(5/ 5)- الدولة المدنية اللادينية؛ التي تقابل الدولة الدينية

أبو محمد بن عبد الله

هي الدولة اللادينية، أي التي ترفض الدين من حياتها، ولا تقبل له تَدَخُّلا في تسيير شؤون الناس وضبط حياتهم وفق الشرائع الإلهية، ويسمونها الدولة العَلمانية، وبعض الناس ينطقها العِلمانية بكسر العين، وهي لا علاقة لها بالعِلم

  • التصنيفات: الفرق والجماعات الإسلامية -

  4 - الدولة المدنية: التي تقابل الدولة الدينية:

مرّ معنا في الحلقات السابقة ثلاثة أنواع للدولة المدنية، أو ثلاثة مفاهيم لها، هذا هو النوع الرابع من أنواع الدولة المدنية؛  وهي الدولة اللادينية، أي التي ترفض الدين من حياتها، ولا تقبل له تَدَخُّلا في تسيير شؤون الناس وضبط حياتهم وفق الشرائع الإلهية، ويسمونها الدولة العَلمانية، وبعض الناس ينطقها العِلمانية بكسر العين، وهي لا علاقة لها بالعِلم، فأصل الكلمة عَـالمانية؛ (بفتح العين ومَدِّها)، أي عالَم دنيوي لا ديني، ثم اختُصِرَت- عربيًّا- إلى عَلمانية، ومعناها عند أهلها وفي قواميسهم ودوائر تعريفهم: "اللادينية أو الدنيوية، أو الاتجاه الذي لا يَعتبر الدين، ولا يهتم به، ولا يقيم له وزنًا في شؤون الحياة الدنيا "والدنيوية التي تُرجمت بالعَلمانية لا تؤمن بشيء وراء الدنيا([1])، فأصدق تعريفات العلمانية وأصرحها أنها "مذهب هدَّام يراد به فصل الدين عن الحياة كلها وإبعاده عنها، إما قهرًا، ومحاربته علنًا كما فعلت الشيوعية، وإما بالسماح به وبضده من الإلحاد كما هو الحال في الدول الغربية أو من قلَّدها من العربية، وتسمية ذلك حرية شخصية وديمقراطية"([2]).

فكونها لا دينية يعني أنه لا دين لها أو لا دين فيها، وهي أشد أنواع البعد عن الدِّين، فحتى عند الإسلاميين، ينبغي أن تكون الدولة النصرانية، أقرب إليهم من الدولة العَلمانية، لأنها دولة كتابية- لو تُصُوِّرَ وجودُها-، والأخرى صابئة عن الأديان جميعِها([3]). على حدِّ قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة الروم: 2-4].

إن دولة الإسلام دولة دينية، بل قامت من أجل إقامة الدين وسياسة الدنيا به. وهي دينية بمعنى أنها تنطلق من الدين وتحكم به على منهج الإسلام وسَننه، لا على منهج الكنيسة! فليس لدُعاته ولا لعلمائه ولا لحكّامه قداسة، ولا مسحة من ألوهية، ولا هم يحكمون أو ينطقون باسم الإله، ولا أحد منهم يُعطِي صكوك الغفران. بل هم وسائر الناس سواء، كلهم عبيد لله، محكومون بشرعه، يخضعون للمراقبة والمحاسبة. حتى النبي-صلى الله عليه وسلم- قال له الله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[ الزمر: 65]، وقال له-سبحانه-:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب: 2]، ولمَّا اقترح عليه الناسُ تعديلَ الدستور الرباني من عنده جاء الرَّد حاسمًا، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[ يونس:15].  واللذين لا يرجون لقاء الله تعالى هنا هم العَلمانيون، الذين يقترحون على الرسول أن يبدِّل منهج الله ويحكمهم بغير شريعته، فليس له أن يُعدِّل من الدستور بمحض إرادته، ولا له أن يخرج عنه ويعلو عليه، في حين يريد للناس أن يقدِّسوه أو يُقدِّروه! ويكفيه التصرف فيما تركه الله تعالى للناس للاجتهاد، ومن المصالح المرسلة، ولأمور الدنيا التي يمكنهم أن يَصِلُوا فيها باجتهادهم إلى تمييز المصلحة والمفسدة. وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يُلَقِّحُون النخل، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شِيصًا(رديئًا)، فمر بهم فقال: «ما لِنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(مسلم، صحيح مسلم، برقم :[2363])، وفي رواية: «إذا كانَ شيءٌ من أمرِ دُنياكم؛ فأنتُم أعلمُ به، فإذا كانَ من أمر دينكم؛ فإليَّ»(أحمد في مسنده، برقم:[12544]، والألباني في السلسلة الصحيحة، برقم:[3977]).، فما ليس له طريقٌ إلا الوحي، فأمره إلى الله ورسوله في شريعة الإسلام، وما كان طريقه العقل الصريح والتجربة المحضة من دنيا الناس؛ فإلى الناس في إطار الكليات، وقد تبيَّنت مجالات العقل والاجتهاد في الفقه الإسلامي بما لا يدع مجالا للتلاعب، يُجملها في التفريق بين الأمرين قاعدةُ العلماء: "الأصل في العبادات التوقيف حتى يأتي الدليل المبيح، والأصل في العادات والمعاملات الحل حتى يأتي الدليل المانع"([4]) .

وهنا ينبغي أن نكشف مغالطة حول مفهوم الدولة الدينية، حيث إنه يوجد معنى مرفوض للدولة الدينية، لا مجال لإلصاقه بعقيدة الإسلام وشريعته، ويوجد معنىً مقبول للدولة الدينية لا مجال للمساومة فيه، أو تجريد الإسلام منه، مع مغالطات أخرى في هذا المجال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-  عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني، كـواشف زيوف في المذاهب الفكريّة المعاصرة، دمشق، دار القلـم، ط 2، 1412هـ/ 1991م،  163 .

2-  انظر: غالب بن علي عواجي، المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها، جدة، المكتبة العصرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، 2، 683.

3-  يقولون:"الأديان السماوية" وهذا من الأخطاء الشائعة، وإنما هو دين واحد، جاء به الأنبياء كلهم، بل كل نبي يبشر قومه بمبعث محمد-صلى الله عليه وسلم- ويأخذ عليهم العهد أن يؤمنوا به إن هو بُعث فيهم، وإنما اختلفت بينهم الشرائع التي كانت تتنزل على كل قوم حسب ظروفهم وأحوالهم، كما تختلف الشرائع في الرسالة الواحدة، كما في حالة النسخ، ففي مبدأ الدعوة تتنزل أحكام تناسب ظروف الناس، وفي حالة الدولة تتنزل أحكام أخرى تنسخ الأولى، لتَهَيُّؤ الأمة لأحكام أخرى، ومن ثم قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»[متفق عليه]، أما ما بأيدي أهل الكتابين اليوم، فغالب أديان أرضية وليست سماوية، لِما طالها من التحريف والتزييف والتبديل، قد تكفل الله بحفظ القرآن منه:"إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون".

4-  انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (ت 794هـ)، 8 /258.

سبقتها المقالات:

  *   الدولة المدنية مقدمة وتعريفات

1 الدولة المدنية المتحضرة المتطورة

2- الدولة المدنية المادية اللاروحية

3- الدولة المدنية اللاعسكرية