أمّن جبهتك الداخلية - جهاد النفس

محمد فتحي عبد السميع رزق

جهاد النفس هو المقدمة الطبيعية والتمهيد الأولي الذى لابد منه لجهاد أكبر وهو جهاد العدو.

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

جاء فى مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نادى على الأحنف بن قيس -رضي الله عنه- وقال له يا أحنف: أعن أمير المؤمنين على هذا الجمل –أى ساعدنى على ذبحه- فإن فيه حق للضعيف والسائل وابن السبيل!! فقدم إليه وشمّر، فلما رآه أحد الصحابة قال: يا أمير المؤمنين هلا استعنت بعبد من عبيد الصدقة يكفيك أمره؟؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: ويحك ومن أعبد منى ومن الأحنف؟؟ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين.

وندور في فلك تلك القصة حول أمور منها:

  • القائد الحق من قاد نفسه.
  • جهاد النفس من لوازم جهاد العدو

القائد الحق من قاد نفسه؛ تخيلوا عمر رضى الله عنه مع ما له من سلطان وما له من كنف لا يأنف أن يخدم المسلمين بيده وأن يفعل ما يظنه بعض العوام من الضعة وتقليل الشأن. وما هذا كله إلا لجهاد نفسه رضى الله عنه.

إن النفس البشرية بطبيعتها تحب الراحة والكسل والدعة، وتنفر من البذل والاجتهاد والعطاء فهى الأمارة بالسوء الناهية عن الخير وهى الحقيقة التي قررها رب النفس والمحيط بأسرارها: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]؛ قال عنها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]؛ لذا كانت مخالفتها نوعا من أنواع الحرمان الذى يرقى فى سكرته سكرة الموت. قال حاتم الأصم: "الموت الأحمر: مخالفة النفس" ولا سيما فى زماننا هذا وقد كثرت المغريات وتهافتت النفس على اللذات فالنفوس قد تغيرت والزمان الحاضر ليس كالماضي فى صلاحه وتقواه ومن ثم كان الثواب اليوم أعظم والأجر أوفى ولقد جاء ذلك فى قول الإمام عبد الله ابن المبارك: "إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره؛ ينبغى لنا أن نكرهها عليه" والأجر على قدر المشقة.

وأسأل مدى الجهد والكلفة التى يعانيها المرء ليقف بنفسه عند أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب وحدوده بعدم التجاوز؟ وماذا لو أدرك ابن المبارك زماننا فما عساه يقول؟

لهذا لا عجب إن وصف -صلى الله عليه وسلم- مخالفة النفس وترويضهاإواعدادها بأقوى الألفاظ؛ وشبه صراع المرء مع نفسه بالجهاد وشبهه فى حربه معها بالمجاهد؛ حيث قال: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» (رواه أحمد، وابن حبان، والطبراني، والحاكم)؛ وقال الله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:73]؛ قال ابن المبارك فى تفسيرها: "هو جهاد النفس والهوى"

ولكن ما الجامع بين جهاد النفس وجهاد العدو؟

الجواب: أن جهاد النفس هو المقدمة الطبيعية والتمهيد الأولي الذى لابد منه لجهاد أكبر وهو جهاد العدو والانتصار عليه ويشهد لهذا قول عبد الله بن عمر رضى الله عنه لمن سأله عن الجهاد: "ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها"؛ لأن المرء مالم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه؛ فإذا بها متمردة على طاعته ومتكبرة عن الانقياد له ونافرة منه عند كل نزال؛ فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه إن غلبته نفسه التى بين جنبيه؟ وكيف يتصور من تارك للصلاة مثلا ونفسه لا تطأطئ لربها بضع دقائق أن يكون له على قتال عدوه صبر ساعة من نهار؟

ولهذا كان جهاد العدو أيسر من جهاد النفس وجهاد النفس أصعب من ملاقاة الأقران فى ميادين النزال لأنك لن تحقق النصر على العدو بالجبهة الخارجية إلا إن صاع لك المتمرد بالجبهة الداخلية وتلك أحوال الدول.

فاعتبر جسدك دولة وحده، القلب سلطانها والعقل وزيرها والجوارح جنودها وشعبها فإن انقادت لك نفسك فالغلبة على ما سواها أيسر وأهون؛ يقول بن القيم: "اعلم أن جهاد النفس أكبر من جهاد الاعداء لأن النفس محبوبة وما تدعو إليه محبوب لأنها لا تدعوا إلا لما تشتهى وموافقة المحبوب فى المكروه محبوبة، فكيف إذا دعا إلى محبوب؟! فإذا عكست الحال وخولف المحبوب فيما يدعو إليه من المحبوب اشتد الجهاد وصعب الأمر، بخلاف جهاد العدو إذ الطباع تحمل على خصومة الأعداء"

ولهذه المشقة وتلك الصعوبة كانت البشرى من الله لمن جاهد نفسه ولم يتبعها هواها قال الله – عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]؛ فالخطوة الأولى عليك؛ ثم يأتيك العون الإلهى من حيث لا تحتسب؛ ويقول الحسن البصرى – رضي الله عنه - فى موعظة ألقاها على مسامع الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- قال فى ختامها: "واعلم أن أحب الأعمال إلى الله ما أكرهت عليه النفوس"

فالمؤمن العاقل كما يقول بن الجوزى- رحمه الله - هو من "لا يترك لجام نفسه ولا يهمل مقودها بل يرخى لها فى وقت وخطامها بيده فإذا رآها مالت ردها باللطف فإن ونت وأبت فبالعنف فالنفس كالمرأة الناشز تداوى عند نشوزها بالوعظ فإن لم تصلح فبالهجر فإن لم تستقم فبالضرب وليس فى سياط التأديب أجود من سوط عزم"

فينبغى لمن رآها تسكن للخلق وتتعرض للدنئ من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول: ألست التي قال الله فيك: خلقتك بيدى، وأسجد لك ملائكته، وارتضاك للخلافة فى أرضه، وراسلك واقترض منك واشترى. فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة وتؤلمك بقة؛ وإن رأى تقصيرها عرِّفها حق السيد على العبد؛ وإن ونت فى العمل حدثها بجزيل الأجر؛ وإن مالت إلى الهوى خوفها عظيم الوزر؛ ثم حذرها عاجل العقوبة الحسية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}[الأنعام:46] والعقوبة المعنوية كقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:146].

وإنما كان عمر- رضى الله عنه - بهذه الدرجة من العدل والقسط وقضاء حوائج الناس لأنه جاهد نفسه وألزمها جادة الحق وأكرهها على التواضع فقد جمع الناس يوما وخطب فيهم قائلا بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "لقد رأيتنى وأنا أرعى غنيمات لعمة لى من بنى مخزوم؛ وظل يذكر الناس بما كان عليه قبل أن يولى عليهم حتى لا يعجب بنفسه أو يغتر بسلطانه وكان يعلم ولاته ذلك.

ومن ذلك: بلغ عمر - رضي الله عنه - أن والى حمص عبد الله بن قرط اتخذ علية (غرفة عالية عن الناس) احتجب فيها عن الناس فأمر أن يحرق باب العلية واستدعى عبد الله بن قرط – فلما جاءه أبى عمر مقابلته وقال لعماله احبسوه عنى ثلاثة أيام ثم أدخلوه علّي. ففعلوا حتى إذا كان بعد ثلاث استحضره وقال له: يا ابن قرط الحقني إلى الحرة (وكان بها إبل الصدقة وغنمها) حتى إذا جاء الحرة ألقى عليه جبة وقال له انزع ثيابك واتزر بهذه ثم ناوله دلوا وقال: اسق هذه الإبل، فصدع بالأمر ولبى وظل يسقى الإبل حتى نصب وتعب من العمل، فقال له عمر: يا ابن قرط: متى كان عهدك بهذا؟! فقال: مليا (أى منذ زمن بعيد لم أرع الإبل) قال عمر: "فلهذا بنيت العلية وأشرفت بها على المسلمين والأرملة واليتيم؟ ارجع إلى عملك ولا تعد".

فانظر كيف ذكره ببداوته وذل نفسه لتخضع حتى لا يحمله المنصب على الكبر والتعالي على الناس.

رحم الله عمر رضي الله عنه ومن اقتفى أثره؛ جاهد نفسه حتى ملك خطامها فانقادت له نواصي الحادثات فبلغ بالإسلام الصياصي والذرا

______________
بقلم/ د محمد فتحي عبد السميع – كلية أصول الدين – جامعة الأزهر