(4/ 5) الدولة المدنية، التي تقابل الدولة العسكرية
أبو محمد بن عبد الله
هذا النوع من الدولة لا يرفضه الإسلام لذاته ولا يقبله لذاته، وإنما يجعل شروطًا ويتّخذ احتياطات! يجعل شروطًا لقائد الأمة وحاكم الدولة، فمن توفَّرت فيه شروط القيادة الصالحة، ونال أكثرها كان أولى الناس بها...
- التصنيفات: مذاهب باطلة - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
3- الدولة المدنية، التي تقابل الدولة العسكرية:
على هذا المعنى تكون الدولة المدنية هي التي يرأسها رجل مدني شعبي غير عسكري ولا متعسكر، ومعنى المتعسكر أن يكون العسكر يحكم من خلال رجل مدني مُسَخَّر، فيكون أداة من الأدوات العسكرية ولا يتمتع من المدنية إلا باللباس المدني وربطة العنق!
وهذا النوع من الدولة لا يرفضه الإسلام لذاته ولا يقبله لذاته، وإنما يجعل شروطًا ويتّخذ احتياطات! يجعل شروطًا لقائد الأمة وحاكم الدولة، فمن توفَّرت فيه شروط القيادة الصالحة، ونال أكثرها كان أولى الناس بها، ولا يضرّ أن يكون عسكريًّا أو غير عسكري. وخاصة أن في صدر الإسلام لم يكن التفريق الواقعي ظاهرًا بين (المدني) و(العسكري). فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- القائد الأعلى للشعب القوات المسلحة، وكان عمر- رضي الله عنه- القائد الأعلى للشعب وللقوات المسلحة حين افترقا..
ولم أكتب الواو في الأولى، لأن الشعب كان هو القوات المسلحة، فجعلتُها وصفًا له، بينما في عهد عمر بدأ تجنيد الجند وعسكرة العسكر، ولذلك عطفتُها عليه، فجعلتها قسيمة له.. رغم أنه لم يكن هناك الاختصاص العسكري الحادث اليوم، فكما كان النبي– صلى الله عليه وسلم- القائد العسكري المُحنَّك، كان أيضًا الرجل الروحاني الشفيف العابد، قوَّام الليل حتى تتفطّر قدماه شكرًا لله، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»(البخاري في صحيحه، برقم:[1130]، ومسلم في صحيحه، برقم:[2819])، الصائم النهار حتى يقال: لا يُفطر، وكان من بعده من الخلفاء يتَّصفون بهذه الصفات، فاعتدلت شخصياتهم بهذا التوازن بين القوة المادية والقوة الروحانية.
كما أنه لم يكن في الشَّعب الاختصاص العسكري المؤسسي كاليوم، فاعتزاز القائد بعسكره دون الشعب المدني كان أمرًا متعسرًا، وانقسام ولاء الناس بين الولاء للقيادة العسكرية لدى الجيوش، والولاء للقيادة المدنية لدى المواطنين المدنيين، لم يكن له وجود ولا أسباب.
والمَلْحَظ الذي لاحظَهُ الرجل الملهَمُ أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-؛ فقام بعزل العسكري الصِّرف خالد بن الوليد-رضي الله عنه- من قيادة الجيش يشير إلى أنَّ الذي تَغْلِب عليه العقلية العسكرية، وتتبعها الخُلُقية العسكرية لا يصلح لقيادة الأمصار في الحالة الاجتماعية والمدنية. وخالدٌ كان شديدًا([1])، وفي سيفه رَهَقٌ للناس، صاحب نزعة عسكرية، يكاد لم يُهزم في معركة قطّ، لا في جاهلية ولا في إسلام؛ ولا بد لذلك من سبب سابق، ولا بد لذلك أيضًا من أثر لاحق. لذلك عزله عمر-رضي الله عنه- وولَّى أمين الأمة أبا عبيدة-رضي الله عنه-، لِما فيه من الهدوء والرِّقة واللين والسَّماحة، ولما يتمتع به من العقلية الاجتماعية المدنية، وهي صفات تعين على حسن الرعاية للرعية خارج المعركة العسكرية أيضًا؛ لأن الانتصارات العسكرية كانت تعقبها تجمُّعات مدنية، في شكل مدن وأقاليم وأمصار، فكلما فتحوا مدينة أقاموا فيه حكومة تَسْيير وهيئات إدارية ومحاكم قضاء. يعني أن الأمر بين قيادة عسكرية، وقيادة مدنية، ولكلٍّ رجالها، و«كل ميسر لما خلق له»(البخاري، صحح البخاري، رقم: [6596]، ومسلم، صحيح مسلم، رقم: [2649])..
فأخلاقيات القيادة السياسية المدنية الشعبية، تحتاج إلى اللطافة واللياقة واللباقة، والعطف والحنان واللين، والتوؤدة والرزانة، والأبوة والرحمة والشفقة، وتحتاج أن تتمتع بشمول تفكير وشمول تصرف، بعد ذلك يأتي الحزم والحسم، أما القيادة العسكرية فحادّةٌ كسيفها، وحارة كنارها.
ومع هذا العزل مِن عمر لخالد-رضي الله عنهما- أَمَرَ أبا عبيدة أن يستشير خالدًا في اختصاصه، ويستعين به في فَنِّه؛ فـقد "جَمَع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد رضي الله عنهما"([2])، وبهذا تجتمع طاقات الأمة على إصلاحها، وتتَّحد أدوات الدولة على بنائها.
ولكن الجديد في هذه العصور المتأخِّرة قِلَّةُ الدِّين وقلة والرُّجولة، وقلت الأمانة وقلة العدالة، ولذلك إذا قويت السواعد وامتلأت الأيدي بالأسلحة، وانساقت قطيع الجند وراء قائدها، وانصاعت لأوامره؛ فحالهم عندئذ كحال من تغَنَّت به الشعراء قَبْلا:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم * * * في النائبات على ما قال برهانا
وقول الآخر:
وهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوَتْ *** غَوَيْتُ، وإن ترشد غزيةُ أرشدِ
وليست منهم الطاعة في المعروف، وإنما في العسكرية! ظنُّوها تربية على الجندية، ولكنها تربية على عبودية غير سوية. فلمِثل هذا السبب كان لا بد للشعوب عمومًا وللإسلاميين خصوصًا أن يحتاطوا لهذا الأمر، ويجعلوا كفَّةَ تَوَازُن اجتماعية لهذه القوة، فيحرصوا أن يُضيقوا من عسكرة الدولة ما ساتطاعوا إلى ذلك سبيلًا، تجنُّبا لهذا الأمر واحتيَاطا له، لا تَدَيُّنًا به، وإنما مصلحة وسياسة.
ثم إن في هذه العصور لا يخلو مترشح من انتماءٍ حزبي أو طائفي، ظاهرًا أو خفيًّا، أما الجيش فالأصل أن ألاَّ كون منتميًا ولا متحزِّبًا إلا لمصلحة الوطن ذاته، وللوطن كله، وللمواطنين أجمعين، حارسًا لحدوده، حاميا لبيضته، حافظًا لحوزته، منتميًا لمواطنيه كلِّهم، ولا يتدخَّل بين الفرقاء ولا الرفقاء. يقف على مسافة واحدة من المواطنين. وهذا نفسه يستدعي ألا يكون حاكم البلاد عسكريًّا ولا منحدرًا من مؤسسته العسكرية، لأن الحنين لا بد يؤثِّر، والأصل لا بد يجذبُ، والولاء الخاص لا بد من وجوده، فحسمًا لمادة عسكرة الدولة في قليل ولا كثير، لا بد أن تُسَدَّ الذريعة إليه.
ومن هذا الباب يُنظر لمدنية الحاكم بعين الاعتبار، لأنها تحقق أمْرَين، أحدهما له، والآخر عليه، وكلاهما للأمة:
الاعتبار الأول: أن كَونَهُ مدنيًّا أنه جاء باختيار الشعب ورضاه، لا بتعيين العسكر أو تسلُّطِه أو تغَلُّبه أو انقلابه من وراء الجدر الحديديه من دبابات وطائرات وكُتل بشرية تُسمّى الجيش! وقد يوصف الجيش بالعظيم، وإنما تعاظمه على عُزَّل شعبه! أو من وراء ترسانة إدارية غير محايدة، أو آلة إعلامية مأجورة، لا تقل جنديتها عن جندية العسكر، ولا خطورتها عن خطورة ناره.
وهذا الحاكم المدني من هذا النوع يكون مَحميًّا من توجيه العسكر بحماية الشعب وإسناده، لأنه جاء باختيار الشعب لا بتعيين العسكر، ويكون في خدمة الشعب، وعندئذ يصبح العسكر شعبًا من الشعب، وليس فوق الشعب. وحق الشعب في الاختيار لا بد له من قوة تحميه، وليس- في عالَم الأسباب- أفضل من قوة الشعب ذاته يحمي نفسه وحقَّه، ويصبح العسكر مُلكًا للشعب وخادمًا له، وليس العكس.
الاعتبار الثاني: أن كَوْنَه مَدنيًّا أنه جاء باختيار الشعب وتوكيله، ولصاحب التوكيل أن يسترده إذا اقتضى الأمر، وخرج الوكيل عن حدود التوكيل. وهذا بدوره يجعل الحاكم يحاذر غضب الناس– وإن لم يكن تقيًّا-، فحتى لو لم يعمل لمرضاة الله، ولم يحقق العدالة الاجتماعية لوجه الله، ولم يرعَ حقوق الناس تقرُّبًا إلى الله، ويضعف فيه الوازع الديني، فإنه رغبة في الشعب أو رهبة منه يعتدل، خوفًا من أن يعتزل؛ فتتحقق مصلحة الشعب، وأمَا نفسه فهو ونيته، كما قال النبي صلى اله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»( البخاري برقم:[1]، ومسلم برقم:[45] في صحيحيهما). ثم إنَّ كونه مدنيًّا شعبيًّا وابن الشعب فإنه يأوي إليه من تهديد العسكر، ليكون الشعب قوة تحمي حق الرئيس وما يدعو إليه الرئيس من حق. فهو أمر متبادَل بين الطرفين.
وإنما نجد الشعوب تنفر من حكم العسكر لِما أذاقهم العسكر من قهر واستعباد، خاصة في مراحل ما بعد (التحرر من الاستعمار الخارجي)، فتجارب شعوب العالم المعاصر مع الحُكام العسكريين جعلها تكاد تكفر بالعسكر، رغم أن وجود العسكر ركن في البلاد، وبدونه فلا دولة، غير أنه لا مقام له في السياسة، أو الانحياز السياسي.
وبمنتهى الصراحة: تُرفض الدولة العسكرية مَصْلَحِيًّا لا دينيًّا، والدين نفسه من زاوية المصلحة- لا من زاوية التعبُّد- يرفض كل مفسدة، ويقطع الطريق المؤدية إليها، ويُسمِّية في قواعده الشرعية: "سدّ الذرائع" و "درء المفاسد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر: أبو العباس ابن تيمية السياسة الشرعية (المتوفى: 728هـ)، في السياسة الشرعية: 16، وانظر : مجموع الفتاوى له: (28/258).
2- ابن كثير(المتوفى: 774هـ)، البداية والنهاية،، ط 1(1408هـ - 1988م)، دار التراث العربي، 7/108.
سبقه المقالات:
* الدولة المدنية مقدمة وتعريفات
1 الدولة المدنية المتحضرة المتطورة
2- الدولة المدنية المادية اللاروحية
ويتبع بإذن الله تعالى....