نماذج من وحدة الأمة في حياة النبي وعصر الراشدين
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام مليئة بالنماذج الرائعة التي يظهر فيها أثر الوحدة والترابط بين المسلمين، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على تربية المسلمين على هذا المعنى من الحب والترابط والأخوة.
- التصنيفات: أخبار السلف الصالح - التاريخ الإسلامي - قصص الصحابة -
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام مليئة بالنماذج الرائعة التي يظهر فيها أثر الوحدة والترابط بين المسلمين، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على تربية المسلمين على هذا المعنى من الحب والترابط والأخوة.
ومن هذه النماذج:
1- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
لقد اعتبر الإسلام المؤمنين كلهم أخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10]، وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم والتناصر في الحق بينهم. وعندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة واجهتهم مشاكل متنوعة، اقتصادية واجتماعية وصحية، فمن المعروف أن المهاجرين تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، كما أن مهارتهم كانت في التجارة التي تمرست بها قريش، ولم تكن في الزراعة والصناعة، وهما يشكلان أساسين مهمين في اقتصاديات المدينة.
وبما أن التجارة تحتاج إلى رأس المال، فإن المهاجرين لم يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع الجديد بسهولة، كما أن علائق المهاجرين بالمجتمع الجديد كانت حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة؛ مما ولَّد إحساسًا بالوحشة والحنين إلى مكة، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون، بل أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحقَّ الذكر في كتاب الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر من الآية:9].
وقد بلغ مكارم الأنصار حدًّا عاليًا عندما اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسِّم نخلهم بينهم وبين المهاجرين؛ لأن النخل مصدر معيشة الكثيرين منهم، على أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفطوا بها لأنفسهم، على أن يُشرِكوا المهاجرين في التمر، كما وهبت الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل فضل في خططها، وقالوا له: إن شئت فخُذْ منا منازلنا. فقال لهم خيرًا، وابتنى لأصحابه في أراضٍ وهبتها لهم الأنصار، وأراض ليست ملكًا لأحد.
وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين، فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار؛ فعن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلًا من كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: «
» (مسند أحمد؛ برقم: [13275]).وقد طابت نفوس الأنصار بما يبذلونه لإخوانهم المهاجرين من عون، وتصوِّر بعض الروايات عمق التزامهم بنظام المؤاخاة وتفانيهم في تنفيذه، فمن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة ما حدث بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف المهاجري، حيث قال له سعد: "إن لي مالًا فهو بيني وبينك، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها، فإذا حلت فتزوجها". قال: "بارك الله في أهلك ومالك، دلوني على السوق.." (السنن الكبرى للبيهقي؛ برقم: [14476]).
ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة (السيرة النبوية الصحيحة؛ ص: [241]).
والشاهد من هذا النموذج -كما يقول العلامة محمود شاكر في كتابه (التاريخ الإسلامي)- أن يشعر المسلم منذ أن يعتنق الإسلام ويدخل الإيمان إلى قلبه أن المسلمين جميعًا أخوة له {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10]، يرتبط بهم أشد الارتباط، ولا رابطة تجمعه إلى هؤلاء المؤمنين إلا الإسلام، أينما كانت ديارهم، ومهما كانت قومياتهم ولغاتهم، وأنه بدخوله في الإسلام قد اكتسب جنسية جديدة وانتسب إليها، وأنه قد خلع عند عتبتها كل ما كان يحمله من صفات جاهلية أو رواسب قديمة، وأن جميع أتباعها يبادلونه هذا الشعور ويحبون له ما يحبون لأنفسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري؛ برقم:[13] في كتاب الإيمان).
وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية والعلاقات المتبادلة، وأن المسلمين هم إخوته الحقيقيون، لا أشقاؤه من غيرهم.
2- يا للأنصار، يا للمهاجرين!
كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «صحيح مسلم؛ برقم: [2584]، الصلابي، السيرة النبوية؛ ص: [255]).
» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: « » (ووجه الدلالة في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر هذه المناداة؛ لما تشعره من معنى العصبية، مع أن المنادِي استعمل اسمًا استعمله القرآن وهو (المهاجرين) و(الأنصار).
فالمهاجريُّ استنصر بالمهاجرين مع أنه هو الذي كسع، فكأنه بندائه هذا يريد عونهم؛ لاشتراكه وإياهم بمعنى واحد وهو (الهجرة). وكذلك الأنصاري استنصر بالأنصار؛ لأنه منهم ويشترك وإياهم بوصف واحد ومعنى واحد وهو مدلول كلمة (الأنصار). وكان حق الاثنين -إذا كان لا بد من الاستنصار بالغير- أن يكون الاستنصار بالمسلمين جميعًا.
وعلى هذا، فالمطلوب من المسلمين التأكيد على نبذ العصبية بجميع أنواعها، سواء كانت عصبية تقوم على أساس الاشتراك بالقبيلة الواحدة، أو على أي أساس آخر من بلد أو مذهب أو حزب أو عرق أو لون أو دم أو جنس، وأن يكون الولاء والتناصر على أساس الاشتراك بالأخوة الإسلامية التي أقامها وأثبتها واعتبرها الله تعالى بين المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10]، وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصرًا على الحق لا على الباطل، بمعنى أن ينصروا المحقَّ وأن يكونوا معه، لا مع المعتدي.
3- يوم السقيفة:
من أعظم المواقف التي ظهرت فيها وحدة هذه الأمة موقف السقيفة، والتي لولا عناية الله بهذه الأمة لكانت الكارثة التي تعصف بهذه الأمة. إذ لما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى في سنة إحدى عشرة من الهجرة، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، وحدث الخلاف بين المهاجرين والأنصار على إمرة المؤمنين، وحفظ الله تعالى وحدة المسلمين في هذا اليوم العصيب.
ولنقرأ ما كتبه ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ): "لما سمع عمر الخبر أتى منزل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إليَّ، فأرسل إليه إني مشتغل، فقال عمر: قد حدث أمر لا بُدَّ لك من حضوره. فخرج إليه فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة، فقال عمر: فأتيناهم وكنت قد زوَّرت (أعددت) كلامًا أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر، وتكلم بكل ما أردت أن أقول.
فحمد الله وقال: إن الله بعث فينا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته ليعبدوه ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم وتكذبيهم إياه، وكل الناس لهم مخالف زأر (صوت الأسد) عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف (بغض) الناس لهم، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جُلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة، ولا تُقضى دونكم الأمور.
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة، وذوو البأس والنجدة، ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، أَبَى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.
فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم، ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة على من ينازعنا سلطان محمد، ونحن أولياؤه وعشيرته.
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصبيكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم من هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين، والله لئن شئتم لنعيدَنَّها جذعة.
فقال عمر: إذن ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيده: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدَّل وغيَّر.
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير، فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله وإن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، إلا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا.
فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك. وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد فبايعه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب.
4- عام الجماعة:
ومن المواقف الرائعة في شدة الحرص على وحدة الأمة حرص الحسن بن علي بن أبي طالب على وحدة الأمة وعلى حقن دماء المسلمين حيًّا وميتًا رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد جاء في (البداية والنهاية) لابن كثير رحمه الله:
فإن الحسن بن علي لما صار إليه الأمر بعد أبيه، وركب في جيوش أهل العراق، وسار إليه معاوية، فتصافا بصفين.
فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرنها. فقال له معاوية: أي عمرو، إن قُتِل هؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس.
فقال لهما: اذهبا إلى هذا الرجل (يعني الحسن)، فاعرضا عليه، وقولا له فاطلبا إليه.
فأتياه فتكلما معه، وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك.
قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فصالح.
فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «صحيح البخاري؛ برقم: [2704]).
» (فمال الحسن بن علي إلى الصلح، وخطب الناس وخلع نفسه من الأمر، وسلَّمه إلى معاوية، وذلك سنة أربعين، فبايعه الأمراء من الجيشين، واستقل بأعباء الأمة، فسُمِّي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد.
وأعجب من ذلك حرصه رضي الله عنه على وحدة المسلمين حتى بعد وفاته، فإنه خاف رضي الله عنه أن يكون موته ودفنه سببًا في إحداث فتنة بعد موته، فوصَّى وهو في مرض الموت أن يدفن عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تُخاف فتنة، فينقل إلى مقابر المسلمين، فلما مات استأذن الحسين عائشة فأذنت له، فلما أرادوا دفنه عند النبي صلى الله عليه وسلم قام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وشيعتهم، ومنع ذلك، فأراد الحسين الامتناع والإصرار على دفنه عند النبي صلى الله عليه وسلم.
فقيل له: إن أخاك قال: إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين، وهذه فتنة. فسكت، ودُفن رضي الله عنه في مقابر المسلمين.
فما أعظم هذا الفهم الرائع لوحدة المسلمين! وما أروع هذا الحرص الشديد على جمع كلمة المسلمين، وعدم إحداث فتنة في صفوف المسلمين حتى بعد موته رضي الله عنه وأرضاه.
د. إبراهيم جبريل
رئيس جمعية اتحاد علماء جنوب إفريقيا