوائد ومقاصد مباركة طيبة، إنه لنموذج واقعي سعى النبي من خلاله أن يربي عليه ضيفه الصغير، وهو عين ما يشير إليه قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «حافظوا على أبنائكم في الصلاة ثم تعودوا الخير فإن الخير بالعادة» ولا شك أن فلسفة العادة والمنطق الإيجابي للإلف قد غاب عن كثير من الآباء في مقاربة التربية بعناصر التحصيل والتحصين والتقويم.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن المتن النبوي في مقام أصول الدين غالبا ما يصرفنا وزنه العقدي كحديث «
»(رواه الترمذي) عن قوله عليه الصلاة والسلام « » وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام يخص عبد الله بن عباس على حداثة سنه في مقام التحمل المستشرف بالأداء والنقل والتخبير بأصل من أصول الدين له وزنه وثقله العقدي ومكانته في مقام قيام الحجة على الناس أجمعين بالإرسال والتنزيل، مؤسسا بهذا التخصيص على سبق وتبكير لأحد أكبر مبادئ التربية ونعني به مبدأ «احترام شخصية الطفل» وجعله في مكانة متقدمة تفتح أمامه هامشا من الاطمئنان والتوازن النفسي الذي يعد الزاد والجرعة التي تصاحب الصبي وتجود عليه بما يحتاج إليه من أنفاس قوية ولحظات ذوقية إيمانية متوازنة ومستوعبة لما هو نفسي ومعنوي وجسدي بخصوص مراحل حياة الناشئة.وانظر في السياق نفسه إلى هذا السلوك النبوي العظيم وقد جيء للنبي في مجلس عام بشراب أو لبن كما في رواية سهل بن سعد الساعدي فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال عليه الصلاة والسلام للغلام: «البخاري) فهل استقبح نبينا عليه الصلاة والسلام إصرار الصبي على البُداءة وبركة السبق وقام بطرده في ذلة وصغار بدعوى أنه لم يحترم كبار الصحابة.
» فقال: لا والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده.(رواهوبالرجوع إلى سيرة سيد الخلق نجده قد ربى الرعيل الأول فأحسن تربيتهم فهذا الصحابي الجليل عمرو بن العاص مرَّ على حلقة من قريش فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا أوسعوا لهم في المجلس وأسمعوهم الحديث وأفهموهم إيّاه فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم وقد كنتم صغار قوم، فأنتم اليوم كبار قوم».
وكان ابن شهاب الزهري رحمه الله يشجع الصغار ويقول: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتتبع حدة عقولهم».
فأين هذا مقارنة بعصر الحداثة وغزو الفضاء وشطر الذرة، حيث يطرد الصغار من مجالس الضيوف الوازنين، ويتم التحجير على حريتهم بين الكبار، وتهضم حقوقهم بزعم الصغر وقلة الفهم وضعف العقل، بل ويتركون مهملين إهمال البهائم تربيهم الرسوم المتحركة، ومعارك الألعاب الإلكترونية المفلسة، وأناشيد مدخولة النسبة تميل بعواطفهم إلى غير وجهة...
ولنقف على سنة «التكنية» وما لها من أبعاد في الإطلاقات النبوية فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكني الصغار فنجده ينادي مداعبا في رحمة أخ أنس: «
» (رواه البخاري ومسلم)، وفي موقف مشابه نجده يلاطف صبيّة لبست ثوبا جديدا فيقول لها: «هذا سَنَة يا أم خالد» وغير هذين المثالين كثير.ولا شك أن هذا له وقعه من جانب أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يرى في التكنية وسيلة فعالة قادرة على أن تربي في الصغار الإحساس بالمسؤولية وأن تقرع كوامن النضج في دواخلهم وتحرك نفوسهم شوقا لعيشه والسير في صوبه مبكرا في رغبة وصدق وحسن توكل، ولا شك أيضا أن هذا القرع هو ما تفتقده مناهج التربية المعاصرة والتي تفتقد في غالبها لمستشرف نتائجه التي صدقها واقع الرعيل الأول بحكم ما وصلنا عليهم من أخبار تحكي تفوقهم الأخلاقي والأدبي والعلمي والتربوي.
وها هو عليه الصلاة والسلام يحرص كل الحرص على تعليم سيدنا الحسين رضي الله عنه وهو بالكاد في مرحلة الحبو فيحمله مبكرا على التقوى والورع، وقد لقي تمرة في بيت جده عليه الصلاة والسلام فالتقطها يريد أكلها فصاح به النبي عليه الصلاة والسلام: « » (رواه مسلم)، ولعل الناظر إلى هذا الكبح بعين المناهج التربوية الغربية لا يتوانى في وصفه بالشدة والإفراط في غير تناسب بالنظر إلى سن الصبي أو قيمة التمرة من الناحية المادية.
وهذا هو عين الفارق بين التربية بالمقاصد واستشراف المآلات واستثمار الفطرة مبكرا وتعويدها على الخير والتزامه باستمراء منذ الزمن المبكر بضابط قول نبينا عليه الصلاة والسلام «الألباني في صحيح أبي داود)، وبين مناهج استفرغت الجهد في مشاريع غمس الطفولة في خندق اللهو واللعب والإهمال المطبوع بالكذب المشرعن بالتحيين المرحلي، والحال أننا نجد نبينا في هذا المقام قد حمى الطفل من نزق الكبار وسلطة تفوقهم الجسدي والعقلي؛ إذ جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « »(رواه أحمد)، كما رفض عليه الصلاة والسلام شهادة التأشير والإيجاب لمن فرّق بين أولاده في الهبة والعطية قائلا صلى الله عليه وسلم: « »(رواه البخاري).
» (صححهولعلها محطات مشرقة وجب الوقوف عندها طويلا للاعتبار والاقتداء، يجدر معها التنبيه حتى لا يفهم الكلام في غير صوبه وسياقه على أن الإسلام في مقاربته التربوية لم يغفل الهامش الذي أعطاه الله للطفل ونعني به ضرورة عيش مقتضى المرحلة أي امتياز اللهو واللعب والحركة المتحررة، ولكن الفارق كان ولا يزال بينه وبين سائر المناهج الوضعية هو إحاطة الإسلام هذا المقتضى بضوابط تحول دون الوقوع في إفراط مخل أو تفريط مضر أو الميل به الميل الذي يؤبد مشروع مصاحبته؛ لنسمع بعد عمر طويل أن ثمة شيخا طفلا وكهلا صبيا، ومسؤولا منكوس الخلق وما أكثر هذا في صفوفنا وصفوف غيرنا.
يصدق ما ذهبنا إليه في باب الإقرار ما وصلنا من أثر صحيح يحكي بالتواتر حقيقة عزل أمير المؤمنين عمر لوالٍ من وُلاته لمجرد أنه كان لا يلاعب أطفاله.
ولربما كان التصديق هنا من أكبر المؤشرات الحقيقية التي تجعل المناهج الإسلامية التربوية والأخلاقية في منأى عن الرمي رجما بالغيب وتهمة إلصاق أي ذميمة ومقبوحة سلوك بإسلامنا ذلك العظيم المجحود في غير إنصاف ولا تجرد، نسأل الله الرد الجميل...